05-أبريل-2018

عائلتي تنعتني بابنة الحرام (Getty)

"نلوّج على ملامحه في الوجوه الكل، نثبت في الماشي والجاي لعلّ نلقى راجل يشبهني ينجّم يكون بابا"، بهذه العبارات تحدّث أحمد (اسم مستعار) عن والده الذي لا يعرفه.

أحمد بلغه نبأ أنه طفل ولد خارج إطار الزواج، وسلّمته أمّه إلى إحدى دور رعاية الأطفال لتضمن له قدرًا أدنى من العيش الكريم، في سن 18 عامًا، وقد مثّلت هذه الحقيقة الصادمة بالنسبة لمراهق في سنه حينها منعرجًا حاسمًا في حياته.

أحمد (شاب تونسي) انقطع عن الدراسة لأنه علم أنه مجهول النسب وانتشر الخبر في محيطه بسرعة

"لقيط".. لكنّني إنسان

يقول أحمد لـ"الترا تونس" إنّه عاش في رعاية زوجين لم يشكّ يومًا أنهما ليسا والديه البيولوجيين خاصة وأنه يحمل لقب والده بالتبني، مضيفًا "لم يكن يفصلني عن اجتياز امتحان البكالوريا سوى شهرين حينما تشاجرت مع أحد أبناء الجيران الذي يكبرني بسنوات عقب مباراة كرة قدم، ولما احتد الجدال وتحوّل إلى تبادل عنف نعتني بابن الحرام".

يتابع أحمد: "لم تثرني الكلمة في البداية رغم أنه أصرّ على إعادتها مرارًا وتكرارًا حتى قال صراحة أنت "كبّول" أي مجهول النسب وكنتَ في قرية للأطفال، وعندها اشتعل رأسي أسئلة وتركت شجاري مع ابن الجيران بلا نهاية واضحة تمامًا كحياتي".

لم يكن من السهل الاستماع إلى رجل تجاوز الثلاثين من عمره وهو يروي معاناته مع مجتمع تزر فيه الوازرة وزر الأخرى، ولم يكن من السهل أيضًا التواصل مع هذا الرجل الذي وجد في السكر ملاذًا.

يواصل أحمد الذي دأب على تبوّء زاوية تتاخم ملعب الحي الذي تسكنه العائلة التي تبنته، حديثه "يوم أخبرني ابن الجيران أنني لست ابن والدي، أحسستُ أنني لست فقط بلا نسب بل أيضًا بلا هوية، أحسستُ أنّ ابن الجيران نزع عني ملابسي وتركني عاريًا ربما كما تركتني والدتي البيولوجية على أعتاب قرية الأطفال مجهولي النسب".

لم يعد بالإمكان تمييز كلمات أحمد الذي كان يحاول أن يحبس عبارات أبت إلا أن تسيل فتلقّفها بكم قميصه وكذا مسح أنفه وانبرى يقول " كان الكل موجودًا حينما عرّاني ذلك اللعين ومن يومها لا يفوّت أحدهم فرصة التندّر على مجهول النسب، فحتّى والدي بالتبني لم يتردّد في أن يقول لي " مالك إلا كبّول وولد الناس لا تربيه يكبر وأصله يرجع عليه"، لأنني رددت الفعل على الإهانة التي ألحقها بي ابن الجيران بنوبة هستيرية في المنزل الذي آواني من خوف وأطعمني من جوع".

يضيف أحمد أن الحقيقة التي شكّلت له صدمة كانت أيضًا إجابة على أسئلة عديدة من بينها سبب انتقالهم من منزلهم القديم، وسبب أسئلة والدته " بش تبقى ديما تحبني حتى كان طلعت مخبية عليك حاجة، كان يطلعو غلطوا في السبيطار وبدلوك تمشي لأمك وإلا تبقى عندي". ويشير أحمد إلى أنّه ومنذ عرف الحقيقة تنتابه مشاعر متناقضة تجاه والدته وأحيانًا يشعر أن قادر على أن يعفو عنها وأنه بحاجة إلى حضنها وأحيانًا أخرى يشعر بالحنق ولا يهتم بمعرفة هويتها بقدر ما يهتم بمعرفة هوية والده لأنه في ظنه هو مهندس عملية مجيئه إلى هذه الحياة وأنّ امّه لا تعدو أن تكون ضحية لوعد بالزواج.

أحمد انقطع عن الدراسة لأن خبر كونه مجهول النسب انتشر بسرعة وصارت كلمة "كبوّل" ملتصقة به حيثما حل، وغادر منزل والديه بالتبني لأن والده ضاق ذرعًا بسكره وعربدته وصار لا يزوره إلا إذا اشتد به الشوق لوالدته.

وعما إذا كان قد حاول البحث عن والديه البيولوجيين، يقول أحمد "صدقًا لم أعد أرغب في التفكير في الظروف التي دفعتهم إلى التخلي عنّي، ولا يهمني أمرهما يكفيني أنّني بسببهما صرتُ موسومًا في حيّنا وكأنه كتب على جبيني لقيط". ويضيف: "أنا اليوم أتحمل وزر قرار طائش. أنا بنظر المجتمع رقم يضاف إلى عدد المواليد خارج إطار الزواج، أنا كبول ولكنني إنسان مثلهم وكلماتهم تؤلمني كثيرًا بل تقتلني، تخيلوا كم مرة أموت في اليوم وفي الشهر وفي السنة، رقم كبير جدًا كُبر الهوة بين معاملة الأطفال من زواج شرعي والأطفال خارج إطار الزواج".

وفيما ظل ّ أحمد خارج سياق المجتمع الذي ينبش في الجذور ولا يتوانى سدنة معبد الثوابت عن وأد أفراد لم يختاروا طريقة مجيئهم إلى هذه الحياة، تروي لنا ريم (اسم مستعار) معاناة من نوع آخر.

اقرأ/ي أيضًا: تسبب الأبوان في معظمها: 16 ألف إشعار بحالات تهديد للأطفال سنة 2017

ريم (طفلة تونسية): منذ أن بدأت أعي، أحسستُ أن أميّ تعاملني معاملة الجفاء والقسوة بينما تغدق الحنان على أختي

عائلتي تنعتني بابنة الحرام

ريم، فتاة تبلغ من العمر 17 عامًا، يوحي عمرها بأنها لا تزال طفلة ولكن حديثها ينمّ عن نضج ووعي، ربّما الوجع أنضجها. معاناة ريم لم تكن مع أترابها ولا جيرانها ولا المجتمع في مفهومها الشامل، معاناة ريم المتواصلة سطرها والداها البيولوجيان. ولدت الفتاة خارج إطار الزواج ونسبها والدها إليه ثم سارع ووالدتها في إجراءات عقد القران حتى لا تعاني الطفلة من تبعات فعلتهما.

ومن العاصمة، انتقل الزوجان وابنتهما إلى مسقط رأس والدة ريم حيث افتتحا مطعمًا وانطلقا في حياة جديدة، دون أن يعلم سر الأم سوى أفراد عائلتها إذ يعلم الجيران والمقربون أنها عقدت قرانها في منزل خالتها لظروف مادية.

تقول ريم لـ" الترا تونس" "منذ أن بدأت أعي أحسستُ أن أميّ تعاملني معاملة ملؤها الجفاء والقسوة، لا أتذكّر أنّها قبّلتني أو عانقتني وكذلك أبي وأقارب أمي. أشعر أنّهم لا يحبّونني وتعمّق هذا الشعور لما رأيت أمي تغدق من حنانها على أختي التي أنجبتها بعد ولادتي بـ5 سنوات".

تطلق زفرتين متتاليتين وتضيف: "لم أفهم السبب في البداية ولكن حينما بلغت سن الـ 15 عامًا سمعتُ جدّتي من أمّي تحدّث أختها بأنّه لولا ولادتي لما كانت أمي تزوجت أبي العامل اليومي وكانت تزوجت شخصًا آخر ميسور الحال، ربّما لهذا السبب أيضًا لا تحبّني أمي كثيرًا". وتشير ريم إلى أنّ والداها لا يفوتان مناسبة لنعتها "بابنة الحرام والكبولة واللقيطة"، ومثلهما يفعل أخوالها وجدّيها من أمها على اعتبار أن أهل والدها يقاطعونه منذ زواجه.

وتقول وهي ترتب خصلات شعرها إن جدّتها تكرّر على مسمعها أنها سمراء اللون وشعرها مجعّد لأنها ابنة حرام في حين أنّ اختها ابنة الحلال بيضاء ذات شعر أملس. وتحاول أن تلجم انفعالها وهي تروي كيف عنّفها خالها حينما رآها تمشي جنبًا إلى جنب مع زميلها في المدرسة. وتقول ريم إنّ اللكمات والصفعات التي انهالت عليها لم تؤلمها بقدر ما أوجعها وابل النعوت التي أمطرها به خالها.

اقرأ/ي أيضًأ: 12 حالة انتحار أو محاولة انتحار في صفوف أطفال تونس خلال فيفري 2018

 التقرير السنوي لنشاط مندوبي حماية الطفولة سنة 2017: عدد الإشعارات للأطفال المولودين خارج إطار الزواج ناهزت 898 إشعارًا 

تعضّ الطفلة أظافرها وتواصل حديثها "كان يضربني ويقول كب الطنجرة على فمها تطلع الطفلة لأمها فاش نستنو من بنت حرام ماي بش تعمللنا العار وتجيبلنا روسنا في التراب".

تضيف ريم، وهي ترتدي ابتسامة أمل، أنها تشعر بالغربة وسط أبويها وعائلتها ولكنّها رغم ذلك تحاول أن تتميز في دراستها وتتحصل على علامات جيّدة لتحقّق حلمها في أن تصبح طبيبة أطفال وتثبت لأمها وكل من حذا حذوها من العائلة أنّ الابنة التي يعيرونها بموجب أو دون موجب إنسان له طموحات وسيتعب من أجل تحقيقها. وتؤكّد أنها تحلم بالزواج وإنجاب أطفال تغدق عليهم الحنان الذي حرمه والداها منه في طفولتها، مبرزة أنّها لا تحقد عليهما وعلى أختها التي تحظى بحبّ الجميع بل تحبّهم جدًّا وتتمنى أن لا ينعتاها مجدّدًا بابنة الحرام، وفق قولها.

أزمة قانون أم عقلية

كشف التقرير السنوي لنشاط مندوبي حماية الطفولة سنة 2017 أن عدد الإشعارات للأطفال المولودين خارج إطار الزواج ناهزت 898 إشعارًا من مجموع 16158 إشعارًا ا ورد على المندوبية. وكثيرة هي حالات الأطفال الذين يحاسبهم المجتمع لكونهم نتاجًا لعلاقة لم يكونوا سببًا في حدوثها أصلًا، وغالبًا ما يواجه هؤلاء الأطفال واقعهم بهوية "ابن حرام"، يعترف القانون التونسي بحقّه لكنه أيضًا ينعته باللقيط أو ابن الزنا.

وتونس من بين الدّول التي تقدم تشريعاتها العديد من الحقوق للأطفال المولودين خارج إطار الزواج، إذ ينص الفصل 152 من مجلة الأحوال الشخصية على أنّ ولد الزنا يرث من الأم وقرابتها. وينص الفصل 77 من الكتاب السابع لمجلة الأحوال الشخصية المتعلّق بأحكام اللقيط على أنه "من تكفل بلقيط واستأذن من الحاكم وجبت عليه نفقته إلى أن يصير قادرًا على التكسب ما لم يكن لذلك اللقيط مال". فيما ينص الفصل 78 على أن اللقيط يبقى بيد ملتقطه ولا يأخذه منه أحد إلا إذا ظهر أبواه وحكم الحاكم لهما بذلك وورد في الفصل 79 أن ما يوجد من المتاع في حيازة اللقيط يبقى له وجاء في الفصل 80 أنه إذا مات اللقيط عن غير وارث رجعت مكاسبه إلى صندوق الدولة غير أنه يمكن للملتقط القيام على الدولة بالمطالبة بما أنفقه على اللقيط في حدود مكاسبه.

ويضمن القانون المؤرخ في 28 أكتوبر 1998 الذي تمّ تنقيحه بموجب قانون 7 جويلية 2003 المتعلق بإسناد لقب عائلي للأطفال المهملين أو مجهولي النسب، جملة من الحقوق للمولود خارج إطار الزواج على غرار النفقة والرّعاية من ولاية وحضانة.

ابتسام الجبابلي (نائب في البرلمان التونسي): عبارة لقيط الواردة في في الكتاب السابع من مجلة الاحوال الشخصية لا يمكن أن تكون توصيفًا قانونيًا متلائمًا مع المنظومة التشريعية الحالية

اقرأ/ي أيضًا: مونولوج الإجهاض: "لن أحمل مجددًا لأني لم أكبر بعد"

ويعطي هذا القانون الأمّ الحق في إثبات نسب طفلها الذي أنجبته خارج إطار الزواج الرسمي عبر التحليل الجيني أو توفر الشهود، وهو ما يمكن المولود من التمتع بكافة حقوق الابن الشرعي.

يذكر أنه تقدّمت مجموعة من النواب عن حزب حركة نداء تونس بمبادرة تشريعية لتنقيح الباب السابع من مجلّة الأحوال الشخصية. ففي هذا الصدد استمعت لجنة الصحّة والشؤون الاجتماعية بالبرلمان التونسي إلى النائب عن حركة نداء تونس ابتسام الجبابلي بصفتها ممثلًا عن أصحاب المبادرة ثم استمعت إلى ممثلين عن وزارة العدل.

وأكّدت ابتسام الجبابلي في تصريح لـ"الترا تونس" أن المبادرة لقيت استحسانًا ومن المنتظر أن يجمعها لقاء مع مختصين في الوزارة للعمل على صياغة الفصول الجديدة. وتعتبر المبادرة أن "عبارة لقيط الواردة في في الكتاب السابع من مجلة الأحوال الشخصية في الفصول 77 و78 و79 و80 لا يمكن أن تكون توصيفًا قانونيًا متلائمًا مع المنظومة التشريعية الحالية المتعلقة بالأطفال المهملين ومجهولي النسب"، وفق ما أفادت به الجبابلي.

وأوضحت أن عبارة لقيط تنطوي على تصنيف إقصائي لجزء من المجتمع وهم الأطفال مجهولو النسب او المهملون، معتبرة أن اعتمادها في مجلة الأحوال الشخصية هو من قبيل الإهانة الاجتماعية والمساس بحقوق الطفل. ورغم أن القانون التونسي يضمن جزءًا من حقوق المولودين خارج إطار الزواج إلا أنّه ينطوي على بعض التصنيفات التي من شأنها أن تكون مبررًا للسواد الأعظم من المجتمع الذي لا يزال يبخسهم حقوقهم وينظر إليهم بدونية. ولهذا بات تعديل هذا القانون ضرورة وذلك لوضع الخطوة الأولى في مسار تغيير عقلية المجتمع ومجابهة التمييز الذي يعاني منه المولودون خارج إطار الزواج.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حرية الضمير في تونس.. حبر على ورق الدستور؟

"تشليط"، كي وممارسات أخرى.. رعب أطفال تونس