08-مايو-2020

غالبًا ما تتأثّر الساحة الإعلاميّة بتدخل ظاهر وخفي من النخب السياسية والطبقات الماليّة (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

حافظت البلاد التونسية للسنة الثانية على التوالي على المرتبة 72 عالميًا وهي الأولى عربيًا في ترتيب المؤشر السنوي للعام 2020 لحرية الصحافة والتعبير وسلامة الصحفيين في التصنيف الذي شمل 180 بلدًا والصادر عن منظمة "مراسلون بلا حدود" المعنية بمراقبة حالة حرية الصحافة والتعبير في العالم. غير أنه رغم تنويه التقرير بالمكتسبات المحققة في هذا المجال بالبلاد التونسية بوصفها ''أهم إنجاز لثورة الياسمين في تونس''، ومع إقراره بأنه ''تم وضع الأسس الضرورية لإحداث تحول عميق تتخذ بموجبه وسائل الإعلام هياكل مهنية وحرة ومستقلة''، شدد على استمرار''المخاوف بشأن البطء الذي تتسم به عملية إعداد الإطار القانوني الجديد لقطاع الإعلام.

فمنذ نهاية عام 2019 وانتخاب رئيس جديد للجمهورية، سجلت "مراسلون بلا حدود" بقلق تدهورًا في بيئة عمل الصحفيين ووسائل الإعلام"، مثلما جاء في نص التقرير، والمعنى أن البيئة الإعلامية في تونس رغم تمكنها من تحقيق مكاسب تحررية جمة فإنها لا تزال تعاني من رواسب التقاليد المتوارثة في الممارسة الصحفية والتعاطي مع الصحفيين ومؤسساتهم والمادة الصحفية المنتجة من قبلهم مما يجعل تلك المكاسب التحررية تبقى رهيفة البناء وأن تهديدات الردة والانتكاس تبقى متوقعة نظرًا لهشاشة البيئة الإعلامية في تونس. وهو ما يجعلنا نخضع الحالة الإعلامية التونسية الانتقالية بعد ثورة 14 جانفي 2011 على محك الاختبار التحرري في ضوء قياس الحالة التحررية لأضلاع المثلث الاتصالي المحددة للبيئة الاتصالية ونعني بها الرسالة الإعلامية والجمهور المتقبل والمؤسسة الإعلامية وصناع المضامين بها حسب المقاربات التقليدية لدراسات الميديا.

اقرأ/ي أيضًا: ملف خاص: مستقبل الصحافة التونسية بعد انتخابات 2019

خرافة الإعلام محايد!

إن الادعاء بحياد الإعلام ليس إلا خرافة كما يرجح عالم الاتصال شترات لانس (Lance Strat) ذلك أنّ كل تكنولوجيا وسيطة لها تحيّزاتها، وهذا يعني أن سمة التحيز تمارس تأثيرها على كل العناصر الموجودة داخل البيئة الإعلامية في مختلف بلدان العالم بما في ذلك الأنظمة الغربية التي تسودها أنظمة المسؤولية الاجتماعية أو النظام الإعلامي الديمقراطي أو الأنظمة التشاركية الجديدة التي أفرزتها الميديا الجديدة والميديا الاجتماعية المحكومة في ذاتها بطابعها التفاعلي. فكيف إذا ما تعلق الأمر بأنظمة إعلامية سلطوية متوارثة جزئيًا أو كليًا تبعًا للأنظمة السياسية القائمة أو تلك المحكومة بالغرض التنموي وتبريراته على غرار ما هو قائم بالبيئة الإعلامية العربية  قبل ما يعرف بثورات الربيع العربي ولعل بعضها لا يزال ماثلًا إلى اليوم أو أنظمة أخرى هي قيد التشكل في ما اصطلح عليه بالنظام الإعلامي الانتقالي كما هو النموذج التونسي الذي مازالت شخوص بيئته الإعلامية تترنح بين إرادة التغيير التحرري والتعددي وضعف آليات الدفاع الذاتي والقانوني عن مكاسب الحرية الإعلامية بتعلات غياب التقاليد وحنين البعض إلى مغريات الماضي السلطوي.

متغيرات البيئة الإعلامية الانتقالية التونسية

إن مفهوم البيئة الإعلامية الحرة بالديمقراطيات الليبرالية للدول الغربية الأوروبية بشكل عام أسس لأنظمة إعلامية حرة يصدق عليه مفهوم ''السلطة الرابعة'' والتي تلعب دور الرقيب على السلطات الثلاث. أما في بالولايات المتحدة فوسائل الإعلام تلعب دور "السلطة المضادة'' أي أن السلطة السياسية تعتبر دائمًا مسؤولة أمام الإعلام. بيد أنه بالمنطقة العربية ظل في نظرنا بين واقع "السلطة التابعة" ضمن منظومة الإعلام الحكومي والرسمي للأنظمة السلطوية القمعية، أو خيار "السلطة القابعة" المنتظرة للمخاض التشريعي التحرري القانوني والفعلي ضمن منظومات الإعلام الانتقالي لدول ما يعرف بالربيع العربي وغيرها على غرار النموذجين التونسي والمغربي الذين شهدا حالات من الانفتاح الإعلامي وحريّة الصحافة، بينما يكمن أحد أبرز التحدّيات المتعلّقة بحرية الإعلام في المنطقة العربية، وبخاصّة في هذين البلدين، في مسألتي ملكيّة وسائل الإعلام والترويج أي الإعلان الدعاية.

غالبًا ما تتأثّر الساحة الإعلاميّة بشكلٍ محير بتدخل ظاهر وخفي من النخب السياسية والطبقات الماليّة التي قد تحتكر وسائل الإعلام والقطاع الإعلاني إشهارًا ودعاية

فمجرد إطلاق يد الخواص للاستثمار في مجالات الميديا ولاسيما المجال السمعي البصري لا يعني ذلك أن المعاير التعددية الدولية قد ضمنت الحقوق والحريات الإعلامية والاتصالية ولا سيما حقوق الجمهور إذا ما سلمنا باطمئناننا لحرية الممارسة الصحفية والعمل الصحفي. إذ غالبًا ما تتأثّر الساحة الإعلاميّة بشكلٍ محير بتدخل ظاهر وخفي من النخب السياسية والطبقات الماليّة التي قد تحتكر وسائل الإعلام والقطاع الإعلاني إشهارًا ودعاية، ومآلات ذلك لامحالة تدفّق مسيّس ومنحاز للأخبار والمعلومات تتأسس على الدعايات المبطنة التي يكون الجمهور ضحيتها الأولى، بفعل التلاعب بالرأي العام وصناعته وقولبته، أما الضحية الثانية فهم جمهور الصحفيين وممتهني الميديا الذين غالبًا ما يكونون عرضة للابتزازات والإغراءات والتهديد بالطرد والبطالة وأشكال ضغوطات قيود التحرير صحافي، أو التمكين والمنع للبطاقة الاحترافية لممارسة المهن صحافيّة وعلى أساس الفرز. هي مقدمات خطيرة للانتكاس الإعلامي فيظل غياب إطار قانونيّ مستقر ودائم لحماية الصحافيين هو ما يذهب بكل آمال جودة الميديا وجدوى خدمتها المجتمعية.

من البيئة الإعلامية الانتقالية إلى البيئة الديمقراطية

ومنذ اندلاع أحداث الربيع العربي في العام 2011، بدءًا بالثورة التونسية تصاعدت الصراعات الدعائيّة بين المتضادات الإيديولوجية من التنظيمات الإسلامية والقوى المحافظة وأحزاب اليسارية والقوى الحداثية، ولكن صداها بمداها لم يكن المعترك السياسي الاعتيادي للديمقراطيات المستقرة أي الإطار المؤسسي والبرلماني، بل كانت البلاتوهات التلفزية والبرامج الإخبارية الإذاعية حلبتها، ولكن بمعايير غابت عنها معايير الدولية لمهنيات وأخلاقيات الممارسة الصحفية من الحياد والدقة والشفافية وعدم التحيز، وذاك هو التهديد الأخطر لمستقبل حرية التعبير والحريات المجاورة لها.

وفي هذا السياق، عاشت تونس مثلَا حالة من الإرباك يوصف بالردة نحو منظومة الإعلام الحكومي بعد عودة ممارسات التجييش والتعبئة الإعلامية لفائدة أحد الرموز الحكومية أو الدعاية السوداء للأضداد. يحدث هذا في ظل الافتقار إلى المحددات الاحترافية والتدريب الصحافي الكافي على المهنيات والأخلاقيات لأدفاق الصحفيين الجدد المندرجين بالمشهد وبخاصة من غير دارسي علوم الإعلام والاتصال والمؤسسات الأكاديمية لمهن الميديا في أحسن الظروف. ناهيك عن غياب أطر تنظيمية مستقرة تمام الاستقرار التشريعي والمؤسسي التحرري سواء لمقتضيات تنظيم الميديا أو متطلبات التظيم الذاتي، والخروج العاجل من الإطار التشريعي الانتقالي للمرسومين 115 و116، وتفعيل آليات التنظيم الذاتي من مجالس الصحافة وغيرها، وبعث الهيئة التعديلية الدائمة للسمعي البصري كما ينص عليها دستور الجمهورية الثاني للعام 2014.

خطوات نراها ضرورية لتوفير بيئة إعلامية أكثر شفافية إزاء تركيز الميديا بين النخب المالية والسياسية وعودة سيطرة الدولة على الإعلام من خلال وسائله بما يعني انتكاسة المسار الديمقراطي والإعلام صمام أمانه وحرية التعبير أقدس حقوقه. في هذا الصدد، تطرح مقاربتنا مقدمات ثلاثة نعتقد في نظرنا أنها مداخل أساسية للارتقاء بجودة وجدوى العمل الإعلامي الحر في بيئة أكثر تحررًا وانعتاقًا واستقرارًا تأخذ بعين الاعتبار الأقطاب الأصلية الثلاثة للعملية الاتصالية ونعني بها: المرسل (الباث/ صانع المحتوى)، والمرسل إليه (الجمهور/ المتقبل) والوسيلة (الوسيط/ الميديا).

  • المدخل الأول: متغير تفكك المشهد الاحتكاري التلفزي التونسي

إن الحالة الانتقالية للمشهد السّمعي البصريّ التونسيّ، كما يلاحظ مرت بعد الثورة بالسرعة القصوى مِن الاحتكار إلى التّعدُّد، ولعل اختيارنا لتبئير مثال التّلفزيون يبقى لاعتبار أن الوسيط التلفزيوني يبقى بعد زهاء القرن من اختراعه في بدايات عشرينات القرن العشرين أحد أهم الوسائط الجماهرية انتشارًا وتعميمًا ورواجًا في أوساط الجماهير ولعل تبريرات خيارنا ذلك ترجع إلى:

- قوة الوسيط التلفزي: يعتبر التلفزيون سوسيولوجيا من النواقل القوية التي حافظت على موقع استقطابي جماهيري عريض القاعدة، فمنذ التصور المثير للجدل لهذا الوسيط من قبل المفكر الكندي مارشال ماكلوهان (Marshall McLuhan) الذي تنبأ بأن أجهزة الاتصال الإلكترونية ـ وبخاصة التلفزيون ـ تُسيطر وستظل تسيطر على حياة الشعوب وتؤثر على أفكارها ومؤسساتها. منذ ذلك الوقت وإلى اليوم، مازالت التلفزة كناقل شاشوي تحافظ على قوتها وهيمنتها ضمن كل الوسائط المستجدة في حياة الجماهير وإشباعاتهم، ولا سيما جمهور الشباب اليوم الذي يتعاطى مع الوسيط التلفزي عبر المحامل التكنواتصالية الجديدة بأصنافها الإلكترونية كاللوحات الإلكترونية والهواتف الذكية بأجيالها ومختلف تطبيقات الميديا الجديدة ومنصات الميديا الاجتماعية.

- سيطرة السلطة على الوسيط التلفزي: إن متغيرات المشهد السمعي البصري ولا سيما التلفزي منذ تأسيسه كمرفق حكومي رسمي زمن الدولة الوطنية بعد الاستقلال، لذلك ظلت السياسيات العامة بالبيئة العربية والأنظمة القائمة تحكم سيطرتها على المرفق السمعي البصري عموما والمشهد التلفزي بالذات بجعله مرفقًا حكوميًا وأداة رسمية يسعى الفاعلون الاجتماعيون وصناع القرار السياسي صلب الدولة إلى السيطرة عليه وتوظيفه خدمة لبرامجهم ومصالحهم وسياسياتهم، مع استخدامهما كأدوات للتوعية والتثقيف والتعليم والتنمية وترسيخ السياسات القائمة والدعاية للأنظمة وأحزابها وإيديولوجياتها وسياساتها.

إن بعث المشاريع السمعية البصرية في تونس ركز المؤسسات الناشئة بيد رأس المال السياسي وحزّب خطوط التحرير بين القوى السياسية المتنافرة على حساب الجمهور

- احتكار الدولة العربية للمرفق السمعي البصري: فمن هذا المنطلق والحرص سعت الحكومات العربية إلى وضع محطات التلفزيون تحت إشرافها المباشر بوصفها مرفقًا تنمويًّا حكوميًّا أو عامًّا، ولازالت غالبها مرجع نظر الحكومات شكلًا ومضمونًا وتمويلًا باعتبارها مرفقًا خدميًا للشعب، للتعليم والتثقيف والصحة والتوجيه والإرشاد والدعاية.

- احتكار الدولة التونسية للمرفق السمعي البصري: على أن المشهد السمعي البصري التونسي لم يشذ عن قاعدة احتكار الدولة الراعية للمرفق الإعلامي التلفزي وحتى الإذاعي باعتبار أن الإذاعة سابقة للتلفزة من حيث الاختراع، وأسبق في الظهور في البيئة الإعلامية العربية والتونسية، بل وأسبق توظيفًا من السلطة والسّاسة منذ الحقبة الاستعمارية مرورًا بالتأميم والتعريب والتّونسة لهذه الوسائط منذ نشأة الدولة الوطنية الفتية بعد الجلاء الامبريالي. نشأ التلفزيون التونسي سنة 1966 بشيء من التأخير عن بقية الدول العربية وبزمن أبعد عن الدول الغربية التي اخترعت هذا الوسيط الذي بدأ يبث في أوربا وأمريكا بين 1926 و1939.

- توظيف الدولة التونسية للوسيط التلفزي: ولم تشذ سياسيات الحكومات التونسية في تعاملها مع هذا المرفق وتوظيفه كوعاء سياسي وثقافي واجتماعي ضمن ما يعرف بالسياسة الإعلامية للدولة. لذا تحتفظ الدولة حسب ما ينص عليه القانون الصحافة الموروث عن النظام السابق، إلى اليوم، باحتكار منظومة توزيع البث والمنشآت والبنية الأساسية للبث بوصفها مجالًا سياديًا للدولة وأمنها القومي. غير أنه منذ سنة 1982 تم الفصل بين البنية التحتية للبث ومؤسسات البرامج الإذاعية والتلفزية، فبينما بقي إنتاج البرامج من مشمولات المؤسسة الإذاعية والتلفزية المملوكة من الدولة أو عبر (وكالة النهوض بالإنتاج السمعي البصري) وفي زمن ما من تاريخ المؤسسة، فيما أحيلت خدمات توزيع البث والإرسال للمؤسسات الإعلامية المملوكة للدولة إلى وكالة خدمات فنية تعرف بالديوان الوطني للإرسال الإذاعي والتلفزي المحدث سنة 1981، في مرحلة أولى كإدارة للبث، ثم سنة 1993 كمؤسسة عمومية للإرسال. وفي سنة 2007 وقع الفصل بين المرفقين الإذاعي والتلفزي الحكوميين وذلك بتقسيم مؤسسة الإذاعة والتلفزة التونسية التي تحولت إلى مؤسستين عموميين مملوكتين للدولة مرجع سلطة إشراف وزارة الاتصال قبل الثورة، وهما مؤسسة التلفزة التونسية ومؤسسة الإذاعة التونسية، ولا يزال وضعهما الحالي أي ما بعد الثورة كذلك حيث ألحق إشرافهما بدوائر رئاسة الحكومة.

- التوظيف الدعائي لتفكيك منظومة الاحتكار: بالتّوازي مع ما سبق عاش المشهد السمعي البصري التونسي حالة من التآكل الذاتي للمنظومة الاحتكارية خارج المواضعة القانونية الرّسمية – مجلة الصحافة / مجلة الاتصال- بعد انطلاق بث خاص لإذاعات خاصة جديدة في حينها، إذاعة (موزاييك) ثم إذاعة (جوهرة) فـ(الزيتونة) و(شمس) و(إكسبريس).فضلًا عن انطلاق مبادرة تلفزية خاصة (حنبعل) تلتها (نسمة)، وتحديدا لذلك شهد النصف الثاني من التسعينيات توسيعًا للمشهد السمعي البصري التونسي في إطار إعلان اللاّمركزية الإعلامية (إذاعتي الكاف وقفصة 1991 / إذاعة تطاوين 1993، وجميعها إذاعات جهوية حكومية آنذاك)، أو في إطار فسح المجال أمام الخواص (قناة الأفق 1991/ إذاعة موزاييك 2003/ قناة حنبعل 2005/ إذاعة جوهرة 2005/ قناة نسمة 2007).

- المبررات المنطقية للتعددية السمعية البصرية الفعلية: إن هذا التّوجه أو الضّرب من ضروب الانفتاح الإعلامي، الذي جاء للتّنفيس عن السلطة من حالة الغليان والاحتقان الدّاخلي، والضغط والتّأثير الخارجي، استجابة للسّياسات الغربيّة التي كانت حينها تروج لمفاهيم الديمقراطية والدفاع عن المعايير الحقوقية في طابعها الكوني، وفق مزاج مؤقت لتلك السياسات المتقلّبة، فإنّ نشأة الأوعية الإعلامية الجديدة في تونس حينئذٍ اتسمت بطابع الموالاة لأقارب العائلة الحاكمة ومن يدور في فلكها. ولعلّ ذلك مردّه فشل تلك السّياسات الاتّصالية من تاريخ النّظام السّياسي القائم في إتاحة الفرصة -وإن بأساليب الضبط والرقابة التي طبعت المرحلة- إلى مبادرات لقنوات تلفزية أو محطات إذاعية متخصّصة، أو حتى ذات صبغة عامّة،  كان من المفترض أن تسدّ الثّغرات الإعلامية والنّقائص البرامجية  في أغراض رياضيّة أو تعليميّة أو إخباريّة أو ثقافيّة أو دينيّة أو وثائقيّة في أدنى سياقات ومعايير مثلث الرّسالة الإعلامية التقليدي- (إعلام/ ثقافة/ ترفيه).

اقرأ/ي أيضًا: هل للصحافة الاستقصائية مستقبل في تونس؟

- شرعنة التعددية السمعية البصرية قانونيًا: لكن تَلَتْ تلكم المرحلة وبعيد الثورة حالة من التّعددية الإعلامية الفعليّة تعددية قانونية هشة أثمرت بادئ الأمر تخمة تلفزية ظهورًا وانقراضًا بعد حصولها على إجازات من الهيئة الانتقالية. فقد طبعت تلكم المرحلة بفوضى إعلامية متلفزة مظاهر وعددًا ومحتوًى، ناجمة في نظرنا عن واقع الارتجاج الثوري المقتصّ لنفسه من وقائع التّضييق والتّعتيم الإعلامي ما قبل ثوري، فتصاعدت المشاريع الإعلامية المُتلفزة التي بلغت عدد التّسع والثلاثين (39) قناة تصورًا أو تنفيذًا أو إجازةً أواحتجابًا أو حجبًا من قبل الهيئتين التعديليتين الناشئتين إبان الثورة وهما الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام والاتصال INRIC (مارس 2011) التي ترأسها الصحفي المعارض السابق كمال العبيدي، والهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري المعروفة اختصارًا "هايكا" (HAICA) المؤسسة بمقتضى المرسوم 116 (3 ماي 2013). هكذا إذن تسارعت بداياتها ونهاياتها، ظهورًا وأفولًا.

- تعددية قانونية تلغي حقيقة الجمهور وحقوقه: فالمشهد الإعلامي التونسي الاستثنائي بعد الثورة ألقى بظلاله الدّاكنة على الجماهير العريضة للشاشة الفضّية في مجتمع شاب متحرك، صنعت شبيبته ثورة كانت فيها الوسائط الإلكترونية سلاحا، والميديا الاجتماعية محملًا، والصورة وتقنياتها شكلًا غالبًا، ومضمونًا مؤثرًا، بالغ الأثر والتّأثير.

- تعددية سمعية بصرية تسلعن الجمهور وتركّز الميديا: إن بعث المشاريع السمعية البصرية في تونس ركز المؤسسات الناشئة بيد رأس المال السياسي وحزّب خطوط التحرير بين القوى السياسية المتنافرة على حساب الجمهور وحقوقه الاتصالية في ظل أخطاء مهنية وإخلالات أخلاقية تقاسم المسؤولية فيها الصحفيين والإعلاميين وأرباب مؤسسات الميديا ومسيروها وصناع محتوياتها.

- تعددية سمعية بصرية تغذي الفوارق وتلغي المشترك: من وراء تلك الأدفاق التلفزيونية مجهولة الهَوَى والهُوِيّة وعبر وصناعاتها الإبهارية، تتخفى مؤشرات صراع التحكم في المزاج العام، ومحاولات التنميط لأساليب العيش، واختراق المتواضع الحضاري والمشترك الثقافي، واستدراج النّشْء إلى مساحات سحرية افتراضية أو التّلهية عن الواقعية، لكنها شديدة الغموض قاتلة للوقت، هادرة للمعنى، لمرحلة لم تكتف بأن تتجاوز ما بعد بعد الحداثة، بل هي آلية حاسمة وأداة نافذة لاجتياح الفضاء العام  لما  أريد له أن يُسمّى  بـــ"ما بعد الحقيقة"، وما هو في نظرنا سوى حقنة جديدة تحت جلد البشرية، وتمريرًا ليّنًا لمشروع "ما بعد الإنسانية".

-تعددية سمعية بصرية تخل بالتنوع وتتجاهل حقوق النشء: تتحكم آليات التحكم بالجمهور والتأثير الأقصى فيه عبر آليات التلاعب بالعقول من النظريات التقليدية للتأثير والبروباغاندا بأصنافها في ظل الأمية الميدياتيكية الأمر الذي يقتضي التعجيل ببعث مشروع اتصالي تعليمي للتربية على الميديا، وسد الفجوة الإعلامية التي يتسبب فيها فراغ المشهد الإعلامي والتعليمي العربي من أية مبادرات إعلامية وتعليمية تأخذ في الحسبان حقوق النشء الاتصالية والإعلامية والثقافية ومراعاة خصائصهم العمرية.

  • المدخل الثاني: الميديا التونسية بين متغيري التنظيم والتنظيم الذاتي

يؤسس هذا المدخل برؤية نقدية لتنظيم تحرّري لمهن الصّحافة وانتظامها ذاتيًّا، بحيث لا يمكن الجزم باستقرار نظام "الدّيمقراطيّة الإعلاميّة" إلا بتوفر إطار تشريعي لتّنظيم مهن الصحافة من حيث علاقة السلطة بمؤسسات الميديا والعاملين فيها من الصحفيين والإعلاميين والاتصاليين وصناع المحتويات، مع انضباط تلقائي من جهة المهنيين بأخلاقيّات الممارسة الصحفية ومدونات السلوك ومواثيق الشرف ومواثيق التحرير ومجالس التحرير المنتخبة وسن آليات التوفيق  والوساطة مع الجمهور، وتحديد آليات المحاسبة ضمن مجالس الصحافة الشبيهة بمحاكم الشرف ضمن ما يلتزم به الصحفيون وهيآتهم المهنية بإراداتهم الحرة من مقتضيات  "التّنظيم الذّاتي".

والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المستوى: هل بلغت الممارسة الصحفية في تونس والصحفيون مستويات من الالتزام بقواعد أخلاقية تتوفر عبرها أنظمة محاسبة داخلية ذات مصداقية كاملة إزاء نزاعات تضارب المصالح وشكاوى تضرر الجمهور عبر آليات مساءلة ذاتية لمجالس الصحافة تعدل العلاقة بين الصحفيين ومؤسساتهم والجمهور دونما انتهاك لحقوق أي طرف من أطراف العملية الاتصالية؟ الجواب عن هذا السؤال المحير للحالة الإعلامية ومكانة وأدوار الجسم الصحفي فيها بالأفق ما بعد ثوري يكون بتلمسنا حدود التوصيفات النقدية التالية وسيروراتها التاريخية:

- من الأزمة القيمية الشمولية إلى الأزمة الرمزية الشاملة: ما من شك في أن الفوضى والصراعات والتوترات التي وصلت إليها تونس بعد ثورة 14 جانفي/كانون الثاني 2011 ترجع في الغالب إلى أزمة أخلاقية وقيمية متعددة الأبعاد وأثرت على جميع القوى الاجتماعية ومختلف القطاعات المهنية تقريبًا. وحيث أن النظام المطاح به لا يمكن اتهامه بما تناقلته الميديا بشكل فانتازي سرقة مقدرات المجتمع التونسي أمواله وفساد المؤسسات ومسؤوليها، بل يذهب لفيف مرجعي من مختصي الأخلاقيات أن المنظومة هتكت على نحو مفزع كل مشترك رمزي لمعايير المجتمع وبناه الفكرية وأنماطه السلوكية، ومرجعياته القيمية، من خلال تمييعه لقطاع الثقافة وترهيفه لمجالات التربية والتعليم والإضعاف الكيفي والنوعي لمخرجات المدرسة التونسية، وتدجينه للمنظومة الإعلامية واستخفافه بالمرجعيات الفكرية وتبذيء النماذج المثل والمرجعيات. وهو ما أفرز حالة تحنيط فكري وتنميط سلوكي وتصحّر ثقافي سقطت معه كل السقوف التي أسس لها مشروع الدولة الأمّة البورقيبي واهترأت معها معايير الدولة الوطنية الناشئة بعد الاستقلال وتراجع دور مؤسساتها القائمة واندثرت مكتسباتها في حدودها الرمزية على الأقل.

إن الوضع الانتقالي أو "ما بعد الثوري" يُحمّل الإعلام مسؤولية كبرى في تعميق الأزمة الخانقة بين القوى الاجتماعية المختلفة والاتجاهات السياسية المتضاربة

- وضع الميديا في دائرة الاتهام الردة: إن الوضع الانتقالي أو "ما بعد الثوري" يُحمّل الإعلام مسؤولية كبرى في تعميق الأزمة الخانقة بين القوى الاجتماعية المختلفة والاتجاهات السياسية المتضاربة في غياب أو قصور الضوابط المهنية والمعايير الأخلاقية، جعلت الإعلام بمنزلة المتهم حتى نعت بأشنع الاتهامات والنعوت من نحو"إعلام العار" والإعلام البنفسجي" و"إعلام الثورة المضادة أو إعلام الردة الثورية" وسط اتهامات للتنظيمات المهنية والهيئات القائمة والمستجدة بغياب كل رغبة جدية في تفكيك المنظومة الإعلامية والاتصالية القديمة ليس فقط كعناوين أو أوصاف أو وصم بل كعقليات وممارسات..  

- ظهور مبادرات النقد الذاتي: وضع فتح الباب للنقد بل والانتقاد لأداء الإعلام التونسي والصحفيين التونسيين رغم محاولات النقد والتقييم الذاتي من داخل الجسم الصحفي وعدد من الهياكل المهنية والتنظيمات المدنية ذات الصلة بالمهنة الصحفية والحقوقية المدافعة عن حرية التعبير ولاسيما تلك الناشئة بعد الثورة. والتي نشطت في مجالات التدريب المهني والتطوير الإعلامي ومقاربات الإصلاح المؤسسي وتنظيم مهن الميديا وبعث منظومات التنظيم الذاتي وأخلقة الممارسة الصحفية.

 - من الإعلام الحكومي إلى الإعلام العمومي محاولات تركيع وتطويع أم مبادرات إصلاح؟: شهدت البلاد التونسية، في ضوء الأوضاع السابقة، محاولات متهافتة لوضع اليد على الإعلام العمومي الذي كان يسمى "إعلامًا حكوميًا" أو "إعلامًا رسميًا'' قبل الثورة بعد التشكيك في أدائه ومهنيته ومردوديته مع الترويج لاتجاه التفريط فيه وخوصصته تجاوزًا لثقله المادي حسب ما روّج له من جهات حكومية، محاولة لا تقل خطورة عن تدخل جهات مالية لتوظيف الإعلام رعاية لمصالحها وبحثا عن موقع متقدم مؤثر ومتقدم في المشهدين الإعلامي والسياسي.

 - الشرعية النضالية دفاعًا عن حريات التعبير: فقد خاض الصحفيون التونسيين ولأول مرة في تاريخ المهنة الصحفية خطوة نضالية غير مسبوقة بتنظيم إضرابين عامين استجابت إليهما القواعد المهنية بشبه إجماع مطلق دفاعًا عن الحريات ذات العلاقة بحرية الصحافة. فقد أعلنت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين في محطات نضالية واحتجاجية غير مسبوقة بالبيئة الإعلامية التونسية والعربية كان أولها إضراب عام بكافة مؤسسات القطاع الإعلامي بتاريخ 17 أكتوبر2012 وذلك للمطالبة بالحقوق الأساسية للصحفيين من حرية رأي وتعبير وحق النفاذ للمعلومة وتحسين وضعية الصحفيين المادية والمعنوية وغيرها. تبعها إضراب عام ثان واعتصامات ببعض الأجزاء الصحفية المكتوبة والمرئية والإذاعية العمومية والخاصة. وقد أثمرت تلكم النضالات مكاسب عمومية على غرار تقنين حماية الصحفيين وتنظيم مهن الميديا وإحداث هيئة مستقلة للإعلام السمعي البصري إلى جانب دسترة حرية التعبير والصحافة والإبداع بدستور 2014.

- إرهاصات وعي التنظيم الذاتي: في مقابل تلك التحركات النضالية ومكاسبها ارتفعت أصوات أخرى مهنية وأكاديمية وحقوقية تطالب بمراجعات ذاتية لواقع الإعلام التونسي مع التفلت من كل مظاهر الضبط التي كانت سببا في تركيع الصحفيين وتمهين كفاءاتهم وتهوين قدراتهم فيما مضى قبل الثورة. كل ذلك في سياق لم يكن دارجًا ولا مسموعًا ولا مألوفًا قبل ذلك الأوان من نحو التنظيم الذاتي ومن قبيل تعزيز حضور الأخلاقيات المهنية والانضباط إلى مواثيق شرفها.

وفي ضوء ما تقدم تبلورت لدينا رؤية نقدية شاملة للحالة الإعلامية التونسية وتشكلات مشهدها التعددي على الأوصاف التي قدمنا وتشكل لدينا وعي لضرورة دراسة الحالة الإعلامية التونسية الجديدة من خلال أبعاد نقدية تأخذ في الاعتبار سياقات وواقع البيئة الإعلامية العربية ومقتضيات المعايير الدولية الحرفية والأخلاقيات الصحفية في ضوء المواضعات القانونية الدولية والتشريعات الوطنية خاصة المرسومين الانتقاليين 115 و116 المقنّنيْن لممارسة المهنة الصحفية والممارسة الإعلامية مباشرة بعد الثورة، وليس في الوضع المستديم مهنيا والمستمر تشريعيًا والمستقر ديمقراطيًا، وفي ظل حالة التردد الحالية بين "إدارة التنظيم وإرادة التنظيم الذاتي" وانعكاسات ذلك على مقتضيات الديمقراطية الإعلامية ومعاييرها المضبوطة وانتظاراتها المأمولة.

  • المدخل الثالث: نحو مقاربة تشاركيّة وتفاعيلية جديدة للجمهور

تحولت وظيفة الجمهور ودوره بالمفهوم السوسيولوجي من مجرد منفعل ومتقبّل إلى شريك للتّلفّظ الاتصالي وإلى صانع لمحتوى الرسالة الإعلامية من خلال استقراء مختلف أنظمة الميديا في العالم واستقصاء مكانة الجمهور في واقع واستهدافات الممارسة الصحفية وأنشطة الميديا. ولكن الميديا التونسية في وعي الجهاز الإعلامي وفي تصور وممارسات الجسم الصحفي أفرادًا وجماعات وتنظيمات مازالت مقارباته للجمهور تخضع لمقولات التأثير في الجمهور ورجع صدى الرسالة الإعلامية وهو مان سنحقق فيه النظر التاريخي والاتصالي فيما يلي من ملاحظات هيكلية:

- الجمهور تأثر ورجع صدى: خلال الأدوار التاريخية الخمسة لمراحل تطورات الميديا ونعني بها: المرحلة النخبوية، ومرحلة الشيوع والذيوع والانتشار، فمرحلة التخصّص، ثم المرحلة الإلكترونية، وانتهاء بمرحلة الاتصال متعدد الوسائط Multimedia ومتعدد المنصات Cross media، ظلت غاية مختلف والوسائط الاتصالية ووسائل الإعلام الجماهرية في غاية رسائلها ورجع صداها وأثر مضامينها المنقولة في الجمهور.

- الانغلاق على نظرية "شرام" في الخمسينات: فقد ظل الجمهور كظاهرة مدروسة ومستهدفة من قبل نظريات اتصالية محكمة ومعروفة حاضنتها المدارس الاتصالية الغربية منذ ''ويلبر شرام'' (Wilbur Lang Schramm) ونموذجه الاتصالي الأولي الشهير، وذلك منذ بداية شيوع وذيوع وسائل الإعلام الجماهيري ظل الجمهور الحلقة الأضعف بين أقطاب العملية الاتصالية الثلاثة ونقصد بها الباث (المرسل) والمتقبل (الجمهور) والوسيلة (الوسيط).

تحولت وظيفة الجمهور ودوره بالمفهوم السوسيولوجي من مجرد منفعل ومتقبّل إلى شريك للتّلفّظ الاتصالي وإلى صانع لمحتوى الرسالة الإعلامية

- تصور مكانة الجمهور بالأنظمة الإعلامية القائمة: إن مكانة الجمهور وتقبلاته للرسالة الاتصالية وتفاعلاته معها وتأثر بها وتأثيره فيها أيضا بل وتفاعله معها يتوقف على مختلف الأنظمة الإعلامية القائمة المتراوحة بين الانفتاح والانغلاق حسب مكانة الدولة وتدخلها في المضامين الإعلامية وتحرر صناع الرسائل الإعلامية والمضامين الاتصالية ودرجة تدخل الجمهور وتقبله لها وتأثره وتأثيره فيها.

- التحولات التكنواتصالية وانقلاب أوضاع الجمهور: في ظل المحدثات التكنواتصالية الجديدة بعد الثورة الاتصالية الرابعة بلغ الجمهور درجة الفاعل الأول، وإن لم يكن فعلى الأقل درجة المتفاعل أو ''شريك التلفظ'' على حد تعبير ''امبرتو إيكو'' (Umberto Eco). في ضوء هذه المتغيرات السوسيواتصالية نطرح مقاربتنا لدراسة النظام الإعلامي التونسي الحالي ما بعد الثورة محددين الآفاق الجديدة لجمهور الميديا الجديدة والميديا الاجتماعية وأدواره التفاعلية في ضوء '' أفق انتظار L’horizon d’attente " الجمهور على حد تعبير ''يوس'' (Hans-Robert Jauss).

- سوسيولوجيا الجماهير: إن الجمهور ظاهرة سوسيولوجية قديمة قدم التجمعات البشرية والوجود الإنساني، بيد أن جمهور وسائل الإعلام، كانتظام متمايز عن سائر أشكال التجمعات البشرية الأخرى، لم يحظ بذات عمق اهتمامات الدراسات الإنسانية والأنثروبولوجية والسوسيولوجية. إذ رغم الأقدمية الابستيمولوجية لدراسات الإعلام والاتصال البشري التي شارف تاريخ ظهورها على القرن، وذلك رغم وجود مبادرات لتأسيس فروع علمية مستقلة، تنفرد بدراسة هذا الشكل من تجمع الناس حول الرسائل الإعلامية والبلاغات الاتصالية، مثل علم الاجتماع الإعلامي وعلم النفس الإعلامي وغيرها من فروع التاريخ والاقتصاد والثقافة والسياسة ودراسات الاستهلاك اليوم، وقياس الجمهور، المرتبطة بوسائل الاتصال الجماهيري.

اقرأ/ي أيضًا: "الخبير".. صناعة سلطة التلفزيون الجديدة؟

متغير الجمهور بتغير الوسيلة: إذا كانت ''الوسيلة هي الرسالة'' (The Medium is the Message) في تصور وتعبير مارشال ماكلوهان (Marshall McLuhan) ونموذجه الاتصالي الشهير،  فإن اتجاه الاهتمام بالأبحاث المتعلقة بجمهور وسائل الإعلام الجماهيرية، من قراء الصحافة المكتوبة، والاستماع الإذاعي، والمشاهدة التلفزية، والاستخدامات الاتصالية للشبكة العنكبوتية العالمية الإنترنات، وشتى تقنياتها ووجوه تشكّلاتها الاتصالية وعبر أنماط الميديا الجديدة، والميديا الاجتماعية، هو دون  شكّ اهتمام حديث العهد نسبياً، لكن تتزايد أهميته باطرادٍ مواكبة للتطورات المتصلة بتكنولوجيات الإعلام والاتصال الجديدة ومستمرة التّجدد.

- المركزية الغربية لنماذج الاتصال ودراسات الجمهور: يجب أن نقرّ وللأسف أن دراسات الجمهور في علاقاتها بالوسائط ظلّت حقلًا احتكاريا على المدارس الغربية، كما يجب أن نعترف بوجود فجوة قائمة بين المكانة الاجتماعية المتزايدة التي أصبحت تحظى بها وسائط الاتصال في حياتنا اليومية، والمساحة الضيقة التي تحتلها في ممارسة البحث العلمي في المنطقة العربية كما صرح بذلك الباحث الاتصالي الجزائري نصر الدين العياضي.

- جماهير الثورة التونسية تسقط نمطية نظريات الاتصال: لقد حطمت أحداث الثورة التونسية بين 17 ديسمبر 2010 و14 جانفي 2011 كل ما أسست له نظريات التحكم في الجمهور وفاعلية وسائل الإعلام الجماهيري في الناس التي تأسست في الغرب وتحديدًا لدى علماء اجتماع واتصال من ذوي الجنسية الأمريكية على غرار نظرية الطلقة أو "الرصاصة السحرية المؤسسة" على الدور الفعال لوسائل الإعلام في حياة الفرد والجمهور التي وضعها "هارولد لاسويل" (Harold Dwight Lasswell)، مرورًا بنظرية وضع الأجندة أو المعروفة أيضًا بنظرية "ترتيب الأولويات" القائمة على ما تسلّط عليه وسائل الإعلام الضوء كأولويات توجه بها الجمهور، لـ"والتر ليبمان" (Walter Lippmann)‏، أو نظرية بول لازارسفيلد (Paul Lazarsfeld)، صاحب نظرية الدعاية لـ"تدفق المعلومات على مرحلتين"، وهو يرى أن المعلومات تصل إلى الجمهور عبر وساطتين وهما أولا وسائل الإعلام ثم قادة الرأي (Opinion Leaders)، من النخب أو صفوة الأخصائيين والمحللين الذين يلجأ إليهم الجمهور في كل وقت ليشرح لهم الوقائع والأحداث.

هذه النظريات التي تحتكم إليها وسائلنا السمعية البصرية وبخاصة تلفزاتنا وإذاعاتنا العربية لاسيما التونسية سواء في زمن السلطوية وأكثر منها في الزمن الثوري، عن طريق إحكام قبضتها على الجمهور لتجعل منه الحلقة الأضعف في العملية الاتصالية. فالميديا التونسية وكأنها تعاقب الجمهور الذي حطم أسس نظريات التأثير في الجمهور وقولبته ونمذجته وتنميطه وفق أساليب السيطرة لتلكم النظريات.

فعن طريق أساليب التداعي الحر للمدونين المدشّن لزمن صحافة المواطنة والميديا الجديدة الرقمية والميديا الاجتماعية التي نقلت الفعل التأثيري/ التأثّري طوعًا أو كرهًا إلى المجال الافتراضي لتتهاوى صروح كبرى الصحف المكتوبة التي انقرضت نسخها الورقية وانتقلت تحت إكراهات متغيرات الواقع إلى العالم الفتراضي بإصدار نسخها الإلكترونية وتفتتح حسابات ترويجية لها على مواقع الميديا الاجتماعية مثل فيسبوك وتويتر وغوغل+، لا بل رأينا أيضًا إذعان القنوات التلفزية و الإذاعات لذات تلكم الإكراهات لتنتقل إلى البث عبر الخط على مواقعه الإلكترونية ولتفتتح حسابات لها على الميديا الاجتماعية ومواقع  مشاركات وتبادل الفيديو مثل يوتيوب ودايليموشن وحتى أنستغرام عبر تقديم خدمة (VoD) الفيديو تحت الطلب (Video on Demand / vidéo à la demande).

ولا يخفى أن سيد الفعل في هذا الفضاء الافتراضي هو الجمهور وبأولوية مطلقة النشء والشباب الذي يحكم أدوات الولوج إلى الفضاء الافتراضي لكن في غياب أدوات والمعايير النقدية والمرجعيات. وهذا يفترض معالجات مجتمعية إذا ما ثبت لدينا أن لكل وسيلة أو وسيط آثار نفسية وانعكاسات اجتماعية وتأثيرات سلوكية وسلطة توجيهية وتغيير مجالها البحث العلمي الاتصالي والاجتماعي والنفسي والأنثروبولوجي.

البيئة الإعلامية الجديدة واستمرارية صراعات التموقع

تجزم الأدبيات الديمقراطية بمفهومها اللبرالي الغربي أن حرية التعبير هي أقدس الحريات ومناط الديمقراطية وركنها الركين هو الصحافة الحرة، فلا غرابة إذًا في التسوية بين حرية الإعلام والممارسة الديمقراطية إذ لا حياة لأحديهما في غياب الآخر. والمعنى أن تهديد حرية التعبير والصحافة والنشر هو إجهاض للمسار الديمقراطي وخلخلة للديمقراطية الناشئة في العالم. ومع أنه ثمة حالة إجماعية أن حرية الصحافة في تونس حققت أغراضها في الانعتاق من ارتهاناتها لدوائر القرار السياسي ووصاية الغرف المظلمة ومؤسسات الرقابة الظاهرة وأطرها وآلياتها التضييقية الخفية.

كما أن حرية الاتصال بدورها تخلصت نهائيًا من أغلب أليات الحجب والخنق غير القانوني التي اصطلح عليها بين الناشطين الإلكترونيين بـ''عمار 404''، بما عزز كفاءات الصحفيين ومؤسساتهم وغيرهم من نشطاء الميديا الجديدة والاجتماعية والمدونين في مجال النفاذ إلى المعلومة وترويجها بشتى الطرق وبمختلف الوسائط وعبر شتى منصات الميديا الجديدة والإلكترونية. غير أنه ثمة حيرة عارمة في الأوساط الإعلامية المستقلة من أنه ورغم نجاح الإعلام التونسي في التخلص من أشكال الرقابة السياسية التقليدية للسلطوية فإنه اليوم يتخبط من وقوعه تحت سلطان المال السياسي والمال الفاسد الأمر الذي أدى إلى التدخل في خطوط التحرير للمؤسسات القائمة ولاسيما الإعلام الخاص ولعب أدوار خفية وعلنية خدمة لجهات سياسية وإذكاء حالات التموقع السياسي التي أفرزتها المتغيرات الدستورية والخارطة الحزبية في ظل إحجام الهيأة التعديلية السمعية البصرية عن إعمال القانون وإلزامها بتطبيق القانون وإثبات الشفافية والالتزام بمقتضيات كراس الشروط وضرورة سن وتطبيق الاتفاقيات المطلوبة مع مؤسسات الإعلامي العمومي، في ظل خنق المتحكمين في قرارات هذه الهيئة المعتبرة كألية من آليات الديمقراطية الإعلامية في الدور الرقابي والعقابي كمظهر من مظاهر التعبير عن الوجود الواجهاتي ليس إلا.

هل التعددية الإعلامية غاية في حد ذاتها؟

إن حالة الرضا من قبل فريق من الناشطين الإعلاميين والحقوقيين على الحالة الإعلامية التونسية الراهنة في الاكتفاء بواقع التعددية للمشهد الإعلامي ولا سيما السمعي البصري هو في نظرنا أكثر تهديد يأتي من الجسم الصحفي نفسه. إن الفاعلين في الإعلام العام والخاص بهذا الفهم الضيق لمهامهم التاريخية مهنيًا وحقوقيًا وقانونيًا وأخلاقيًا في الدفاع عن المكاسب التحررية للإعلام وتذويب كل الرصيد الأخلاقي والرمزي للرسالة الإعلامية التحررية من كل أشكال الوصايات والتبعية والاحتكام إلى المرجعيات الذاتية بدل المعايير العليا الضامنة لاستمرار الحرية المقدسة.

إن حالة الرضا من قبل فريق من الناشطين الإعلاميين والحقوقيين على الحالة الإعلامية التونسية الراهنة هو في نظرنا أكثر تهديد يأتي من الجسم الصحفي نفسه

 إن الحالة الإعلامية التونسية المعبر عنها بالحالة الانتقالية ما فتئت تؤسس لبيداغوجيا المحاسبة والتقييم والإصلاح من خلال الأخطاء المهنية والأخلاقية، لذلك حثت الهيئات المهنية الراعية للديمقراطية ممثلة في المقام الأول في النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين وشركاءها المهنيين المؤسسات في استحداث أُطر تنظيمية ذاتية داخلية أخلاقية على غرار الموفق الصحفي ومجالس التحرير ومواثيق التحرير وهي لعمري خطوات في اتجاه المساءلة الذاتية والمسؤولية المهنية والتنظيم الذاتي لابد رسوخ منوالها وتعميمه في كافة المؤسسات بحيث تصبح تقاليد ديمقراطية وثوابت لا حالة مزاجية عابرة. ذلك أنه وبعد نشأة بعض هذه الآليات الديمقراطية للتنظيم الذاتي وأنظمة المسؤولية الاجتماعية وحصريًا بلفيف صغير من المؤسسات الخاصة والعمومية تم التخلي عنها كمحاولات بدائية وفي مرحلتها الجنينية دونما تبرير بل ودونما تنديد أو تنبيه من الجسم الصحفي نفسه وذلك هو الأخطر في نظرنا إذ كيف يتخلى الصحفيون عن مكاسب ديمقراطية فتية ظلوا طيلة الحقبة السلطوية يطالبون بها وخاضوا من أجلها نضالات وقدموا من أجلها شهداء وتضحيات وهم أولاء يتخلون عنها لربما بصمت مريب.

مجلس الصحافة: نقطة الضوء الخافتة لجمهور قوي

غير بعيد عن هذه الآليات تعد خطوة تأسيس مجلس الصحافة أواخر، -2019 أي بعد قرن كامل من أول مجلس صحافة ينشأ في العالم بالسويد- بمبادرة بين نقابة الصحفيين وجمعية مدراء الصحف الرابطة التونسية لحقوق الإنسان، فإن هذه التجربة ستضع نفسها على محك الخرقات المهنية والأخلاقية الكبيرة والمتواصلة دون محاسبات في حق المهنة والجمهور. هذا الجمهور الذي ووفق ذات المقاربة الديمقراطية لم يعد مجرد متقبل ومنفعل ومتأثر بما تصنعه الميديا فيه وفق نظريات التأثير والمقاربات الاتصالية.

لقد نجم عن الصحافة الجديدة ومواقع الصحافة التشاركية والميديا الاجتماعية ظهور الصحافة التشاركية أو الصحافة المدنية أو صحافة الشارع والتي يعبر عن الفاعلين فيها قانونًا بصناع المحتوى الإعلامي والذين يعاملون ديمقراطيًا وحسب مقتضيات المرسوم 115 معاملة الصحفيين من باب الإجراءات الاحترازية لحماية حرية التعبير. ولا يغيب عن ملاحظ الحضور الشبابي اللافت بين غالبية النّشطاء الإلكترونيين بحرصهم على التعبير عن أنفسهم بحرية تامة، عبر شبكة الأنترنت، التي غالبًا ما تكون في منازلهم، لسهولة الاتصال دون وقت محدد أو نظام معين يحد من استعمالهم للإنترنت. وغالبًا ما يكونون بحكم الخصائص النفسية للمراهقة ومرحلة الشباب مسكونين بالرفض ومعارضة أو السخط على الأوضاع السياسية أو الاجتماعية والواقع والأوضاع القائمة، بل إنهم خاضوا معركة خفية فاجأت الساسة والمراقبين عرفت بمعركة "ضد النظام" (Anti système) التي كانت وراء النتائج المفاجئة للانتخابات الرئاسية للعام 2019 التي جاءت بقيس سعيّد على رأس رئاسة الجمهورية. فواعل اتصالية محورية ثلاث هي أضلع الهرم الديمقراطي على قاعدة البيئة الديمقراطية لامناص من التنبه إلى أولوياتها وإلى مقتضياتها في البناء الديمقراطي المتشكل على مهل في المشهد التونسي فتي المتشكل بعد ثورة ديمقراطية تماما كما تشكلت الديمقراطيات الغربية التأسيسية الثلاث الأنجليزية والأمريكية والفرنسية ومكاسبها الإنسانية بمرجعيتها الحقوقية. 

 

اقرأ/ي أيضًا:

الصحافة التونسية في "عصر ما بعد الحقيقة".. الهلع (3/1)

الصحافة التونسية في "عصر ما بعد الحقيقة".. التحرّي (3/2)

الصحافة التونسية في "عصر ما بعد الحقيقة".. دفاعًا عن "صحافة الحقيقة" (3/3)