26-يوليو-2023
طماطم أصلية تونسية

يراهن بعض الفلاحين والمهندسين الفلاحيين على استعادة البذور الأصلية التونسية (مصدر الصورة: صفحة الفلاح البحري السالمي على فيسبوك)

 

تتزايد مخاوف التونسيين من استهلاك الأغذية الزراعية كالفواكه والخضر والحبوب التي أصبح إنتاجها مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا باستعمال المواد الكيميائية والمبيدات المعدة للقضاء على الحشرات والفطريات وغيرها من الآفات التي يمكن أن تنسف مجهود الفلاح بالقضاء على محاصيله الزراعية. وقد تصاعدت وتيرة هذه المخاوف مع احتلال مرض السرطان المرتبة الثانية في أسباب الوفيات بتونس وذلك بتسجيل 20 ألف إصابة سنويًا وسط تحذيرات الأطباء والمختصين من أن هذا الارتفاع غير المسبوق في عدد الإصابات بالأورام في صفوف التونسيين يعزى إلى عدة عوامل من بينها تغير العادات الغذائية واستعمال المواد الكيميائية واستهلاك الأغذية المعدلة جينيًا.   

ويتسبب الاستعمال المفرط وغير الخاضع للرقابة للمواد الكيميائية والمبيدات الحشرية في إلحاق أضرار جسيمة بصحة الإنسان والبيئة والمياه، كما يتسبب في فقدان التربة لخصوبتها والقضاء على الكائنات الحية النافعة مما يجعلها والمنتجات الزراعية في حاجة مستمرة لهذه المواد السمية للإنتاج والحفاظ على المحاصيل الزراعية. 

نتج عن التعويل على البذور الهجينة والأسمدة والمبيدات الحشرية والمواد الكيميائية فقدان المنتجات الفلاحية لمذاقها وطعمها المعهود وقيمتها الغذائية وتحولها إلى مصدر للأمراض والسموم

وقد نتج عن التعويل على البذور الهجينة والأسمدة والمبيدات الحشرية والمواد الكيميائية لضمان غزارة الإنتاج وسلامته إلى حين موعد جَنْيِهِ فقدان المنتجات الفلاحية لمذاقها وطعمها المعهود وكذلك فقدانها لقيمتها الغذائية وتحولها من مصدر يستقي منه الإنسان الفيتامينات إلى مصدر أمراض وسموم تدمر الجهاز المناعي للمستهلك وتلحق به أضرارًا شتى حتى عبر استنشاق الانبعاثات الغازية التي تفرزها المبيدات.

 

 

وفي ظل عدم وجود قانون يفرض إخضاع المنتجات الفلاحية المعدة للبيع على التحليل قبل ترويجها للمواطن كما هو الحال بالنسبة للمنتجات المعدة للتصدير، يعمد الفلاح إلى جني وبيع محصوله إما في حقله أو في الأسواق ويستهلكه التونسي بصفة مباشرة، ما دفع شريحة هامة من التونسيين إلى البحث عن منتجات فلاحية بيولوجية لتفادي المضار المنجرة عن المنتجات التي تحتوي على رواسب مواد كيميائية ومبيدات عالية.

يراهن بعض الفلاحين والمهندسين الفلاحيين الذين يؤمنون بفكرة إحياء الزراعة التقليدية على استعادة البذور الأصلية التونسية التي لها قدرة عالية على التأقلم مع المناخ في تونس ومقاومة الحشرات والفطريات بدون أدوية كيميائية

 من جانبهم، يراهن بعض الفلاحين والمهندسين الفلاحيين، الذين يؤمنون بفكرة إحياء الزراعة التقليدية ويعادون سياسة الاستخفاف بصحة المستهلك، على استعادة البذور الأصلية التي لها قدرة عالية على التأقلم مع المناخ في تونس ومقاومة الحشرات والفطريات بدون أدوية كيميائية والتي تكون منتجاتها بيولوجية مائة بالمائة كما كانت عليه قبل عشرات السنين.  

 

  • المكافحة الحشرية بديل للأسمدة الكيميائية 

البحري السالمي، أستاذ تعليم ثانوي وفلاح أصيل محافظة صفاقس، هو واحد من الفلاحين الذين يعملون جاهدين من أجل استرجاع بذورنا الأصلية والنهوض بالفلاحة الخالية من الكيميائيات. وقد تمكن في ظرف 3 سنوات من استرجاع الطماطم "الحزقية المبرجة"، وهي طماطم محلية تمكنت من دون استعمال أي مبيدات من النمو ولم تظهر أي حساسية لأي نوع من الأمراض الفطرية. 

البحري السالمي (أستاذ وفلاح) تمكن في ظرف 3 سنوات من استرجاع الطماطم "الحزقية المبرجة" وهي طماطم محلية تمكنت من دون استعمال أي مبيدات من النمو ولم تظهر أي حساسية لأي نوع من الأمراض الفطرية

يقول السالمي، في حديثه لـ"الترا تونس": لقد فكرت في إعادة البذور الأصلية والزراعة البيولوجية منذ أن رأيت السموم التي يستهلكها المواطن خاصة في منتوج الطماطم الذي تستعمل فيها المبيدات الحشرية بصفة شبه يومية ما يسبب دمارًا شاملًا لصحة الإنسان".

وتابع: بما أنّي ابن فلاح ونشأتي فلاحية أتذكر جيدًا الطماطم الطبيعية التي كنا نزرعها فراودتني فكرة إكثار البذور واستغرقت العملية 8 سنوات ثم التقيت بشبكة المهندسين بصفاقس وأطلقنا مشروع "بذرتنا" الذي يهدف إلى احترام الطبيعة وصحة الإنسان والتشجيع على غرس بذورنا الأصلية التي أبدت مقاومة كبيرة جدًا للأمراض والفطريات علاوة على مذاقها الطيب ورائحتها الزكية".

ويضيف محدث "الترا تونس": قمت كذلك بزراعة "الطماطم الفضية" التي وجدت بعضًا من بذورها صدفة وتمكنت من إكثارها شيئًا فشيئًا حتى أصبحت متوفرة اليوم، لكنّ الطماطم الحزقية وتدعى طماطم مجردة عمل على إرجاعها كريم زردوم".

 

صورة
البحري السالمي وهو بصدد جني محصوله من الطماطم الأصلية (الصورة من صفحته على فيسبوك)

 

ولفت البحري السالمي إلى أن منتجاته سواء الطماطم أو الفلفل أو البطيخ لا تستهلك لا مقويات ولا مواد كيميائية ضد الحشرات بل تتم مقاومة الحشرات بحشرات أخرى تقوم بتوازن بيئي وهو ما يعرف بالمكافحة الحشرية وهي تجربة كان سباقًا فيها بالتشاور مع مهندسين فلاحيين، مبينًا أن هذه الطريقة غير مكلفة لأن الأدوية والأسمدة أصبحت باهظة الثمن.

البحري السالمي لـ"الترا تونس": في بداية مشواري الفلاحي تعرضت لكثير من النقد من الفلاحين الذين اعتقدوا أن طريقتي البيولوجية لن تأتي أكلها لكن بعد تمكني من تحقيق أهدافي أثارت التجربة إعجاب الكثيرين ونالت منتجاتي رضاء المستهلك

ورجح المتحدث أنّ الفلاحين التونسيين يستسهلون محاربة الحشرات بالأسمدة الكيميائية لجهلهم بالطرق البيولوجية التي تمكن من إنقاذ المحصول كذلك بسبب استقاء التجارب من الفلاحين الآخرين أو من بائعي الأسمدة الذين يدعونهم لتجربة العديد من الأدوية دون مراعاة جيب الفلاح ولا صحة الإنسان. 

كما أشار أيضًا إلى أن المكافحة الحشرية ليست في عاداتنا وتقاليدنا والفلاح لا يستطيع الإيمان بأن الطفيليات التي لا يراها بالعين المجردة قادرة على محاربة الحشرات وهذا يدخل في خانة الوعي الذي وجب العمل عليه جيدًا.

 

 

ولفت السالمي إلى أنه في بداية مشواره الفلاحي تعرض لكثير من النقد والشفقة أيضًا من قبل الفلاحين الذين اعتقدوا أن طريقته البيولوجية في الزراعة لن تأتي أكلها، لكن بعد تمكنه من تحقيق أهدافه أثارت التجربة إعجاب الكثيرين كما نالت منتجاته المتنوعة رضاء المستهلك الذي وجد فيها مذاق فواكه وخضر الماضي، مشيرًا إلى أن الشريحة التي تقبل على المنتَج الطبيعي هي من الطبقة المثقفة الواعية بخطورة السموم الموجودة في الخضروات الأخرى والتي تقدر قيمة المنتجات البيولوجية، لكن المواطن البسيط بالكاد يبحث عما يسد رمقه على الرغم من أنّ الفرق في الأسعار ليس كبيرًا ولا يتجاوز الدينار الواحد أو أقل.  

 

صورة
عينة من الطماطم التونسية الأصلية التي أنتجها الفلاح البحري السالمي (الصورة من صفحته على فيسبوك)

 

ولاحظ محدث "الترا تونس" وجود عودة قوية جدًا للبذور الأصلية نظرًا للعديد من الأسباب أهمها الفرق الكبير بينها وبين البذور المهجنة التي تستحق الكثير من الأدوية لتصمد حتى موعد جنيها على عكس البذرة الأصلية التي أثبتت أنها ابنة هذه البيئة، علاوة على أن المستهلك لاحظ انتشار الأمراض خاصة منها السرطانية الناتجة عن استعمال الكم الهائل من الأدوية الكيميائية في الخضروات، مبينًا أن المعلومات التي يتداولها بعض الفلاحين تفيد بأنّ حشرة مدمرة انتشرت مؤخرًا تتم مقاومتها بأدوية مهرّبة درجة سميتها عالية جدًا مع ذلك يتم استعمالها في سبيل إنجاح المحصول.

البحري السالمي لـ"الترا تونس": قدمت البذور الأصلية التي قمت بإكثارها لبنك البذور وتم قبولها وأكد البنك أنها أبدت مقاومة للفطريات بدون مواد كيميائية وانطلق في إكثارها وتوزيعها على الفلاحين

وأشار السالمي إلى أنّه قدم البذور الأصلية التي قام بإكثارها لبنك البذور وتم قبولها، لافتًا إلى أن بنك البذور نشر على صفحته الرسمية بفيسبوك تدوينة أكد فيها أن هذه البذور أبدت مقاومة للفطريات بدون مواد كيميائية، وانطلق في إكثارها وتوزيعها على الفلاحين.

 

 

  • عودة للأصل

شجع نجاح أغلب التجارب في مجال إكثار وزراعة البذور الأصلية العديد من الشباب على خوض غمار التجربة التي تعود بالنفع على البيئة وصحة الإنسان وعلى الفلاح كذلك. وقد ساهم تبادل البذور والخبرات في توفر البذور الأصلية التي كانت نادرة ويصعب الحصول عليها، وهو مؤشر إيجابي يبعث على التفاؤل بإمكانية العودة للفلاحة البيولوجية في ظرف سنوات إذا ما توفرت الإرادة. 

شجع نجاح أغلب التجارب في مجال إكثار وزراعة البذور الأصلية العديد من الشباب على خوض غمار التجربة وقد ساهم تبادل البذور والخبرات في توفر البذور الأصلية التي كانت نادرة ويصعب الحصول عليها

وتؤكد خولة نصيب، وهي فلاحة أصيلة منطقة العلندة بقفصة الجنوبية، أن والدها كان في السابق لا يزرع سوى البذور الأصلية لكنها انقرضت بسبب موجة الجفاف التي شهدتها البلاد في السنوات الأخيرة، مستدركة أنّ حلم الفلاحة البيولوجية والبذور الأصلية ظل يراودها حتى تمكنت من الحصول على عينة من القمح الأصلي من حسن الشتيوي وكان مردوده وفيرًا مقارنة بالقمح المهجن.

 

صورة
بذور "الشتيوي" الأصلية

 

وأضافت نصيب في حديثها لـ"الترا تونس" أنها بالنسبة للبذور الأصلية الأخرى كبذور البطيخ تحصلت عليها من معرض تمغزة للبذور الأصلية، أما بقية البذور فقد جمعتها من فلاحين يقومون بإكثار البذور الأصلية وتمكنت بذلك من زراعة الفلفل والبصل والذرة والطماطم والسبانخ والبقدونس بطريقة بيولوجية لا تستعمل فيها سوى المياه والأسمدة العضوية "الغبار". كما أشارت إلى أن البعض من منتجاتها للاستهلاك العائلي فقط أما البعض الآخر فتروجه للمستهلك.    

خولة نصيب (فلاحة) لـ"الترا تونس": تمكنت من الحصول على عينة من القمح الأصلي من حسن الشتيوي وكان مردوده وفيرًا مقارنة بالقمح المهجن كما جمعت بذورًا أصلية أخرى من فلاحين يقومون بإكثارها وتوزيعها

وأشادت خولة نصيب بالقدرة العالية للبذور الأصلية على التأقلم مع المناخ، مبينة أن الفلاحة البيولوجية صعبة لكن قدرة البذور الأصلية على التغلب على الأمراض مكنت من إنجاح التجربة. وقد لفتت إلى أن إكثار البذور الأصلية كان شحيحًا في السنوات الماضية لكنها متوفرة هذه السنة في جميع محافظات البلاد بفضل تكاتف جهود الفلاحين الذين يسعون لإعادة البذور الأصلية.

في المقابل، تظلّ المنتجات البيولوجية غير متاحة للمواطن التونسي في المساحات الكبرى والأماكن التي يرتادها للتسوّق وهو ما يعيبه العديد من المستهلكين الذين يرغبون في تعميم المنتجات البيولوجية على العديد من نقاط البيع.