تتوارث العائلات التونسية جملة من الخصائص المشتركة في اللباس والزينة، وتتفرّد كل جهة بخصوصية يفوح منها عبق التاريخ ورائحة الأجداد الذين تركوا إرثًا في كل ركن من سلوكهم وحياتهم الاجتماعية.
وبمرور الزمن وتطور العصر، بقي من آثار الأولين قديمًا وحديثًا، ما صمد أمام متغيرات الزمن وتشبث به الأهالي وجعلوه رمزًا من رموز الهُوية وبصمة من بصمات الانتماء، ولعلّ ما حافظت عليه النسوة من تقاليد الرداء والأزياء، يبقى الأجمل في حضارة هذا البلد.
تتزين النساء والفتيات بـ"الفوطة والبلوزة " وأخريات بـ"التخليلة" ويتباهين بالأجمل والأدقّ في فن "الطريزة" والحياكة والأغلى سعرًا
وقد تبحث اليوم عن بعض خصائص الزيّ النسويّ التقليدي فتجدها لا تزال حيّة في كثير من المنازل والدّور عند أمهاتنا وجداتنا اللاتي يرتدين "التخليلة" بألوانها المختلفة حسب المنطقة في البلاد، كما لا تزال النساء يحافظن على طريقة اللباس ومظاهر التجمّل التي تحفّها من مصوغ وزينة.
ولكن قد تذهب إلى حفل زفاف أو احتفال عائلي فتكتشف عندئذ أزياء قد التحفت الحضارة، فعرّت عنها القديم وألبست فيها لمسات الحداثة والتجديد، فقد تعرف بعضها من تلك الذاكرة المترسّبة في ذهنك وتنكر ألبسة أخرى لشذوذها وغرابتها عن مألوف التراث ومثال ذلك "الفوطة والبلوزة" التي سنتطرّق إليها في هذا التقرير.
كانت تحدثني أمي عن مظاهر الزينة والفرح في حفلات الأعراس في أواسط القرن الماضي، إذ تتزين النساء والفتيات بـ"الفوطة والبلوزة" وأخريات بـ"التخليلة" ليبرزن مفاتنهن بين الأهل والأنداد والعشيرة، وكنّ يتباهين بالأجمل والأدقّ في فن "الطريزة" (التطريز) والحياكة والأغلى كلفة، وكانت مقاييس الجمال متعددة ولعل أعلاها ما أبرز مواطن الجمال وأخرج الفتاة للكمال.
وكانت تقول جدتي إن "تزيّن المرأة كان بعيدًا عن أعين الأغراب وشوق الأحباب، وكانت المحافل بعيدًا عن أعين الرقيب وتحت حراسة الأهل الأشداء حتى لا يدخل أو يظهر على النسوة ذكر أو بالغ من الرجال".
مختصة في تطريز الألبسة التقليدية وخياطتها لـ"الترا تونس": "الفوطة والبلوزة" لباس مكوّن من قطعتين منفصلتين، يعتبر رمزًا من رموز التراث المادي التونسي
وقد أحصى المهتمون بالأزياء التراثية، العشرات من الألبسة التقليدية المتوارثة منذ مئات السنين وأرجعوها إلى أصولها الإثنية الدينية والعرقية والجهوية، غير أننا اخترنا في هذا التقرير الحديث عن التجديد في زي "الفوطة والبلوزة" وكذلك "التخليلة" باعتبار أن هذه الألبسة قد مثّلت موضة هذه السنة وشدّت إليها المرأة التونسية من جديد.
كلثوم القابسي مختصة في تطريز الألبسة التقليدية وخياطتها، التقيناها في ورشتها وحدثتنا عن خصائص الأزياء التقليدية بين الموروث والتجديد ومن بينها "الفوطة والبلوزة" التي تشتهر بها مدن الساحل والوسط والشمال الشرقي خاصة، "ويعتبر هذا اللباس المميز رمزًا من رموز التراث المادي التونسي وكانت ترتديه النسوة في المنازل كما يرتدينه في المناسبات العائلية وخاصة في الأفراح".
وتقول كلثوم القابسي: "الفوطة والبلوزة" قطعتان منفصلتان، الفوطة تلتحف بها الفتاة وتبسط بطريقة جميلة على الحزام وتشدّ بـ"الدكة" (حزام) وكانت الفوطة طويلة وتبرز بشكل ما جمال المرأة، وتكون الفوطة مطرزة بالعقيق والعدس والكونتيل (سلك لولبي معدني فضي أو مذهب) ويتضمن الرسم على الحرير رسومات نباتية جميلة وأشكال هندسية فائقة الدقة، وفقها.
وتضيف كلثوم: "كنا نحوك الفوطة والبلوزة بالسلك المعدني الفضي، ونطرز جل الرسومات، غير أن ارتفاع الكلفة اليوم يجعل من الزبون عاجزًا عن اقتنائها، فصرنا نخيط ذلك بآلة الخياطة إلا من أراد التطريز حسب الطلب، كما أن نوعية (العدس) قد اختلفت، فأصبحت من نوع بلاستيكي وهو أقل كلفة كذلك، ولا زلنا نحافظ على الألوان المختلفة للفوطة والبلوزة وما يسرّ من أذواق رفيعة كما نتفنن في التصاميم"، وفقها.
وتتابع القابسي: "فالبلوزة -وهي الجزء العلوي من اللباس- يزيّن الصدر ويطرز بدقة فائقة ويحافظ على رسومات مطرزة بأجود أنواع المعادن اللولبية (الكونتيل)، وكانت المرأة تقتنيه عند الزواج وتحتفظ به بين ملابسها المميزة، أما اليوم فقد عادت بقوة تقاليد ارتداء الفوطة والبلوزة ولكن بطريقة حياكة عصرية أقل كلفة من السابق، وتقبل عليه المرأة سواء بالاقتناء أو بالكراء لحضور حفلات الزفاف ومراسم الأفراح".
كلثوم القابسي لـ"الترا تونس": ارتفاع الكلفة اليوم يجعل من الزبون عاجزًا عن اقتناء "الفوطة والبلوزة" كما كنا نحوكها، فصرنا نخيطها بالآلة بدلًا من التطريز
غير أن كلثوم تتحفظ عن التصاميم الرائجة للفوطة والبلوزة والتي أخرجتها من تصميمها الأصيل لتنتقل بها إلى نوع جديد لا صلة له بالتصميم التقليدي، "فالفتيات أصبحن يرتدين الفوطة بشكل لا يغطي إلا جزءًا من الساقين أو ألا تغطي البلوزة (الجزء العلوي) الصدر بشكل جيد.. ولعل هذا التغيير قد يشوه طبيعة الألبسة التقليدية ذات الخصوصية الاجتماعية والثقافية المحلية" وفق وصفها.
وتذكر كلثوم القابسي أن"الفتاة تلبس الفوطة والبلوزة ومعهما الطاقية التي تغطي الرأس، وكانت العروس في سوسة تحوك هذا الزي وتحمله في جهاز العرس وتلبسه اليوم الموالي لليلة الزواج أو اليوم السابع لتاريخه".
كما تشدد كلثوم القابسي على أن "الفوطة والبلوزة النابلية هي الوحيدة التي حافظت على خصائصها التقليدية ولم تشهد طفرة تذهب ببهائها في التصميم على خلاف مناطق أخرى أفقدت التصاميم الحديثة خصوصية الفوطة والبلوزة".
من جهة أخرى، برزت في حفلات هذه السنة عودة إلى "التخليلة" التونسية في الأفراح والحفلات العائلية المفتوحة بتصاميم حديثة وألوان زاهية متميزة مخالفة للمعهود وتتطلع إلى ألوان العصر مع المحافظة على الخطوط العرضية المميزة للرداء والوفية لخصائص وتقاليد الجهة أو المنطقة، إذ نعلم أن لكل بلدة أو جهة خصائصها من حيث اللون وأكسسوارات الرداء من حزام أو مصوغ وحليّ.
كلثوم القابسي لـ"الترا تونس": أصبحت الفوطة لا تغطي إلا جزءًا من الساقين، كما لم تعد البلوزة تغطي الصدر بشكل جيد في التصاميم الجديدة، ولعل هذا التغيير قد يشوه طبيعة اللباس التقليدي
والتخليلة هي "لباس تقليدي خاص بالمرأة وصار من النادر اليوم أن تلبسه المرأة عند خروجها إلا في بعض المناطق والمدن، وتُلبس التخليلة في الأيام العادية والمناسبات على حدّ السواء"، ونذكر من أنواعها:
- "تخليلة ختارش" وهي لباس مختص به أهل السواسي وأرياف المهدية وتكون بنفسجية داكنة وهي لباس يومي.
- "تخليلة حب رمان": حمراء باهرة وتتخللها خيوط بيضاء دقيقة وهي لباس في المناسبات الخفيفة كالأعياد والمناسبات العائلية وتلبس كلباس عادي كذلك بجهة حمام سوسة والقلعة الكبرى والقلعة الصغرى.
- "التخليلة المطروزة": تكون حمراء داكنة وتكلّل بعديد الأشكال المرسومة عليها بالعدس والكونتيل والعقيق والسلك (خيوط معدنية فضية أو ذهبية)
- "التخليلة الكحلة": تتميز بالبساطة وخلوّها من الإضافات، وتلبس كلباس يومي عند البدو وأهل المناطق الداخلية"، وفق ما ذكره المختص في الأزياء أشرف العثماني.
وتقول كلثوم القابسي المختصة في حياكة وتصميم الملابس التقليدية: "التخليلة التونسية تشهد عودة بارزة كزي مميز يقع ارتداؤه في المحافل العائلية، غير أن طريقة تطريز التخليلة صارت بالآلة، في حين كان التطريز سابقًا يدويًا، كما أن نوعية الأقمشة تغيرت فلم تعد حريرية بل من نوع (الساتان)، كما أن الإضافات من حلي و(مناقش) لم يعد ذهبيًا أو فضيًا أصليًا، بل من النوع النحاسي المقلّد الحديث"، وفق تأكيدها.
كلثوم القابسي لـ"الترا تونس": التخليلة التونسية تشهد عودة بارزة كزي مميز غير أن طريقة تطريزها صارت بالآلة، بعد أن كان يدويًا في السابق
كما كانت كلفة "الحرام" (الغطاء الرأسي)، وفق القابسي، "تصل إلى ألف دينار تونسية، بالنظر إلى كونها حريرية وتحاك بخيط الفضة أو الذهب، ولا تزال بعض المناطق تحافظ على الطريقة المكلفة التقليدية مثل المكنين والبقالطة والمهدية وتخرج بها العروس ضمن الجهاز".
وتضيف كلثوم القابسي: "إن المهتمين بالتراث التونسي في الألبسة يحصون العشرات من أنواع التخليلة التونسية وهي جديرة بالدراسة والتدقيق لأنها تكشف خصائص كل مجتمع، وما يوحّد الزي التونسي هو التشابه الكبير في التصاميم والحياكة".
إن استعادة التقاليد التونسية المنسية في اللباس وأكسسواراته من حليّ وزينة، قد يجعلنا في تواصل مستمر بين الماضي والحاضر، ونستشرف منه آفاق الحفاظ على الخصوصية والهُوية المحلية بما يخلق تمايزًا عن الآخر، غير أن التصاميم التي لا تنضبط إلى العناصر الأصيلة المكونة للباس، قد يفقدها جماليتها الضاربة في التاريخ حتى بات الخروج عن الخط الأصيل ضربًا للخصوصيات الثقافية وانصهارًا في الآخر الغريب.