24-فبراير-2023
فريلانس عمل حر تونس

أستاذ جامعي: الشاب التونسي يُدفع دفعًا نحو "الفريلانس" في ظل انسداد الآفاق (getty)

 

تصدير: من أنا؟ أنا ما قالت الكلمات كن جسدي، فكنت لنبرها جسدًا..

لا أرض فوق الأرض تحملني.. فيحملني كلامي طائرًا متفرعًا مني ويبني عشّ رحلته أمامي، في حطامي.. 

(محمود درويش)


 

إلى حدّ قريب، كانت المجتمعات تنعم بحركة التاريخ الهادئة وباستقرارها أو ما يسمى في علم الاجتماع بالاستقرار البادي أو الظاهر، في ظل سياسات تنموية واقتصادية مازالت تمتح من مفاهيم مثل "الدولة الراعية" أو "الدولة الأم" أو "الدولة البناءة"، لكن رياح التغيير القاسي المفروضة من قبل القوى الاقتصادية والمالية المهيمنة في العالم كانت تعدّ عدتها وتسرج خيلها من أجل زعزعة ذاك الاستقرار وذاك الهدوء من أجل السيطرة على ما تبقى من ثروات الكوكب، ومن أجل التحكم في مسالك التجارة الدولية وفرض أنماط معيشية معولمة تغيب فيها الخصوصيات المجتمعية. 

أصبح الشاب التونسي المؤهل للعمل يبحث عن الخلاص الفردي بعيدًا عن القطاعين العمومي والخاص، فبرزت في السنوات الأخيرة ظاهرة العمل الحرّ (الفريلانس)

والمجتمع التونسي لم يكن بمنأى عما يحدث في الجنبات، فكل ما خططت له "دولة الاستقلال" من سياسات لبناء حلم "المجتمع المتقدم" تم نسفه بهدوء وأناة منذ تسعينات القرن الماضي وإلى اليوم، تحت عدة مسميات.. حيث بدأت الدولة الأم في تونس بالتخلي عن عدّة أدوار تشبه الواجب كانت تنهض بها وتبذل المال الوفير من أجل توفير مستلزماتها في مجالات كثيرة تهم قطاعات حيوية كالصحة والتعليم والفلاحة والصناعة والتجارة.. وغيرها.

وكان قطاع التشغيل في تونس من أولويات دولة الاستقلال، فهي ترعاه وتذلل كل العقبات والصعوبات التي تعترضه، كما كانت الاختصاصات الجامعية مرتبطة أساسًا بسوق الشغل وخصوصًا المجالين الاقتصادي بمختلف تفريعاته التجارية والصناعية والخدماتية وأيضًا مختلف اختصاصات التعليم، لكن ومع الاختيارات الجديدة، وضمن "سياسات التخلي" و"سياسات الانفتاح" وتحرير القطاعات الحيوية، انهارت تلك المقولة الشهيرة والرائجة لدى عموم التونسيين "المسمار في حيط" كناية عن التشغيل الذي توفره الدولة في القطاع العمومي.

تحول "الفريلانس" إلى سوق يقصدها العديد من الأشخاص بحثًا عن خبرات بعينها، كما تحققت في مجال "العمل الحرّ" العديد من النجاحات الفردية

وفي الأثناء، دخل القطاع الخاص بكل جهوده التنافسية ضمن السياسات الجديدة ليحوز مساحات هامة من خارطة التشغيل في تونس، وكنتيجة حتمية لذلك، أصبحت هناك فوارق في التأجير بين القطاعين العمومي والخاص، وخفت بريق التأجير في القطاع العام رغم الدور التعديلي الذي ما انفك يقوم به الاتحاد العام التونسي للشغل، كبرى النقابات التونسية، لردم تلك الهوة وذاك التباين.

ورغم كل ذلك، وفي ظل الغموض والفوضى التي تهيمن على قطاع التشغيل وارتفاع مؤشر البطالة الذي تجاوز 18% مع موفى سنة 2022، أصبح الشباب التونسي المؤهل للتشغيل يبحث عن الخلاص الفردي بعيدًا عن القطاعين العمومي والخاص.. فبرزت في السنوات الأخيرة ظاهرة "العمل الحر" أو ما يعرف بـ"الفريلانس" والتي تحوّلت إلى ملاذ للعديد من أصحاب الشهائد الجامعية العليا وأصحاب المهارات الفردية.. وتحول "الفريلانس" إلى سوق يقصدها العديد من المواطنين وأصحاب المشاريع والأعمال بحثًا عن خبرات بعينها.. كما تحققت في مجال "العمل الحرّ" العديد من النجاحات الفردية.

"الترا تونس" التقى ببعض الناجحين في مجال "الفريلانس" فكانت هذه قصصهم:

"محمد المؤدب" شاب تونسي لم يتجاوز العقد الثالث من عمره متخرّج من المدرسة العليا للعلوم الإعلامية بالمركب الجامعي بمنوبة بتونس اختصاص تصميم مواقع الويب وإدارة منصات التواصل الاجتماعي، يروي لـ"الترا تونس" قصة نجاحه قائلًا: "كنت أدرك وأنا بعد طالبًا أن البطالة تنتظرني وستأكل سنوات عمري إن ركنت إلى الانتظار للانتداب بإحدى مواقع العمل بالقطاعين العمومي أو الخاص، لذلك فكرّت منذ البداية في اختيار تخصصي الجامعي وذلك بعد أن تيقّنت أن العديد من الشركات والمؤسسات الاقتصادية التونسية والتظاهرات الثقافية والسياسية والرياضية والتربوية، ينقصها إدارة منصات شبكات التواصل الاجتماعي، فكان هذا مسلكي الذهبي".

محمد المؤدب (ثلاثيني) لـ"الترا تونس": كسبتُ عبر عملي الحر في إدارة منصات شبكات التواصل الاجتماعي، مالًا وفيرًا، لا تستطيع أن توفره لي الوظيفة أو "المسمار في حيط"

ويضيف محمد المؤدب أنه كثّف تدريباته في مجال اختصاصه واكتسب مهارات إضافية لم تقدمها الجامعة أثناء التكوين من خلال دورات داخل تونس وخارجها وتحديدًا بمصر، الشيء الذي مكّنه من دخول عالم الاحتراف فأصبح يتم الاتصال به من قبل قيادات في أحزاب سياسية ونشطاء في جمعيات مدنية وشركات ناشئة وفنانين ورياضيين.. من أجل إدارة صفحاتهم على مختلف منصات شبكات التواصل الاجتماعي.. تماشيًا مع مقتضيات الاتصال الحديث.

وأكّد الشاب محمد المؤدب أنه نجح في مختلف المهمات التي أوكلت له وهو يكسب مالًا قدّره بالوفير، مشيرًا إلى أن الوظيفة أو "المسمار في حيط" لا تستطيع أن تمنحه إياه.

"شكري بلال" يقطن بالعاصمة تونس، وهو متخرّج من كلية العلوم ببنزرت وقد بيّن أنه كان متميزًا في المواد المتعلقة باختصاص الكيمياء وقد اختار أن يواصل مساره العلمي في الاختصاص ذاته، وحصل على الماجستير والدكتوراه في وقت وجيز، وأضاف شكري بلال أنه وبالرغم من إغراءات التدريس بالتعليم الثانوي وبالجامعة، فإنه قد اختار طريقًا مغايرًا وذلك بأن يصبح مكوّنًا في صناعة بعض المواد الاستهلاكية مثل العطور ومختلف مواد التنظيف.

شكري بلال (خرّيج كلية العلوم) لـ"الترا تونس": رغم إغراءات التدريس، فإنّي قد اخترت طريقًا مغايرًا، إذ أصبحتُ مكوّنًا في صناعة بعض المواد الاستهلاكية مثل العطور ومواد التنظيف

ويضيف أن البداية كانت مع إحدى الجمعيات التونسية الرائدة في مجال حقوق المرأة حيث درّب مجموعة من السيدات بإحدى الجهات الداخلية للبلاد في كيفية صناعة الصابون السائل والصلب ونجحت الدورة التدريبية وخلقت السيدات المتدربات لأنفسهن موارد شغل من أجل إعالة أنفسهن، وأوضح محدثنا أنه بعد تلك الدورة اكتسب ثقة في النفس مكّنته من مواصلة مشوار التعويل على النفس والذهاب بعيدًا في العمل الحر أو "الفريلانس"، ثم أصبح مكوّنًا محترفًا يقدم دورات تدريبية فردية وجماعية للشباب وللنساء، حتى إنه أحيانًا لا يستطيع تلبية بعض الطلبات، وأوضح بلال أنه أصبح خبيرًا معتمدًا لدى بعض المؤسسات الصناعية المختصة في مواد التنظيف، يراقب جودة المنتوج في مستوى التركيبة الكيميائية.

ويرى الدكتور "شكري بلال" أن التعويل على الذات هو طريق النجاح في تونس اليوم، وخاصة في ظل عدم الاستقرار المجتمعي وفي ظل سوء التأجير في تونس.

رانية العبيدي (اختصاص تصميم المنتوج) لـ"الترا تونس": قررت التعويل على النفس وعدم الانتماء لمؤسسة بعينها وأن تشتغل لحسابي الخاص

أما "رانية العبيدي" وهي شابة من ولاية الكاف بالشمال الغربي التونسي ومتخرّجة حديثًا من المدرسة العليا لعلوم وتكنولوجيات التصميم بتونس فقد ذكرت لـ"الترا تونس" بأنها درست في اختصاص "تصميم المنتوج" وهو مسلك حديث يجمع بين الخيال والفن والتكنولوجيا، ومطلوب في العديد من الاختصاصات الصناعية مثل مخابر صناعة الأدوية والعطور ولعب الأطفال والملابس. 

وتضيف رانية العبيدي أنها قررت التعويل على النفس وعدم الانتماء لمؤسسة بعينها وأن تشتغل لحساب نفسها كـ"فريلانس"، وهنا تروي أن البداية كانت بعرض بعض التصاميم التجريبية على الإنترنت فقام أحد مخابر صناعة الأدوية بالاتصال بها وعرض عليها أن تقوم بتصميم بعض العلب الجذابة لأدوية موجهة للأطفال ونجحت في إقناع لجنة المخبر بتصاميمها، ومن هنا كانت الانطلاقة نحو عروض أخرى بارزة. وقالت إنها أيضًا كانت تواكب كل المستجدات في عالم تطبيقات الإعلامية الخاصة بعلوم التصميم مشيرة في ذات الصدد، إلى أنها شاركت في دورة تدريبية تهم تصميم المنتوج بإيطاليا موضحة أن مجال عملها يتطلب مواكبة دقيقة وهي تسعى لذلك بكل ثبات.

كمال الدين العقيلي (أستاذ عربية) لـ"الترا تونس": أصبحت أعمل كمدقّق لغويّ بمقابل مجزٍ بعد أن أيقنت أن الأمل ضعيف في الالتحاق بالتدريس

"كمال الدين العقيلي" أستاذ عربية متخرج من كلية الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة بتونس، تحدث عن تجربته مع العمل الحر أو "الفريلانس" موضحًا أنه تخرّج من الجامعة بداية الألفية الجديدة وكانت تونس تعيش في أوج أزمة بطالة أصحاب الشهائد العليا، وكانت مناظرة "الكاباس" كالعقبة التي تقطع المرور نحو التشغيل كمدرّس بوزارة التربية، وكان خرّيجو اللغة والآداب والحضارة العربية يعدّون بالمئات. 

وأضاف أنه جلس إلى نفسه ذات يوم وأيقن أن الأمل ضعيف في الالتحاق بالتدريس فقرر في تلك الجلسة أن يبحث لنفسه عن مسلك مغاير، فلمعت في ذهنه مهنة "المدقق اللغوي" وأوضح أنه قد ساعده في ذلك أحد أساتذته بالكلية بأن روّجه في الوسط الجامعي وخصوصًا بين طلبة الماجستير والدكتوراه فأصبح يعمل بمقابل مجزٍ، فأثث مكتبه المنزلي واقتنى حاسوبًا وسيارة وانخرط في عمله الجديد. كما راج اسمه بين دور النشر المرموقة في تونس كمحترف للتدقيق اللغوي يعمل لحسابه الخاص كـ"فريلانس".

وختم "كمال الدين العقيلي" بقوله إن التدقيق اللغوي مهنة مهملة في تونس، فهي تستطيع أن تكون اختصاصًا جامعيًا بكل اللغات وفي مختلف الاختصاصات، وأوضح أنه اكتشف طيلة رحلته مع المهنة أن التدقيق اللغوي فن مرموق في كل المجتمعات، لكنه يغيب في تونس لأسباب مجهولة، كما أن بعض الاختصاصات يذهب أصحابها إلى بلدان مجاورة من أجل الفوز بمدقق.

نوفل بوصرة (مختص في علم نفس الشغل) لـ"الترا تونس": الأرقام والمؤشرات المتعلقة بالعمل الحر في تونس لم تتوفر بعد، وحتى الجامعة التونسية لم تلتفت بعد لهذا الموضوع رغم أهميته

كل تلك التجارب الناجحة في مجال "الفريلانس" حملناها إلى المختص في علم نفس الشغل والباحث بالجامعة التونسية الأستاذ "نوفل بوصرة" الذي أشار منذ البداية إلى أن الدراسات والأرقام والمؤشرات المتعلقة بالعمل الحر أو ما يعرف لدى عموم التونسيين بـ"الفريلانس" في تونس لم تتوفر بعد، وأن الجامعة التونسية نفسها لم تلتفت بعد لهذا الموضوع رغم أهميته.

وأوضح أستاذ علم النفس أن ثقافة التعويل على الذات في مجال العمل الحر تعتبر حديثة في تونس مقابل ثقافة التعويل على الدولة المتأصلة منذ عقود، مشيرًا إلى أنها تتطلب ظروفًا بعينها حتى تسري سريانًا تلقائيًا طبيعيًا لا أن تكون قسرية كما يحدث في السنوات الأخيرة، فالشباب التونسي من خريجي الجامعة ومن أصحاب المهارات والكفاءات يدفع دفعًا نحو "الفريلانس" في ظل انسداد الآفاق أمام أحلامه وأمام صعوده السلّم الاجتماعي.

مختص في علم نفس الشغل لـ"الترا تونس": ثقافة التعويل على الذات في مجال العمل الحر تعتبر حديثة في تونس مقابل ثقافة التعويل على الدولة المتأصلة منذ عقود

وبيّن الأستاذ "نوفل بوصرّة" أن التجارب الناجحة لبعض المغامرين من الشباب وغيره يمكن أن تكون نماذج تأسيس مشجعة لإرساء تلك الثقافة، لكن مقابل ذلك وجب على الدولة أن تساعد أبناء "الفريلانس" بإرساء القوانين الحامية في اختصاصاتهم وأن تمنحهم الصفة التي تليق بهم في المجتمع.

يبقى العمل الحر أو "الفريلانس" في تونس، مغامرة تشغيل يقوم بها أصحاب المعارف والمهارات والصنائع من خرّيجي الجامعة ومراكز التكوين المهني وسط عوالم هشة قد تكلل بالنجاح حينًا وبالخسران حينًا آخر، لكنها في كل الحالات مغامرات تستحق كل الثناء.