مقال رأي
السجن لا يتهدّد القتلة والفاسدين والأفّاكين والمختلسين والمدلّسين والمغتصبين فقط، إنّما يطال كذلك السذّج والبسطاء ومرتكبي الجرائم على سبيل الخطأ، فالقانون لا يحمي المغفلين ومن لا يحسن التدبير. وقد يطال هذا المصير المأساوي المثقّفين ممّن اختاروا إظهار الرفض للنظام القائم والتعبير عن السخط إزاء بعض الاختيارات السياسيّة وفضح التجاوزات والإخلالات الاقتصاديّة والاجتماعيّة الصادرة عن الرؤساء والحكّام وأصحاب النفوذ.
على هذا النحو، يكون سلوك المثقف طبيعيًّا بصرف النظر عن موقعه إعلاميًّا أو إبداعيًّا أو أكاديميًّا، فلا فكر بلا حريّة ولا ثقافة دون التزام، بل إنّ فضح السلطة وهتك أسرارها يعدّ واجبًا لا فكاك منه، فجريمة المثقف لا تكمن في نقد الحكّام والأنظمة بقدر ما تكمن في السكوت عن كلّ أشكال التخلّف والفوضى والظلم والاستبداد. إنّ صمته عن الفساد في مختلف القطاعات لا يقلّ خطورة عن إحجام الطبيب أو المسعف عن إنقاذ مريض، بل إنّ مثلَه في ذلك كمثل الفلاح الذي ينظر إلى الأرض وقد داهمها الانجراف والزرعَ وقد طالته النيران دون أن يحرّك ساكنًا.
جريمة المثقف لا تكمن في نقد الحكّام والأنظمة بقدر ما تكمن في السكوت عن كلّ أشكال التخلّف والفوضى والظلم والاستبداد
المثقّف يمكن أن يكون مواليًا للنظام القائم موالاة تزلّف وتطبيل، فيكسب ماديًّا لكنّه بعد كلّ تحوّل إصلاحيّ أو ثوريّ تراه يجرّ وراءه أذيال الخزي والخسران، ويمكن أن يتوخّى الصمت خوفًا أو تحسّبًا فلا يحقّ له بأيّ حال من الأحوال ادّعاء النضال أو الطمع في منزلة اعتباريّة لا يستحقّها، ولكن قد تدفعه شجاعته وقد يحمله وعيه إلى التمرّد والمواجهة، فيكون مطاردًا، فينتهي به الأمر في الغالب إلى السجن، فيصنّف سجين رأي أو سجينًا سياسيًا، لكن دفعًا للالتباس، لا بدّ من التمييز بين السجين السياسي والسياسي السجين.
-
دعم السياسي المجرم جريمة أخلاقية
ممارسة النشاط السياسي معارضة أو موالاة لا ينبغي بأيّ حال من الأحوال أن تعفي صاحبها من المحاكمة، فلا أحد من النخبة أو الخاصة أو خاصة الخاصة أو أرفع منها أو دونها مرتبة جدير بأن يكون معصومًا من الخطأ، ولا أحد منهم يملك حصانة تحول دون مساءلته واتهامه وامتثاله أمام القضاء، كاتًبا كان أو فقيهًا أو مثقفًا أو مبدعًا أو إعلاميًا أو متحزّبًا أو مفكّرًا أو أكاديميًا أو نقابيًا حتّى إن كان عنصرًا قياديًا في إجلاء الاستعمار.
إذا خالط الرأيَ ثلبٌ أو إفك وإذا شابته الأكاذيب والافتراءات فقدَ ما به يكون الرأي رأيًا
وبناء على ذلك، فإنّ التعاطف التلقائي يمكن أن يبيحه الشعور الإنسانيّ إزاء من زلّت به القدم فسقط من عليائه إلى إحدى مراتب الإجرام، لكنّ إظهار المساندة قولًا أو فعلًا في هذه الوضعيّة يعدّ في رأيي جريمة أخلاقيّة، ولكَمْ يحزّ في نفس المواطن البسيط أن تحظى الشخصيات القيادية والمشهورة في هذه الجبهة أو تلك بالمساندة التي تتخطّى كتابة العرائض والبيانات وتدوين "المساندة اللامشروطة" لتدرك درجة الاستماتة في الدفع نحو تبرئة المتّهم دون العودة إلى حيثيات القضية، استماتة تتشكّل من خلال الإضرابات والوقفات الاحتجاجية في مقرّات العمل والشوارع وأمام المحاكم وقد وصل الأمر ببعض الأطراف إلى التلويح باستعمال القوّة لتحرير المتهمين من قفص الاتهام.
لو سلّمنا بأنّ تلك التحرّكات لا تهدف إلى التأثير في القضاء وإنّما ترمي إلى ضمان محاكمة عادلة، ولمّا كانت المحاكمة العادلة مشروطة وفق هذا التمشّي بالضغط والتنبيه والاحتجاج فمن المنطقيّ أن يحظى كلّ مواطن يخضع للتحقيق والمحاكمة إلى الدعم والإسناد العائلي أو الجهوي أو القطاعي أو غيره!
التعاطف التلقائي يمكن أن يبيحه الشعور الإنسانيّ إزاء من زلّت به القدم فسقط من عليائه إلى إحدى مراتب الإجرام، لكنّ إظهار المساندة قولًا أو فعلًا في هذه الوضعيّة يعدّ في رأيي جريمة أخلاقيّة
ولا نستبعد ونحن تستذكر التجاذبات التي حصلت بعد الثورة التونسية أنّ الكثير من المجرمين فعلًا وقولًا وحجّة وبيّنة قد تخفوا في جلابيب سياسيّة ووراء ربطات عنق حزبيّة ولافتات حقوقيّة ومزايدات نقابيّة بحثًا عن جهة تأويهم وجبهات تحميهم من المساءلة والمحاكمة، هؤلاء وأمثالهم لا يستحقّون الدعم والمساندة وإن فاحت كلماتهم حريّة وكرامة وعدالة، فالعطر لا يطهّر الأجساد المتعفّنة ولا ينوب عن الماء، ماءِ المحاسبة والتوبة الخالصة.
-
الأجدر بالدعم والمساندة
الرأي عندي أنّ الطرف الأجدر بالمساندة المبدئيّة هو بلا شكّ ذاك الذي يُحاكم بسبب مواقفه وأفكاره وأخباره الصادقة الموثوقة التي لا يستسيغها أصحاب النفوذ لأنها تتعارض مع مصالحهم وتقدح في هيبتهم وسلوكهم وأدائهم السياسي أو الإداري.
إذا خالط الرأيَ ثلبٌ أو إفك وإذا لاطت به الأكاذيب والافتراءات فقدَ ما به يكون الرأي رأيًا، فالرأي يشترط في كلّ الأحوال الموضوعيّةَ والمصداقيّةَ ودقةَ اللفظ والمصطلح ومناسبته للمقام، فرُبَّ عبارة في غير محلّها أفسدت أركان النصّ في كلّيته، وربّ كلمة تقول لصاحب الحقّ دعني حتّى لا تشوب قضّتكَ العادلة شائبةٌ أخلاقيّةٌ. إنّ اللفظ لمرْكب الحقائق وزينتها، فمن رام العدل ألبسه ما يليق به من الكلمات المرتبات الحسان، و"ما لا يكون الواجب إلا به فهو أوجب".
الطرف الأجدر بالمساندة المبدئيّة هو بلا شكّ ذاك الذي يُحاكم بسبب مواقفه وأفكاره وأخباره الصادقة الموثوقة التي لا يستسيغها أصحاب النفوذ لأنها تتعارض مع مصالحهم
ولكن مهما يكن من أمر، يظلّ صاحب الرأي -وإن زاغت ألفاظه أحيانًا- أبعد ما يكون عن موضع المجرمين والفاسدين، فمحاكمته غالبًا ما تقوم على ضرب من التعسّف في استعمال القانون ولطالما أساءت هذه الألوان من المحاكمات للشاكي المتظلّم ورفعت شأن المتّهم المشبوه وأكسبته منزلة اعتباريّة قد لا يستحقّها، فالنظام الذي يحاكم الرأي قضائيًا يكون بذلك قد وضع نفسه موضوع محاكمة فكريّة واعتباريّة وحقوقيّة.
-
ماذا لو خسر صاحب الرأي والحجّة والبيان معركته القضائيّة؟
إن خسر صاحب الرأي المعركة القضائيّة فقد كسب الاحترام والتبجيل ونالت مواقفه المتينة حجّةً والسليمةُ بيانًا وتبيينًا شروط الانتشار والسريان على الألسن وإن لم يحظ بهذا كلّه في زمن الزيف والتلبيس فإنّ التاريخ سينصفه وإن حاصر المنتصرون كتب التاريخ وافتروا ودلّسوا الوقائع وحوّلوا المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، فإنّ للحقيقة صوت يظلّ قائمًا يخرج من عقد إلى آخر عند حشرجة الموتى معلنين عن التوبة طالبين الصفح معترفين في شهاداتهم الصادقة وهم على عتبات اليوم الآخر بما اقترفتهم ألسنتهم وما أتتهم أياديهم.
يظلّ صاحب الرأي -وإن زاغت ألفاظه أحيانًا- أبعد ما يكون عن موضع المجرمين والفاسدين، فمحاكمته غالبًا ما تقوم على ضرب من التعسّف في استعمال القانون
وإنّ الحقيقة الأسيرة في الأفئدة لهي أشبه بسحابة في السماء تكون في البدء خفيفة عقيمًا وسرعان ما تصبح سوداء كثيفة رُكاميّة محمّلة بأمطار فتثقل بفعل الضغط، الضغط الجويّ، فتتكثّف وتندمج وتنزل مدرارًا، هكذا هي الحقائق لا بدّ أن تتكثف وتتعاضد وتثقل قبل أن تولد، ألم يقل محمود المسعدي الأديب التونسيّ: "يثقل الكون إذا همَّ أن يكون".
قد ييأس المفكّر من أمّته وبني أهله الذين استكانوا إلى الذلّ والمهانة والعبوديّة ذات اللون الاستهلاكيّ أو التبريري، فيعمد إلى الإعراض عن الكتابة ويعتزل المنابر والمناظرات موهمًا قرّاءه وسامعيه بالنضج والوعي والتوقّي مُرغمًا نفسه على الصمت مدّعيًا أحيانًا في شيء من المبالغة أنّ مساحة الحريّة المتاحة في الوطن العربيّ لا تحتمل سطرًا واحدًا من التعبير عن الحقيقة العارية في غير التواء أو تورية أو مجاز.
ينتهي الأمر بهذا المفكّر إلى حالتين: إمّا أن يعجز عن التخفّي فتنفلت مواقفه الشجاعة من فروج أحاديثه في المشاغل التي ظنّها ناعمة كالفنون والرياضة والعلوم الصحيحة الخالصة، وإمّا أن يفقد شيئًا فشيئًا قدرته على التفكير فهمًا وتفكيكًا وبناءً وتعبيرًا، لأنّ هذه الصناعة -أي الفكر والكتابة والخطابة- تحتاج شأنها شأن كلّ الصناعات إلى التعهّد الدائم والشحذ المستمرّ والممارسة المنتظمة.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"