مقال رأي
كثيرة هي الكتابات حول أدب السجون في العالم، وكثيرة أيضًا المساهمات، في هذا الصنف من الأدب الذي يحبّذ البعض تسميته بأدب الحرية أيضًا، التي قدمها مساجين سياسيون زمن الاستبداد في تونس. وربّما أن البلد قد تشهد بعد سنوات موجة جديدة من النزلاء المقيمين اليوم في سجون البلاد، وهم من السياسيين والصحافيين والمحامين والناشطين عمومًا.
السّجن مكان لسلب الحرية ولكنه قطعًا ليس مكانًا لاغتيالها، هو محنة يجب التكيّف معها. وأيضًا لا يجب أن يتحوّل لمصدر ترهيب لمن هم لا يزالون في الخارج خشية الدخول إليه يومًا ما.
السّجن مكان لسلب الحرية ولكنه قطعًا ليس مكانًا لاغتيالها، هو محنة يجب التكيّف معها، وأيضًا لا يجب أن يتحوّل لمصدر ترهيب لمن هم لا يزالون في الخارج خشية الدخول إليه يومًا ما
فلنكن صريحين، السجن ليس فسحةً. هو موقع يقيّد الحركة في المكان ويقيّد التواصل مع محيطنا في الزمان، حينما يُكتفى بلقاء القريب، زوجًا أو ابنًا أو أمًا أو أبًا، مرة واحدة في الأسبوع لوقت محدود، وتظلّ تنتظر أسبوعًا آخر لتعاود مقابلته، وينسف التفكير في العائلة المقرّبة، عن حالها وأوضاعها، كل الوقت من اليوم البطيء. هذا مرهق وليس يسيرًا بالمرّة.
موضع الثقل هنا ليس هو دفع النزيل كلفة ما، ولكن دفع العائلة برمّتها للكلفة، من جهد ووجع، دون خيار منك. هذا قاتل في بعض المواضع. لا أحد يريد أن يبتعد عن عائلته. الذاتي هو ممّا لا يجب طمسه في الانخراط في الشأن العام.
السجن في تونس ليس بموضع السجون في دول تشبه خدمات سجونها خدمات نزلنا، ولكنه أيضًا ليس بموضع سجون في دول تعامل السجين بمرتبة ما دون الآدمي.
ظروف السجن في تونس وليدة إمكانيات الدولة التي لا تزال بحاجة للتحسين سواءً فيما يتعلّق بالإقامة أو الإعاشة. والسجن لم يعد كما كان قبل الثورة مكانًا لانتهاكات ممنهجة كالتعذيب وسوء المعاملة
ظروف السجن في تونس وليدة إمكانيات الدولة التي لا تزال بحاجة للتحسين سواءً فيما يتعلّق بالإقامة أو الإعاشة. والسجن لم يعد كما كان قبل الثورة مكانًا لانتهاكات ممنهجة كالتعذيب وسوء المعاملة. كان الدرس واضحًا، ليس مطلوب من الإدارة إلا أن تطبق القانون دون انتهاك الحقوق الممنوحة للسجين بقوة القانون.
وربّما قد ساهمت الهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب عبر زياراتها الدورية، دونًا عن زيارات المنظمات الحقوقية كالرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، وكل ذلك بعد الثورة، في إشاعة ثقافة أن السجن هو مكان لقضاء عقوبة وليس مكانًا لانتهاك الكرامة. الحفاظ على ذلك، بل ومواصلة الانخراط في مسار إصلاح المنظومة السجنية، هو ضرورة لأنّ أي انتكاسة، في هذا المضمار، هي انزياحٌ منذرٌ بعواقب خطيرة طواها التونسيون منذ الثورة. وهذا أحد مواضع الاختبار للسلطة اليوم.
السجن بالنسبة للناشط السياسي لا يمكن أن يكون إلا محطة قسرية لا يجب أن تعطّل حرية الفكر وإن عطّلت حرية الحركة. هو ليس مقبرة للأفكار، بل هو بالضرورة مغامرة اضطرارية على درب الحرية
والسجن بالنسبة للناشط السياسي لا يمكن أن يكون إلا كمحطة قسرية لا يجب أن تعطّل حرية الفكر وإن عطّلت حرية الحركة. هذا الدرس المستقى من تجارب من خاضوا هذه المحطة. هو ليس مقبرة للأفكار، بل هو بالضرورة مغامرة اضطرارية على درب الحرية.
الوقت البطيء داخل السجن مهمٌّ محاولة قتله بالقراءة. السجن هنا فرصة تؤمن وقتًا كبيرًا للقراءة في كل التخصصات والمجالات، وهو الوقت الذي لم يمكن توفيره في زمن النشاط اليومي حينما يصعب قضم وقت هادئ في خضم الالتزامات المتسارعة.
هذه ليست دعايةً للسجن قطعًا، ولكن لا بأس أن نحاول افتكاك أي فرصة مفيدة من أنياب المغامرة الاضطرارية. وعديدة هي الشواهد على ما توفّره التجربة السجنية من فرص للتفكّر والتدبّر في آفاق واسعة، على نحو يدفع أحيانًا لمراجعة تقدير أو تصويب خيار، ضمن مسار جهد جماعي، واجب على الجميع، للتغيير نحو ما هو أفضل.
السجن لمن هو خارجه، تحديدًا من يرى نفسه معرضًا للدخول إليه في زمن حقوقي حرج، لا يجب أن يتحوّل إلى مصدر للخوف، وبالتالي عائقًا أمام البذل من أجل الحرية خاصة عبر تقييد حرية الرأي والنشر
وفي الواجهة المغايرة، السجن لمن هو خارجه، تحديدًا من يرى نفسه معرضًا للدخول إليه في زمن حقوقي حرج، لا يجب أن يتحوّل إلى مصدر للخوف، وبالتالي عائقًا أمام البذل من أجل الحرية خاصة عبر تقييد حرية الرأي والنشر. لأنّ عدا ذلك لا يعني إلا بناء سجن متخيّل كبير داخلنا يقيّدنا بأصفادنا، وهو ما يُراد، أي صناعة الترهيب.
وعادت، واقعًا، اليوم مناخات الخوف تدبّ في الفضاء العامّ في ظل سلسلة الملاحقات القضائية خاصة على خلفية تعبيرات لا يمكن أن تصنّف إلا ضمن باب حرية التعبير وخاصة عبر إعمال المرسوم 54 الذي يتخالف مع ضوابط تقييد الحريات. بالنهاية، ثمن الحرية مكلف ولكن ثمن التفريط فيها أكثر كلفة.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"