مقال رأي
لا يمكن أن نتحدث واقعيًا عن أي دور للقضاء، في سياق استقلاليته الراهنة، لمحاربة الفساد دون حسم مسألة أساسية: من الذي يسيطر على من؟ هل التوجه الغالب والأساسي للقضاء مورط في الفساد أم متحصن ضده؟ القضاء والفساد، خصمان أم صنوان؟
"قضاء التعليمات" يصبح عمليًا وموضوعيًا مكوناً أساسيًا في "سيستام" العلاقات المشكلة لمنظومة الفساد
في مراحل الاستبداد، وغياب استقلاليته، من الصعب أن نتحدث عن قضاء قادر على محاربة الفساد. الاستبداد المستقر يخلق ظروفًا طبيعية للفساد، حيث أن الرئيسي في الاستبداد الولاء، أو النجاعة في خدمة نخبة الاستبداد. وتلك نافذة مناسبة للفساد، حيث أنه يقدم ولاء مطلقًا للحاكم لحماية نفسه، ويقدم كل الخدمات الممكنة بما في ذلك عرض الشراكة مع نخبة الاستبداد وتقاسم المغانم في سبيل الحصول على الحصانة السياسية.
"قضاء التعليمات" يصبح عمليًا وموضوعيًا مكوناً أساسيًا في "سيستام" العلاقات المشكلة لمنظومة الفساد. قضاء يترعرع في استبداد كلبيبتوقراطي مثلما كان زمن بن علي مثلاً سيتعرض ضرورة إلى استشراء الفساد. لا يمكن للكليبتوقراطية أن تستمر وتنتعش دون توريط مفاصل القضاء في الفساد. وهذا لا يعني بالمناسبة أن كل القضاء تصيبه العدوى، يحدث أن توجد جيوب للمقاومة، لكنها تتعرض بلا هوادة إلى الملاحقة والتهميش وحتى الاستئصال. وهكذا كان مصير بعض القضاة قبل الثورة من القاضي المختار اليحياوي إلى القاضي أحمد الرحموني والقاضية روضة القرافي والقاضية كلثوم كنو والقاضية ليلى بحرية وآخرين تعرضوا للإقصاء والنقل التعسفية والتشويه.
يبقى أن المرحلة المفصلية الأكثر تعقيدًا، والتي تهمنا في قضية الحال، هي مرحلة نهاية الاستبداد وما يليها من تأسيس ديمقراطي يستوجب من ناحية مبدئية منح القضاء الاستقلالية بوصفه شرطًا أساسياً للمسار الديمقراطي. هنا السؤال الرئيسي الذي تم تجنب طرحه بسبب التجاذبات السياسية العميقة: إلى أي حد يمكن أن نتحدث عن دور ناجع لقضاء مستقل كان في الأغلب مورطًا بهذا الشكل أو ذاك في الفساد بالتواطؤ أو الانتفاع؟ أليست الاستقلالية في هذه الحالة عقبة أمام مكافحة الفساد وخاصة إزاء مسار ديمقراطي سياسي غير حاسم في مكافحة الفساد، حيث كانت حركة النهضة وتمظهرات منظومة قبل الثورة غير معنية بأي معركة حقيقية مع الفساد بل وراثته في كثير من الأحيان؟ غياب الإرادة السياسية لمكافحة الفساد مع قضاء مستقل في أغلبه مريض بسبب عقود الحكم الكليبتوقراطي تعني أننا إزاء مأزق حقيقي.
هناك مفارقات حقيقية حصلت في السنوات الفارطة تؤكد أننا إزاء مسخرة حقيقية حيث كان المستفيد الأساسي من مكسب استقلالية القضاء الدوائر الأكثر فسادًا في القضاء
هناك مفارقات حقيقية حصلت في السنوات الفارطة تؤكد أننا إزاء مسخرة حقيقية حيث كان المستفيد الأساسي من مكسب استقلالية القضاء الدوائر الأكثر فسادًا في القضاء، بل إن مرحلة الانتقال الديمقراطي كانت فرصة ذهبية لتوسيع نفوذها ومنافعها. استقلالية القضاء بهذا المعنى هي أحد أهم عوامل تشكل ديمقراطية فاسدة إلى جانب الإفساد السياسي للديمقراطية.
مفتاح فهم هذه القصة يكمن أساساً في اسم محوري: الطيب راشد، قاضي القضاة رئيس محكمة التعقيب الموقوف عن العمل أخيرًا بعد ضغوطات كبيرة ومماطلة كبيرة من المجلس الأعلى للقضاء الذي تجنب بشكل واضح الحسم في الموضوع وكان منقسمًا بشدة.
الطيب راشد حسب التقرير الدقيق الذي صاغه غريمه الأول القاضي البشير العكرمي تحوّز باسمه مباشرة ودون محاولة التواري: على 15 رسم عقاري في أماكن مختلفة خاصة في العاصمة، وضيعات فلاحية بالهكتارات بأسعار منخفضة جدًا بما يوحي أنه تحصل عليها عمليًا "على وجه الفضل". الطيب راشد بصفته "قاضي القضاة" منذ 2019 أشرف عمليًا على تنسيق نقض قضايا تتضمن خطايا ضخمة لعدد من كبار المشرفين على التجارة الموازية، عشرات المليارات من الخطايا التي كان من المفروض دفعها للدولة، تم ببساطة فسخها بقرار النقض. الطيب راشد ليس شخصًا بل هو شبكة من القضاة والعلاقات.
الطيب راشد بصفته "قاضي القضاة" منذ 2019 أشرف عمليًا على تنسيق نقض قضايا تتضمن خطايا ضخمة لعدد من كبار المشرفين على التجارة الموازية، عشرات المليارات من الخطايا التي كان من المفروض دفعها للدولة، تم ببساطة فسخها بقرار النقض
والفضيحة الأخرى أنه قبل أن يصبح الرئيس الأول لمحكمة التعقيب كان لسنوات طويلة منذ ما قبل الثورة إلى سنة 2016 المشرف عمليًا على تفقدية وزارة العدل! يعني شخص مشبوه بالفساد كان هو من يتلقى لسنوات تقارير شكايات بالفساد في القضاة.
يمكن أن نتخيل أن الشكايات لم تكن أصلاً لتجد طريقها للمحاسبة بل ربما كانت أداة لانتداب فاسدين آخرين في شبكته. وهنا السؤال البسيط الطبيعي الذي يجب طرحه: ما هو أثر الثورة في القضاء باستثناء بناء مؤسسات للتضامن القطاعي وآليات استقلالية للقضاة؟ هل تم مكافحة الفساد في الجهاز الذي من المفترض أن يقود الحرب على الفساد؟ لا. ببساطة أحد أهم مظاهر وجود ديمقراطية فاسدة في العشر سنوات الأخيرة هو لأن الطيب راشد وشبهه كانوا يسيطرون على السلطة الثالثة في البلاد.
هناك بعض الأمل خاصة في الجسم الأقلي الذي تمثله "جمعية القضاة". آخر بياناتهم حملت نقدًا واضحًا لحركة القضاة والتي لم تعكس أي نية في وضع قضاة نظاف أقوياء في مواقع حساسة خاصة قطب القضاء المالي وقطب مكافحة الإرهاب
هناك بعض الأمل خاصة في الجسم الأقلي الذي تمثله "جمعية القضاة". آخر بياناتهم حملت نقدًا واضحًا لحركة القضاة والتي لم تعكس أي نية في وضع قضاة نظاف أقوياء في مواقع حساسة خاصة قطب القضاء المالي وقطب مكافحة الإرهاب. أهم فقرة في البيان الصادر في 26 أوت/ أغسطس الجاري تتضمن الفقرة التالية: "وأكدت الجمعية تجاهل ما يقتضيه الاستحقاق الوطني لمكافحة الفساد من إصلاحات ومراجعات ضرورية ومتأكدة صلب القطب الاقتصادي والمالي وقطب مكافحة الإرهاب وإبقاء القطبين خارج أعمال الحركة رغم الإعلان عن بعض الشغورات بهما ضمن شغورات الإعداد للحركة بتاريخ 27 ماي/ آيار 2021 ورغم ما تبيّن من ضعف أداء القطب الاقتصادي والمالي في تحقيق نتائج جدية في مكافحة الفساد بالناجعة المطلوبة نوعيًا وزمنيًا ورغم ما تتيحه الحركة من فرصة حقيقية للتناظر بين القضاة لاختيار أفضلهم من حيث الاستقلالية والشجاعة والحيادية والنزاهة والكفاءة المهنية العالية في إطار عملية إصلاح شاملة لهذه الأقطاب حتى يتسنى الارتقاء بأدائهما ونجاعتهما لما هو مطلوب".
دون قضاء جاد في محاربة الفساد فإن استقلالية القضاء للأسف تصبح مطية للتغطية على الفساد. تطهير القضاء لذاته مسألة حيوية. وإلا يمكن أن نجد أنفسنا في سياق "الحالة الاستثنائية" الحالية في وضع يسمح للرئيس قيس سعيّد الذي علق أصلًا صلاحيات المؤسسة التشريعية في وضع يعلق فيه صلاحيات المجلس الأعلى للقضاء والعودة ربما لقانون 1967. هل يمكن للقضاة أن يطهروا أنفسهم قبل أن ندخل منعرج معركة الاستقلالية من جديد، وهو ما سيكون ملاذ القضاة الفاسدين للتغطية على وضعهم وشبكة علاقاتهم؟
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"
اقرأ/ي أيضًا:
جمعية القضاة التونسيين: جملة من الإخلالات شابت الحركة القضائية الأخيرة