29-فبراير-2024
الحلاق المنصف عبد اللاوي

محسن عبد اللاوي حلاق في المدينة العتيقة بسوسة ارتأى المحافظة على الطابع الأصلي للحلاقة التقليدية

 

مرتديًا ميدعة بيضاء، ماسكًا بكلتا يديه فرشاة تنظيف أمام دكانه الصغير، ينثر الماء هنا وهناك لينفضّ الغبار من حوله، ويتهيّأ لبداية يوم جديد يستقبل فيه الزبائن. صوت المذياع كان عاليًا، يؤثث لمزيد من المعلومات التي يتزود بها صديقنا الحلاق محسن عبد اللاوي حتى يبهر بها الوافدين عليه طول اليوم. وكانت الأغاني المعتّقة تضفي على المحلّ والأجوار هالة من قداسة الماضي العطر خاصّة وأنّ دكان الحلاقة هذا يجاور سوقًا للخضار في المدينة العتيقة بسوسة ومحلات تجارية متزاحمة تنبعث منها رائحة التاريخ فيكون الصباح بطعم الحياة المتجددة المليئة بالأمل.

كنت أتجه نحو حلاّق الحيّ "الحومة" وفي نفسي شوق لأظفر بحلاقة ذقن محلّاة بثرثرته المعهودة دون أن أشعره بأني سأخطّ ما سيجري بيننا من حوار، فمن شيم حلاقنا أنه لا يعبأ بالمقابلات الصحفية فهو الذي يعتبر نفسه محاورًا فذًّا مع كلّ الرؤوس التي تذعن لموسه مطأطأة وهو العالم بخفايا الأمور ومستجداتها، فهو يرى أنه مصدر المعلومة ولا ينافسه في ذلك أحد.

محسن عبد اللاوي حلاق في المدينة العتيقة بسوسة ارتأى المحافظة على الطابع الأصلي للحلاقة التقليدية فهو لا يزال إلى اليوم يستعمل أدوات غير مستحدثة وتجد بدكانه الصغير مذياعًا يصدح بالأغاني المعتقة تزيد من رونق المكان وبهجته

استقبلني مرحّبًا كالعادة بشوشًا متطلّعًا إلى الجديد في عالم السياسة والثقافة والرياضة، متسائلًا عن الأحداث الأخيرة التي جدّت بالمدينة العتيقة والتي تتمثل في عزم الإدارة المحلّية على إخلاء بعض الأزقة من المنتصبين الفوضويين الذين ضاق بهم المكان وعن مآل هؤلاء الباعة الذين فقدوا مصدر رزقهم.

كانت المواضيع متزاحمة حتى كدت لا أجلس على كرسيّ الحلاقة القديم الذي طالما تشعر بالاستسلام فيه لمّا تذعن لقدر شفرة الحلاق وهو يصول ويجول في مسطحات الرأس والذقن. كان الدكان ضيقًا صغيرًا يتسع لزبونين ولثالث يبقى جالسًا مترقبًا دوره، وعالم المرآة أمامك يعكس حركة الشارع خلفك خارجًا حتى لا تكاد تتفحص حلاقتك بقدر ما كنت تريد أن تتطلّع بعينيك إلى الأحداث التي تدور حولك في الشارع.

 

صورة
يوجد دكان الحلاق محسن عبد اللاوي بالمدينة العتيقة بسوسة بجوار السوق (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

 

اصطفت أدوات الحلاقة على منضدة رخاميّة بيضاء أمامه وكأنها أدوات الجراحة لدى الطبيب، وحلاقنا محسن عبد اللاوي لم يفارق آلاته قديمة التصميم من مقصّات وشفرات وفرشاة وحتى العطور منها تلك التي كان يستعملها في تعطير الأجداد ونطلق عليها "القوارص"، وكم كنت أحب تلك الرائحة التي تذكرني بالصّبا ممتزجة برائحة "الغبرة" وهي  مسحوق أبيض يستعمله الحلاق لترطيب الذقن، وحتى رائحة الصابون كانت مميّزة. ولم يكن الجمال فقط في تلك المواد المعطّرة وإنما في ذاك الشعور بطيب المكان ونظافته وكأنه الوصل بين الروح والجسد خاصّة وأننا نسعى إلى أن نتطيّب ونحلق أيام الخميس والجمعة أو يوم الأحد لاستقبال أسبوع جديد.

الحلاق محسن عبد اللاوي لم يفارق آلاته قديمة التصميم من مقصّات وشفرات وفرشاة وحتى العطور منها تلك التي كان يستعملها في تعطير الأجداد ونطلق عليها "القوارص" ممتزجة برائحة "الغبرة" وهي  مسحوق أبيض يستعمله لترطيب الذقن

ما إن جلست على كرسيّ الحلاقة لأحادث المنصف حتى أطلّ علينا أحد جيرانه ويدعى "زياد" مشاكسًا إياه كعادته الصباحيّة فاستفزّه بخبر رياضي حتى تعالت أصواتهما وكأنهما في خصام ثم التفت إليّ الحلاق مبتسمًا: لا تنزعج إنه عراك "طبابليّة" (يعني بها عراك أجوف غير جدي). 

 

صورة
الحلاق محسن عبد اللاوي لم يفارق آلاته قديمة التصميم من مقصّات وشفرات وفرشاة (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

 

تقلّد محسن مهنة الحلاقة عن أبيه عمر عبد اللاوي الذي كان يملك دكانًا في سوق الربع داخل أسواق المدينة العتيقة ثم انتقل إلى هذا المكان المجاور للسابق وأسرّ لمراسل "الترا تونس" أنه  انقطع عن الدراسة في سنّ مبكّرة ورافق أباه لعقود فحدّثنا عنه بحرقة وروى لنا سيرته في هذه المهنة قائلًا: "كان أهالي المدينة العتيقة يتوافدون على دكان أبي من أجل الحلاقة ومن بينهم من يؤثر الجلوس عنده كل مساء بعد العودة من العمل فيتناولون الشاي ويتبادلون أحداث اليوم ويتنقلون بين المستجدات في الحي والوطن وشؤون العرب والعجم، فكان المجلس ردهة إعلاميّة في ذاك العصر".

يقول محسن الذي ورث مهنة الحلاقة أبيه عمر عبد اللاوي: كان أهالي المدينة العتيقة يتوافدون على دكان أبي ومن بينهم من يؤثر الجلوس عنده كل مساء بعد العودة من العمل فيتناولون الشاي ويتبادلون أحداث اليوم ويتنقلون بين المستجدات في الحي والوطن وشؤون العرب والعجم

وأضاف محسن عبد اللاوي: "لم يكن الحلاق مجرّد ممارس لحرفة، بل إنه يكتنز ذاكرة المجتمع وخصوصياته الثقافية والأخلاقية، ففي هذا الدكان كانت تُتركك الأمانات عند أبي ويدرك المحتاج ضالّته عند من يريد لقياه وحتى الرّسائل كانت تؤتمن عند أبي لما يأتي بها موزع البريد حتى تصل لأصحابها. وهناك من يحتكم إلى والدي عند الخصام نظرًا للمكانة التي كان يحظى بها لدى العامة، كما يدرك الزبائن أن هذا المحلّ بئر أسرار الحيّ والمدينة ففيه يتداول الخبر وتنكشف خفاياه".

أصرّ محسن الحلاق على أنه تعمّد عدم تطوير مهنته وعدم تحويل دكانه إلى "صالون حلاقة" بالمعنى الحديث وتزويده بآلات القصّ والنظافة الحديثة اعتقادًا منه أن الأصل في الشيء هو قصّ شعر الرأس والذقن بغاية إزالة ما طال وزاد عن اللزوم حتى يظهر الشخص في مقام لائق فحسب، واستنكر إمعان هذا الجيل في التزيّن وتقليد المشاهير وإسهابه في ابتداع تقليعات جديدة".

 

صورة
تقلّد محسن مهنة الحلاقة التي ورثها عن أبيه عمر عبد اللاوي (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

 

صورة
حلاق تقليدي

 

حدثنا محسن عن سيرة أبيه عمر فقال: "لم يكن أبي حلاقًا فحسب بل كان يختن الأطفال أيضًا، ويسمى باللهجة التونسية "طهّار"، وكان يتنقل بحقيبته من مكان إلى آخر لختان الأطفال وكان مشهودًا له بإتقانه هذه المهنة حتى أنه كان يتنقل مع بعض العائلات التي تحتفل بالختان في مقام أبي زمعة البلويّ بالقيروان. ولم يخالف أبي القاعدة الاجتماعية في كون الحلاق قد يكون ممرّضًا كذلك، لكنه لم يكن من بين أولئك الذين يقتلعون الأضراس والأسنان أو من يمتهنون التدليك".

محسن متحدثًا عن والده الذي ورث مهنة الحلاقة عنه:  "لم يكن أبي حلاقًا فحسب بل كان يختن الأطفال أيضًا وكان يتنقل بحقيبته من مكان إلى آخر لختان الأطفال وكان مشهودًا له بإتقانه هذه المهنة

استرسل محسن عبد اللاوي الحديث قائلًا: "الحلاق ثرثار، أؤيّد هذا القول بقوّة، فالحلاق يؤمّه الناس عامّتهم وخاصّتهم على مدار الساعة فهو لا يصمت ولا يمسك عن الكلام، فإن في صمته وإمساكه أذيّة للزبون الذي يعتقد أن الحلاق حينئذ غير راغب فيه، لذا وجب أن يكون بشوشًا ضحوكًا مشاركًا لكل ما يطرح من عوالم السياسة والثقافة والرياضة والدين وما شاكل من أحاديث أخرى همسًا وجهرًا. فالحلاق وإن لم يكن من المتعلمين فإنه مثقف بحكم الاطلاع الواسع وهو بطبعه فضوليّ يتطلّع إلى معرفة كلّ شيء".

 

صورة
أدوات الحلاق محسن عبد اللاوي (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

 

وأسرّ لنا محسن أنه يعشق الأعمال الإذاعية التي تذاع ويتابعها باهتمام كلّما لقي مجالًا للاستماع فذكرنا بحصص الإذاعيين الراحلين صالح جغام ونبيل بن زكري وتوفيق الحذيري ونجيب الخطاب، معتبرًا إياهم أيقونة الإذاعة التونسية، وقبل ذلك كان الحلاق المنصف متابعًا جيدًا للأخبار المكتوبة مذكرًا بجرائد تونسية كان يقتنيها دوريًا فيتلقفها الزبائن وتصبح المادة المنشورة مدار نقاش بين الحاضرين".

محسن عبد اللاوي: الحلاق ثرثار بطبعه ويشارك في كل ما يطرح من أحاديث في عوالم السياسة والثقافة والرياضة والدين، وهو إن لم يكن من المتعلمين فإنه مثقف بحكم الاطلاع الواسع وهو بطبعه فضوليّ

كشف لنا محسن عبد اللاوي أن العديد من الأجانب الذين يزورون تونس للسياحة دوريًا من بين أبرز زبائنه الذين يصرون على الحلاقة عنده تاركين وراءهم الرفاهة في صالونات الحلاقة الفخمة في النزل، فهم يتمتعون بالجلسة على الكرسيّ المتحرك القديم ويقتنصون الصور واللحظات أثناء الحلاقة ويستمتعون بالمحادثة معه باعتباره يتقن اللغة الألمانية، فيما كانوا بالمقابل يغدقون عليه بسخاء نظير تلك الخدمة.

في المدينة العتيقة بسوسة كانت علاقة الحلاقين ببعضهم جيدة وتتميز بالعراقة والأصالة إذ كان يطلق على أحد الأنهج "نهج الحجامين" وهو إلى اليوم يضم بعضهم في حين اندثر آخرون. ومن بين من بقي منهم الحاج العربي الخضراوي الذي بقي دكانه قائمًا في حين بلغ من العمر عتيًا ولا يزال إلى اليوم يتردد على دكان محسن ذاكرًا إياه بجيل القرن الماضي وما بقي من آثاره.

 

صورة
المناشف لا تزال في مكانها منشورة على حبل كما "الشبّ" الذي لم يغادر المنضدة (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

 

قصّة الحلاق المنصف كانت وفيّة للصورة التقليدية لمهنة الحلاق التقليدي العتيق التي تتداولها الذاكرة ولا نزال نحيا مع بقاياها ونشتم ريحها في بعض الدكاكين التي أصرت ألّا تتحول إلى "صالونات"، ولا نزال نعيش مع "الحلاق الثرثار" (رواية المنفلوطي) لكنّنا ما عدنا نعطيه أجره بيضًا كما كان يفعل الأجداد. والمناشف لا تزال في مكانها منشورة على حبل كما "الشبّ" الذي لم يغادر المنضدة، وهي مادّة تستخدم لإيقاف سيلان الدماء في حال تعرض الزبون لجرح، فكم من رأس أصابه جرح جراء موساه غير الحادة:

"ألا رب حلاق بليت بشره فأثر في رأسي الجراحة والبؤسا * أنامله كالطور فوق جبهتي ورأسي كليم كلما حرك الموسا"

الحلاق في عالمنا حفظ لنا إرث الإنسانية جراء ثرثرته وآثار جراحه وهو الذي عرك الرؤوس وطأطأها وهي التي لا تخضع ولا تخنع. الحلاق ترعرع في المجتمع والثقافة والسياسة فأنتجت لنا الفنون المتنوعة أعمالًا ارتبطت بحرفته، الحلاق كان جراحًا وكان متطببًا وكان مقتلع الأضراس، كما ارتقى في تاريخ تونس إلى سدة الحكم في شخص مصطفى بن إسماعيل (1850-1892) الذي تقلد الوزارة الكبرى سنة 1878 وهو الذي عمل بدكان حلاق بسوق البلاط في صغره.