21-يناير-2023
قالب صابون نحاسي صورة ماهر جعيدان/الترا تونس

قالب نحاسي لطباعة الصابون 1930 (ماهر جعيدان/الترا تونس)

 

في أوائل التسعينيات استقرّ بي المقام في بيت جدي في إحدى المدن الساحلية التونسية وكان عبق ذكريات الأجداد يفوح في كل ركن منه، كانت البناية قديمة فتآكلت الجدران وذهب الزمن بحسن العمران غير أني كنت أشتم في كل ركن منها آثار أجدادي الذين كانوا يتوارثون تجارة الزيت ومشتقاته، فبعد زهاء أربعين سنة من وفاة جدّ والدي سالم، بقي من آثاره جرار الزيت الفارغة الراسية في مخزن الدار وكانت الروائح العطرة تفوح في كل زاوية.

كنت أتفحص كل شيء تركه الأجداد بعد أن غادروا صخب الحياة الدنيا، وفي إحدى الخزائن الخشبية وجدت أشياء لا تقدر بثمن: دفاتر لمحاصيل الزيت ووثائق لكميات الزيتون المودعة في المعصرة انطلاقًا من الأربعينيات إلى أواخر الستينيات.

 

 

ومن بين الأشياء المودعة قالب نحاسي كتب عليه " سالم جعيدان صابون سوسة"، تتوسطه نجمة و هلال، فهرعت إلى والدي ممسكًا هذه الكتلة الحديدية ذات الممسك الخشبي متسائلاً عن سر هذا "الطابع"؟ فأجابني باقتضاب شديد: "هذا جدي سالم الذي توفي في أوائل القرن الماضي كان يملك مصنعًا للصابون، وتلك الأداة هي طابع العلامة الصناعية". كنت مشدودًا إلى هذا الشيء الثمين من أملاك العائلة التي بتّ أحرسه وكان لي حافزًا في أن يكون مبحث صناعة الصابون في القرن التاسع عشر من اهتماماتي.

 

قالب نحاسي لطباعة الصابون 1930

قالب نحاسي لطباعة الصابون 1930 (ماهر جعيدان/الترا تونس)

 

الصابون لم يكن مادة لتنظيف جسم الإنسان فقط وإنما لتنظيف الأشياء كذلك ولعله اقترن شديد الاقتران بعدة بلدان عربية في المشرق والمغرب لأنه كان من علامة الطهر والنقاء والنظافة التي أوصى بها الإسلام.

 

 

كان "الصابون" عند أهل الساحل من مستلزمات جهاز العروس فكانت الأم تصنع يدويًا قوالب الصابون في المنزل وهناك من كان يكلّف إحدى نساء القرية بذلك قبل أشهر من موعد الزفاف وأذكر أني شاهدت قوالب الصابون في شكل طاقم من الأطباق وقد تم تزيينه ضمن أثاث العروس.

كان "الصابون" عند أهل الساحل من مستلزمات جهاز العروس فكانت الأم تصنع يدويًا قوالب الصابون في المنزل وهناك من كان يكلّف إحدى نساء القرية بذلك قبل أشهر من موعد الزفاف

 

صنع قوالب الصابون يدويًا في المنزل

صنع قوالب الصابون يدويًا في المنزل

 

كما كنت أتذكر في صغري رجلًا قوي البنية، طويل القامة وملتف الشاربين، يمتطي دراجة ناريّة حمراء وخلفه صندوق حديدي يجوب الأزقة مناديًا "اليان الصابون..اليان الصابون.." فهو بائع مادة "الصودا" الكيميائية التي يخلط بها الزيت لصنع الصابون وكانت نسوة القرية يشترونه ويحفظونه في مكان بعيد عن متناول الطفال لخطورته.

"الفيتورة".. وهي المساحيق الجافة من بقايا عجين الزيتون بعد العصر  واستخراج الزيت، وقد كانت المكوّن الأساسي في صناعة الصابون في تونس

كانت معاصر الزيت التقليدية المنتشرة في الساحل التونسي تنتج أجود أنواع الزيت ولما حل المستعمر الفرنسي في سنة 1881 انتشرت المعاصر الهيدروليكية وذلك لإنتاج كميات أكبر من المحاصيل وانتشرت معها مصانع الزيوت أو ما يطلق عليه عندنا "الفبريكة" في سوسة والمنستير والمهدية وجمّال وغير ذلك من المدن الساحلية المنتجة لزيت الزيتون، كما ارتفعت المداخن الشاهقة التي يتم فيها تكرير "الفيتورة" وهي المساحيق الجافة من بقايا عجين الزيتون بعد العصر  واستخراج الزيت، فكانت تلك المادة المستخلصة المكوّن الأساسي في صناعة الصابون.

 

 

صحيح أن إنتاج مادة الصابون في تونس كان مزدهرًا في تلك الفترة الاستعمارية ولكن صنع الصابون كان أسبق في الزمن عندنا،وكانت أجود أنواع الصابون تنسب إلى مدن مشرقية مثل حلب ونابلس وطرابلس فيقال صابون حلبي ونابلسي وطرابلسي غير أنه في تونس كان يعتبر صناعة كيميائية (مكوّن الصودا) لذلك لم يكن يصنع في المنازل إلا في عهود متقدمة، غير أن الإنسانية تشترك في صناعة هذا المكوّن وتختلف في طريقة تصنيعه.

إنتاج مادة الصابون في تونس كان مزدهرًا في الفترة الاستعمارية ولكن صنع الصابون كان أسبق في الزمن في تونس وقد كانت صناعة كيميائية ولم يكن يصنع في المنازل إلا في عهود متقدمة

وقد تطورت صناعة الصابون لاحقًا في تونس ولعل أجودها تلك المستخلصة من الزيوت النباتية المعطرة كما يختلف الصابون المستعمل لتنظيف الملابس والألياف القطنية عن المستعمل لتنظيف الأجساد وأفضلها تلك التي تمتاز بالنعومة والنقاء والرائحة الطيبة.

خصص الباحث الفرنسي هنري جومال henry jumelle في كتابه "الزيوت النباتية: الأصول، طرق التحضير، الخصائص والاستعمالات ( 1921 ) les huiles végétales :origines, procédés de préparation, caractères et emplois، الفصل الرابع كاملًا عن صناعة الصابون وتقنيات التصنيع إذ يذكر كافة مراحل "التصبّن" (تصبّن المواد الدهنية)، باعتبار أن "المواد الدهنية تحت تأثيرات مختلفة (بخار الماء الساخن والقلويات والأكاسيد الأساسية والأحماض الكبريتية والهيدروكوليك الساخن) يتم تحللها وهي تنقسم إلى الأحماض الدهنية والجليسيرين. والصابون التجاري والصناعي عبارة عن صابون قابل للذوبان أساسه الصودا والبوتاس".

باحث فرنسي: "الصابون الناعم يستعمل على نطاق واسع في صناعة النسيج إذ يجعله أكثر مخملية وأكثر مرونة من صابون الصودا، وهناك الصابون الناعم الأخضر والصابون الأسود ويتأتى من الزيوت الخام"

ويقول الباحث الفرنسي: "الصابون الناعم يستعمل على نطاق واسع في صناعة النسيج إذ يجعله أكثر مخملية وأكثر مرونة من صابون الصودا، وهناك الصابون الناعم الأخضر والصابون الأسود ويتأتى من الزيوت الخام".

ويضيف هنري جومال في كتابه: "الصابون المصفى هو الصابون المركز غير قابل الذوبان في المحاليل وهو صابون أحادي اللون يعتمد على الصابون الصناعي الأبيض على أساس زيت الزيتون كمكوّن أصلي ولهذا يسمى صابون مرسيليا وكذلك الصابون الصناعي الأخضر بزيت لب الزيتون وهو رخامي شاحب أو لامع".

ويتطرق الباحث هنري جومال إلى طريقة صنع قوالب الصابون في نهاية القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر فيقدم في كتابه صورًا للقوالب الخشبية والفولاذية والإسمنتية التي يسكب فيها الصابون وكذك لشفرات وأسلاك القص والطباعة وهي تعكس تطور هذه الصناعة في ذلك الزمن من الطريقة اليدوية إلى الطريقة الميكانيكية.

 

آلة لصنع قالب الصابون الأخضر

آلة لصنع قالب الصابون الأخضر

آلة لقص قوالب الزيتون

آلة لقص قوالب الزيتون

 

بعد هذا الاستعراض لبعض ملامح صنع الصابون في تونس في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين وتطور مراحلها خلال الفترة الاستعمارية، اطلعنا على توصيات قانونية صدرت في تونس سنة 1900 عن الإدارة العامة للفلاحة والتجارة لتنظيم هذه الصناعة و"ضبط المقادير وعلامات الجودة.

وحذر القانون من استعمال مواد مضرة من ضمن المكونات واعتبرها مندرجة ضمن عمليات الغش وتعرض المخالفين إلى العقوبات المنصوص عليها في قانون 27 جانفي/يناير 1897 كما يتم التقيد بالمقادير المنصوص عليها في مخابر التحاليل التابعة للإدارة العامة للفلاحة والتجارة الفرنسية". ( procés-verbaux de la conférence consultative 19ème session novembre  1900 – tunis ).

بعد عقود من الزمن، تطورت صناعة الصابون في تونس ولئن استطاعت إحدى التعاضديات بجهة المهدية التي تكونت منذ سنة 1900 الاستمرار إلى اليوم في صيغة صناعية أخرى فإن المصانع القديمة في سوسة والمنستير قد اندثرت.

ولعلنا نشير إلى بروز وحدات صناعية متطورة اليوم ترتكز أساسًا على استخلاص زيت الزيتون من عجين "الفيتورة" بنسبة 3 في المائة (زيت ثفل الزيتون) واعتماد تقنيات متطورة للامتصاص والتجفيف واستغلال تلك الزيوت عالية الحموضة لتصنيع الصابون الطبيعي الأخضر.

ويذكر أن "الفيتورة" صارت اليوم بضاعة مطلوبة عالميًا وقد اتجهت المعاصر إلى تصديرها للخارج عوض استغلالها في تونس فارتفع ثمنها نظرًا لقيمتها.