سيطرت "حدوتة" الحاوية البلجيكية على منابر الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي طيلة الأسبوع الأخير في تونس، في مزاوجة بين تفكيك القصة وفحص تفاصيلها والسخرية من الفصل الأخير الهزلي لها وذلك إن لم يخف فصلًا آخر ربّما يكون أشد هزلًا. وتعود تفاصيل القصة إلى ضبط قوات الديوانة/الجمارك لحاوية تجارية على ملك رجل أعمال بلجيكي مقيم بتونس تحتوي على عدد هامّ من الأسلحة النارية منها أسلحة قتالية متطورة، على الأقل وفق الرواية الرسمية الأولى، إضافة إلى خراطيش وعدد من جوازات السفر.
كشفت حادثة الحاوية البلجيكية هشاشة أداء الأجهزة الأمنية في تونس ومحدوديتها على مستوى التنسيق فيما بينها على الأقل
وقد قامت الجمارك بعقد ندوة صحفية لكشف "أضخم عملية حجز ممنوعات"، بهذه النوعية وهذا الحجم، وكأنه فتح مبين، خاصة وأن مدير الجمارك أكدّ أن عملية الحجز لم تكن اعتباطية بل سبقها مجهود استخباراتي. وفي وقت لاحق، تعهدّت فرقة الحرس الوطني المختصّة بجرائم الإرهاب بالقضية، لصبغتها الإرهابية، والتي بيّنت وفق تقريرها أن المحجوزات ماهي إلا ألعاب متطورة، وليتمّ لاحقًا إطلاق سراح المتهمّ الرئيسي ويعود إلى بلاده سالمًا غانمًا. لتنكشف بذلك مسرحية لم تُعرف بعد طبيعتها، هزلية هي أم تراجيدية؟
فبين تضارب التقارير التقنية لجهازين أمنيين، بين قوات الجمارك التي أكدت أن الأسلحة حقيقية، وقوات الحرس التي أكدت أن الأسلحة هي ألعاب متطورة، كانت الأسئلة المنتظرة بين التونسيين، ومحورها، هل نحن أمام فصل جديد من الإفلات من العقاب لمسألة تهدد الأمن القومي باسم التسويات والحسابات المتعلقة بموازين القوى استخلاصًا، أم أن الحاصل ما هو إلا تمظهر لمحدودية أداء قوات الجمارك والتي لم تحسن التعرّف على طبيعة المحجوز منذ البداية؟ ويبدو أن الفرضية الأولى هي الأكثر ترجيحًا وفق التونسيين لتنهال موجة من السخرية على مواقع التواصل الاجتماعي مع ظهور الأجنبي البلجيكي في صورة صاحب الحصانة المطلقة، وقد لا يكون ذلك إلا تمظهر لحصانة دائمة للأجنبي في بلاد العرب، وإن ارتكب أكثر الجرائم خطورة.
وعمومًا بتجاوز الجدل حول طبيعة الأسلحة نفسها، فقد بانت حقيقة واحدة وهي هشاشة أداء الأجهزة الأمنية ومحدوديتها على مستوى التنسيق فيما بينها على الأقل، لتكون حاوية البلجيكي، أشبه بـ"فضيحة دولة" في تونس. وليُفتح مع هذه الفضيحة -وقد لا يمكن وصفها بغير ذلك بالنهاية- كذلك ملفّ اختراق أجهزة استخباراتية للدولة التونسية، وتورّطها في ملفّي التهريب والإرهاب على حدّ السواء نظرًا لارتباطهما العضوي، وفي ظلّ مؤشرات وتكهنات حول استهداف دول إقليمية للاستقرار في تونس لإفشال مسار الانتقال الديمقراطي.
ويبدو، في هذا الإطار، أن فرضية تورّط جهات أجنبية لها ارتباطات مع أطراف داخلية في ملفّ الإرهاب بتونس، تعزّزت لدى المواطن البسيط أمام هذه "فضيحة الدولة"، وفي ظلّ الارتباك الحاصل لأجهزتها.
وليُفتح كذلك مع هذه القصة الجدل مجددًا حول ملفّ الجمارك، وهو أحد أهمّ الملفات الحارقة في تونس منذ الثورة، في ظلّ إجماع حول حجم الفساد الكبير في هذا السلك الذي يشرف على إدارة الحدود البرية والبحرية والجوية، الذي كان عصب النظام "المافيوزي" في تونس طيلة عقود. وقطعًا لا تزال جذور الفساد مستشرية في هذا السلك في ظلّ غياب بوادر إصلاحات جديّة داخله تشمل مساءلة المسؤولين السابقين فيه.
هناك إجماع في تونس حول حجم الفساد الكبير في سلك الجمارك، الذي كان عصب النظام "المافيوزي" في تونس طيلة عقود
إن قصة البلجيكي، وهكذا أصبح يسّميها التونسيون، وبتجاوز الطريف الظاهر فيها، ومكامن السخرية البادية منها، طرحت للواجهة، وإضافة لما تم إيراده فيما سبق، ملفّ إصلاح مؤسسات الدولة. وذلك بتجاوز المؤسسات السيادية والتي ضبطها الدستور في إطار عملية الانتقال الديمقراطي، إلى ما يمكن تسميته إلحاق أجهزة الدولة والأمنية منها تحديدًا بموجة التأسيس لتكون محيّنة أولاً على مقياس استحقاقات الثورة، وثانيًا وفق مستلزمات بناء الجمهورية الثانية، وذلك موازاة مع طرح سؤال السيادة الوطنية.
بالنهاية، تؤكد هذه "الحدوتة" أن الغامض والمخفي والمُبهم لا يزال هو الغالب في دولة يتبيّن في كل مناسبة أن الثورة لم تمسّ شبكاتها لتبقى تونس في منطق نظام مافيوزي غير سيادي يستولي على دولة لا "منطق الدولة" وما يفرضه من إعادة التأسيس بعد الثورة، وربما "ما خفي كان أعظم".