يتذكر الجميع حالة الفرح العامة التي رافقت المصادقة على "دستور الجمهورية الثانية" في تونس من قبل المجلس الوطني التأسيسي، في 26 كانون الثاني/يناير 2014، دستور توًج مسارًا دام أكثر من عامين، ومثًل أمل التونسيين في تحقيق تغيير جذري، ووضع قواعد للدولة التونسية الجديدة، تقوم على الديمقراطية واحترام الحقوق والحريات، والشفافية والتوازن بين السلطات، ولذلك حظي بتقدير ودعم داخلي وخارجي ومن مختلف الفاعلين في المشهد التونسي تقريبًا.
بعض القوانين المصادق عليها، قبل الثورة، بقيت سارية المفعول رغم تعارضها مع مضمون الدستور التونسي بينما لا تزال قوانين ضرورية أخرى، غائبة
لكن، بعد سنتين من إرسائه، تُطرح أسئلة مختلفة حول مدى تطبيقه وتفعيله، باعتبار المصادقة عليه ليست الهدف الأسمى بل هي بداية المسار الديمقراطي. في الواقع، معظم القوانين المصادق عليها، قبل الثورة، بقيت سارية المفعول إلى اليوم رغم تعارض بعضها مع مضمون الدستور، بينما لا تزال قوانين أخرى، ضرورية، غائبة عن المنظومة القانونية.
على سبيل المثال، كرد فعل على قمع الحريات الأساسية في تونس ما قبل الثورة، نص الدستور التونسي الجديد على الحق في الحياة في الفصل 22، وحماية الحرمة الجسدية ومنع التعذيب في الفصل 23، إضافة إلى فصول أخرى تمنع معاملة السجناء معاملة مهينة، وتحفظ حق المتهم عند الإيقاف والاحتفاظ وغيرها من الفصول المكرسة لحقوق الإنسان.
في المقابل، وإلى الآن، "يتم رصد عديد حالات التعذيب والمعاملة المهينة التي تؤدي في بعض الحالات إلى الوفاة وتقع هذه التجاوزات أساسًا في مراكز الاحتفاظ والسجون"، حسب تقرير لمنظمة البوصلة، أبرز منظمة غير حكومية تراقب العمل البرلماني في تونس، وقد صدر في العاشر من شباط/فبراير الجاري. لمعالجة هذه الثنائية بين ما ينص عليه الدستور والتطبيق، أحدثت مؤخرًا تعديلات على مستوى المجلة الجزائية لتلائم النص الدستوري ومن ذلك منح المتهمين حق توكيل محام منذ بدء الاحتجاز وتقليل الفترة القصوى للاحتفاظ على ذمة التحقيق، لكن بعض فصولها الأخرى لا تتماشى مع نص الدستور ولا مع المعايير الدولية ومن ذلك تعريف التعذيب في هذه المجلة.
ومن الأمثلة أيضًا عن غياب التفعيل لبعض فصول الدستور التونسي، أن ينص الدستور عن إحداث هيئات دستورية ويمكنها من الاستقلالية المالية والإدارية وأن ينظم عملها وانتخاب أعضائها قانون خاص، لكن معظم هذه الهيئات لم يكوّن إلى اليوم وفي أغلب الأحيان لم تتم المصادقة بعد على قانون لإحداثها.
الهيئة الدستورية لحقوق الإنسان، هي واحدة من خمس هيئات نص عليها الدستور ولكن لم يتم إلى الآن إيداع نص بمجلس نواب الشعب لتكوينها. وتتساءل البوصلة عن غياب دور الوزير المكلف بالعلاقة مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني في هذا السياق. كما صادق المجلس الوطني التأسيسي في تشرين الأول/أكتوبر 2013 على قانون لإرساء الهيئة الوطنية لمكافحة التعذيب، والذي كان من المفترض أن ينتج عنه تكوينها قبل أواخر سنة 2015، لكن ذلك لم يحدث إلى اليوم.
تمت المصادقة على قانون لإرساء الهيئة الوطنية لمكافحة التعذيب في تونس، وكان من المفترض تكوينها قبل نهاية 2015، لكن ذلك لم يحدث إلى اليوم
في نفس الإطار، تؤكد فصول مختلفة من الدستور التونسي أهمية مكافحة الفساد وتكريس ذلك، لكن يتواصل غياب قانون يحمي المبلغين عن الفساد، أو قانون يفرض على أعضاء الحكومة التصريح بممتلكاتهم. كما أكد رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد شوقي الطبيب، في أكثر من مناسبة، افتقار هيئته إلى الحد الأدنى من الإمكانيات للقيام بعملها.
من الحريات التي يكرسها الدستور التونسي أيضًا، حرية الاجتماع والتنظم، لكن لا تتمتع الجمعيات التونسية إلى اليوم بقانون خاص ينظم عملها، والإطار القانوني الحالي المنظم لأنشطتها منذ سنة 2011 هو المرسوم عدد 88 المؤرخ في 24 أيلول/سبتمبر 2011، وهو يعتبر متقدمًا مقارنة بالممارسات السائدة زمن الدكتاتورية لكن يحتاج إلى التعديل والتطوير والمصادقة عليه في شكل قانون.
عديدة هي مشاريع القوانين المعروضة للمصادقة من قبل نواب مجلس الشعب التونسي لكن لم ينظر في معظمها بعد ومنها مشروع قانون متعلق بمنع الاتجار بالأشخاص وقد تم إيداعه بمجلس نواب الشعب منذ 8 مايو/آيار 2015، لكن لم ينظر فيه المجلس بعد. وعادة ما يبرر النواب هذا التأخير بعدد القوانين المرتفع وبتوتر الأوضاع الأمنية والاجتماعية في البلد، والتي تؤثر على سير عمل المجلس، حسب قولهم.
عن التفعيل المنقوص لما جاء في الدستور التونسي، تعلق أنس بن عبد الكريم، رئيسة منظمة البوصلة، "قد يعود ذلك إلى اهتمام مؤسسات البلاد بجوانب أخرى ومنها الأمن خاصة. لابد أن يكون تطبيق الدستور في قلب الأولويات لأن ذلك سيساهم في حل عديد المشاكل الأخرى". وفي هذا الإطار، دعت بن عبد الكريم إلى "جعل مسألة تطبيق الدستور أولوية وطنية" وأكدت "أهمية توفر الإرادة السياسية لتحقيق ذلك".
وفي تقريرها حول التطبيق التشريعي للدستور التونسي، تعتبر منظمة البوصلة أن "التقييم العام لتطبيق الدستور سلبي". وتشير، في ذات التقرير، أن "مدى تقدم الإصلاحات غير مرضي ولم يرتق إلى المستوى المطلوب بالنسبة إلى أغلب أبواب الدستور" وتضيف: أن "التطبيق التشريعي للدستور التونسي قد تعرض إلى عديد العراقيل لا سيما فيما يتعلق بالحقوق والحريات أو بالمؤسسات الجديدة التي جاء بها النص الدستوري".
قد يتطلب تحقيق أهداف الثورة التونسية ومعالجة الوضع العام إصلاحات على المدى الطويل، لكن تطبيق "دستور تونس الثورة" وإرساء القوانين التي تساعد في تفعيله، قد يكون الخطوة الأولى في هذا الطريق. لذلك تؤكد منظمة البوصلة وعدد من منظمات المجتمع المدني التونسي ضرورة التسريع في نسق الإصلاحات القانونية والالتزام بتطبيق الدستور، وأهمية وضع قائمة من الأولويات للعمل عليها والإعلان في أقرب الآجال عن رزنامة واضحة وشاملة للتطبيق التشريعي للدستور، تمكن الرأي العام من المراقبة والتقييم.
اقرأ/ي أيضًا: