في السنوات الأخيرة، تابعنا بشغف "باب الحارة"، تعاطفنا مع رجال الحارة القبضايات، وعشنا تفاصيل النسوة في بيوتهنّ، دخلنا مع أبطال المسلسل بعد أن أخذنا الإذن بتلك الحشرجة العالية وكلمة تعلى "يا دستور"، وبعد انتظارنا لبضع ثوان أو دقائق في باحة صغيرة، تفصلنا عن فناء البيت حتى لا ننتهك حرمة المنزل، ندخل المنزل بعد أن اختفت النساء من باحة المنزل.
اتفقت العمارات العربية على وظيفة واحدة بالغة التعقيد، المحافظة على الحريم سجينات البيوت
نحن إزاء مشهد ذكوري واضح رغم تعقيداته تدور كلّ أحداثه في المنزل، حيث وظفت العمارة -قبل ظهور الحركات النسوية وتداول قضية تحرير المرأة وقبل خروج المرأة إلى سوق الشغل- لصالح الثقافة الذكورية الطاغية على ذلك الزمن، دون أن تتنفس المرأة أو تناضل من أجل حقوقها وتدين الثقافة الذكورية على عكس أيامنا هذه، هذه الثقافة التي هيمنت على المرأة واعتبرتها تابعًا وملكًا خاصًا للذكر، لا يختلف كثيرًا عن بقية الأمتعة الأخرى، فقد تعامل الذكر المسلم مع الأنثى بصرامة حتمت عليها أن يكون الحجب قدرها، فحجاب رأسها لا يكفي ولا يجعلها آمنة من مطمع الغرباء بل يجب أن تحجب في البيت، وضمن وحدات مورفولوجية مدروسة بشكل جيّد، تسيطر على تنقل المرأة دون أن ينتهك العرض، عرض العائلة، بمجرّد رؤية الغريب لها.
في هذا السياق نستحضر جملة الآيات القرانية التي يستند عليها الكثير من الفقهاء لتبرير محاصرة المرأة بالحجب والحجاب "وإِذا سألْتموهُنَّ متاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذلكم أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ" (سورة الأحزاب "53")، "وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى" (الأحزاب 33) وغيرها من الأحاديث النبوية التي تشرع ضمنيًا لحبس النساء في البيوت مثل "المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان"، أو "النساء حبائل الشيطان"، وما جعل الفقهاء الأوائل يمنعون خروج المرأة دون حاجة أكيدة، أو كشف هويتها الجسدية للغريب حتى لا يطمع فيها فهي موطن فتنة وتثير الشهوة في الرجال، وحبسها في البيت وخروجها بأمر وليّ أمرها أي زوجها أو والدها شرط أساسي.
لم تختلف البيوت في تونس ودمشق وبغداد.. وغيرها من الدول عن بعضها في الشكل، فقد اتفقت بشكل معماري صريح أنّها وُظفت أساسًا لوظيفة واحدة بالغة التعقيد، وهي المحافظة على الحريم سجينات البيوت، وحماية الشرف العائلي، خاصة وأنّ أصل كلمة الحريم مشتقة من الحرمة والحرام، وهو ما يجعلها ذات معنى قدسي، فوظيفة البيت في العمارة العربية الإسلامية هي الستر.
يضمّ كلّ بيت فناء أو حوش، يفصل بين الغرف والسقيفة وباب المنزل، ليضمن تحرّك المرأة في فضاءاتها الخاصة بأريحية دون أن يتداخل بوجود الرجل الغريب، فهو يقوم بعازل حقيقي للسكان عن حركة المجتمع على حدّ عبارة الباحث العراقي شاكر لعيبي، فيصبح فناء البيت فسحة لسجينات السلطة الأبوية، وسجينات الفضاء الذكوري، فرصة للتمتع بالتهوية والضوء.
يشكل البيت في الثقافة الذكورية حصنًا ذكوريًا يحاول فيه الرجل أن يحافظ على عفته بحراسة حريمه من العين المتلصصة
نجد في البيت الدمشقي النافورة، وهو ما يدخل ربّما في تحسين شروط العبودية بإضفاء الترفيه على المسجونات، وذلك بتزويق المنزل بالنافورات وأصص الزرع، ونجد في البيت التونسي الماجل، وهو بئر عميقة يزوّد البيت بالماء الصالح للشراب، وهو ما يلغي تمامًا خروج المرأة في غياب الرجل لجلب الماء، فكلّ شيء متوفر في المنزل، ويصبح الفناء المتنفس الوحيد تطوف به المرأة لتتمتع بالشمس والهواء والسماء، وكما يطوف المؤمن بالكعبة ليتمتع براحة نفسية يحس المؤمن أنّه قريب من الله، ستحسّ المرأة أنّها تتملك الحرية أو قاب قوسين منها.
أشارت الباحثة التونسية تراكي زناد في كتابها "الرمزية الجسدية والفضاء العربي الإسلامي" إلى أنّ المرأة عوضت سجنها في البيت بسلطة جعلتها صاحبة الأمر والنهي في فضائها الخاص، فهناك أمكنة قدسية يحرّم دخولها على الكبير والصغير إلا بشروط خاصة، على سبيل المثال "بيت المؤونة"، وهو ما سمته زناد بـ"الديار المقدسة"، فلم تكن المرأة ملكًا للرجل، بل قلبت المشهد ليصبح السجن ملكًا لها، تتصرّف فيه كما تحب، ووحدها تعرف ما ينقصه وما يزيد عن حاجته.
وفي هذا الإطار أشار شاكر لعيبي في كتابه "العمارة الذكورية" أنّ البيت يشكل للمرأة العربية حميمية، وهو ملكها الخاص الذي تتمتع به فقد "صمم الرجل المنزل وسيّجه بالحيطان الخارجية وترك داخله لها -أي للمرأة-.
يشكل البيت في الثقافة الذكورية حصنًا ذكوريًا يحاول فيه الرجل أن يحافظ على عفته بحراسة حريمه من العين المتلصصة، والأخرى المشتهية التي يمكن أن تخترق أحد أجساد حريمه، فيتلطخ شرفه وشرف كلّ العائلة، ما يتسبب بأن ينغلق الفضاء على الحريم، ويطبق بين جدرانه على الشرف حتى لا يهتك.
ومع تشكل معالم الحداثة في الدول العربية، تمّ التخلي تدريجيا عن العمارة القديمة، فكما وصلت الإنترنت والموضة إلى هذه الدول أصبحت حرية المرأة واقعًا مفروضًا، على عكس السنوات الأخرى، حتى وإن كانت الحرية ظاهرية لم تنفذ إلى باطنها، لكن المرأة تخلصت من سجن العمارة الذكورية، وأصبحت تعيش في بيت لا يضيق بها ولا يحبسها من الذكر الغريب، بل بالعكس أصبحت تتشارك الفضاء الخاص مثلها مثل الرجل، تقتحمه متى شاءت، وتخلى الذكوريون عن "يا دستور" لتعوض نقرة الناقوس كلّ شيء.