18-مارس-2016

ولليد الإلهية حصة (Getty)

 

مقال رأي

 

صرت مهووسة بتقدّمي في السنّ منذ أن بلغت الثلاثين، أواظب على مشاهدة وجهي في المرآة وأتفقد تجاعيده. تلك العشرينية النضرة التي كانت مضت إلى مجهولها. سأشيخ فجأة ويكرمش وجهي مثل نسوة الحيّ اللواتي لا أحبّهن أبدًا، ثمّ أحسد نجمات هوليوود، وبعض ممثلات السينما المصرية على نضارتهن وشبابهن الدائم، كيف يمكنني أن أصل إلى الأربعين امرأة بكامل خوخي وأنوثتي -مع الاعتذار من درويش لكوني لا أحبّ المشمش ولا أستسيغ طعمه- أبحث عن أجوبة تقنعني ولا أجد سوى حقيقة مزعجة ومؤلمة: جسدي ليس ملكي بل ملك المجتمع، وهو بطاقة هويتي، فإن أعجب الأغلبية سأكون وإن نفي سأنفى. 

ساهمت العولمة في تسليع الجسد وتقديمه بشكل لا يختلف عن بقية السلع الأخرى

مؤلم أن تصل إلى اعتبارك كيانًا مستقلًا عن جسدك لا تملكه بل يملكك ويقومك، لا يسألك أحدهم عن أفكارك وفلسفتك في الحياة فجسدك يحكم عليك من الوهلة الأولى، لقد تعولمنا وانتهى الأمر.

اقرأ/ي أيضًا: أنا امرأة.. عنّفني!

ساهمت العولمة إلى حدّ كبير في تسليع الجسد وتقديمه بشكل لا يختلف كثيرًا عن بقية السلع الأخرى. التجميل والوشم واللباس والعطورات وغيرها من المواد المرتبطة بالجسد، تساهم كثيرًا في تقييم الجسد وإعطائه قيمة مادية مضافة، ليحسّ المستهلك أنّه متمايز عن الجميع، فقد اتفق الكل على أنّ ما يحيط بالجسد لا يقلّ أهمية عن الجسد ذاته. 

صنع السياق الاجتماعي والثقافي الحديث جسدًا آخر غير متعارف عليه سابقًا، جسد لا يعتبر وسيلة للتنقل في العالم بقدر ما يعتبر ملكًا ومتاعًا يباهي به الإنسان الحديث، فهو مثل السيّارة أو المنزل، ولا يختلف كثيرًا عنهما، فكلّما ارتفعت قيمته ارتفعت قيمة الإنسان في الزمن المعولم، لذلك يعمد البعض إلى الاستثمار في أجسادهم: النساء حتى يحظين بأزواج أغنياء، والطالبات حتى يقنعن الأساتذة بإسناد أعداد جيّدة، والسكرتيرات حتى لا يطردن من العمل. ولا يختلف الأمر كثيرًا مع الرجال، فالاستثمار الجسدي خاصية إنسانية يشترك فيها الجنسان في إطار مقولة جديدة: "دعه يتجمل فيعمل ويمرّ".

ينتج الجسد الحديث المعاني والقيم ويعمل جاهدًا أي الجسد على إدماج الإنسان داخل المجتمع وأيضًا في سوق الشغل، فقد أصبح الجسد مقياسًا ينافس الخبرات واللغات والكفاءة في بعض المهن، ليقبل طالب الوظيفة أو يرفض من أول وهلة.

اقرأ/ي أيضًا: اقتل البغدادي وانكح إلهام شاهين

نحن لا نملك أجسادنا بل يمتلكها الواقع اليوم، حقيقة مؤلمة، فكلّ واحد فينا يفرك أسنانه ويعالج شعره ويتفقد تجاعيد وجهه، ويقارن نفسه بنجمة مسلسل ليلة البارحة أو بطل الفيلم الذي شاهده آخر الأسبوع في إحدى قاعات السينما، ثم يسأل أحدنا: كم من المال يجب أن يصلح ما فسد وأن أصبح شبيها بفلانًا أو فلانة؟ بالمال فقط يمكنك أن تصلح جسدك ونفسك لتتمتع بالوجاهة فيما بعد. 

صرنا نجري وراء أجسادنا أكثر ممّا نحبّ، وكأننا نحاول أن نؤجلّ شيخوختنا الحتمية

من منكم فكرّ بالزواج بامرأة تعاني من البدانة الزائدة؟ هل فكرّ أحدكم أن روحها جميلة وقلبها طيّب وأن تلك النتوءات وتعرجات تضاريس جسدها لا تفسد جمالها الداخليّ؟ لا أظنّ أنّ البدينة سينظر لها كامرأة كاملة لا تختلف عن البقية، سيتعامل البعض في إطار الشفقة عليها، رغم أنّها تتمتع بصحة جيّدة وسيسخر منها البعض الآخر وسيقول إنها فيل أو ديناصور، وغيرها من الألقاب القبيحة التي تسيء إلى إنسانيتنا، فهل أفسدت العولمة والنمط الاستهلاكي إنسانيتنا؟ لا أجزم بهذا ولكني أقرّ أنّها تراجعت لصالح النموذج التسليعي!

لقد محى الزمن المعولم خاصية التفرّد للإنسان فنحن متشابهون، وإن اختلف أحدنا إما متخلف عن ركب الحداثة أو مجنون، وحتى قرار الرجوع إلى موضة الستينيات والسبعينيات من القرن الفائت يعود إلى السوق العالمية، حتى تأذن لنا أن نعيش نوعًا من النوستالجيا مع الزمن القديم، حنين يجمّع الجميع ويشكل مصدر دخل إلى كبرى الشركات، فحتى ارتدادنا إلى الماضي مدروس بشكل اقتصادي لا وقت للمشاعر التي تضيع هباء.

 

هل يتفق أحدكم معي حينما أقول لقد فقدنا أنفسنا وربحنا أجسادنا؟ أو حينما أقول لقد صرنا نجري وراء أجسادنا أكثر ممّا نحبّ، وكأننا نحاول أن نؤجلّ شيخوختنا الحتمية؟ إنّ هذا التصابي الاستهلاكي، إن صحّ القول، أفقدنا طبعنا العقلاني لصالح رغباتنا الشهوانية، لنصبح فيما بعد مجرّد حيوانات استهلاكية تستهلك ولا تنتج خارج ما هو مسموح به، فمتى نقلع عن الريجيمات القاسية، ونكفّ عن تفقد تجاعيد وجوهنا، لنستمتع بكلّ مرحلة من أعمارنا دون هلوسات وسلوكات استهلاكية مرضية؟

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"

 

اقرأ/ي أيضًا:

لو تحدثت النساء مثل الرجال.. يفضح العقد الذكورية

مكانة الذات في النظم الاستهلاكية