07-أكتوبر-2015

منظمة الشبيبة الشيوعية جنبًا إلى جنب مع حركة فيمن أمام السفارة التونسية في استوكهولم 2013 (Getty)

مقال رأي 

 

يرتبط الجسد الأنثوي في المخيال العربي والإسلامي بالفتنة والغواية، إذ لا يزال حتى اليوم ينظر إلى المرأة كرمز للفتنة والشهوة وسبب الضياع والإفلات من عقال العقل والحكمة، تعود هذه النظرة إلى عصور ما قبل إسلامية حيث سجنت المرأة في سجن كبير من المحاذير الأخلاقية إن خرجت عنه اعتبرت بغيًا.

 تعامل المجتمع العربي الإسلامي مع الجسد الأنثوي بكثير من القلق والحزم

وفي هذا الإطار تعامل المجتمع العربي الإسلامي مع الجسد الأنثوي بكثير من القلق والحزم، إذ حدّد مجال تحركه في الفضاء العام والخاص أيضًا، ليصل إلى درجة الشطب أحيانًا، لتكون السلطة دائمًا للذكر، وتحمّل السلطة الذكورية الجسد الأنثوي مضامين أخلاقية كالشرف والعرض، فالمحافظة على جسد الأنثى واجب مقدّس لا يقلّ أهمية عن المحافظة على الأرض، لذلك تمّ حصار الأنثى وجسدها والذي يعتبر كيانًا مستقلًا بذاته عن وجودها، ليس لها الحق في التصرّف فيه بإرادتها فجسدها مسلوب منها، يصاحبها في حياتها، يتنقل معها ولا تنتقل ملكيته لها لا بالحياة ولا بالموت.

وكاستمرار لما سبق، بقيت المرأة العربية في وضعية مزدوجة بين المشرّع والواقع، إذ يتقدّم القانون بأشواط على الواقع الذي يهضم حقوق المرأة، إذ لا تزال ترزح تحت أثقال الفكر الديني ولم تتحرر منه بالكامل. وما تزال النظرة الدينية والثقافية تتحكم في قضية المرأة في مجتمعاتنا، وهو ما أعاق مسيرة تحررها على عكس المرأة في الدول التي تخلصت من الإرث الديني واتخذت من العلمانية نهجًا لها.

ومع تنامي النزعة الاستهلاكية في المجتمعات العربية الإسلامية، تبرجت المرأة وأظهرت أجزاء من جسدها بما يستجيب لمقتضيات الموضة والحداثة الراهنة، ولكن تمارس المرأة ثنائية الإخفاء والإظهار بما يلائم ثقافة هذه المجتمعات التي ما زالت تطبع الجسد بنزعة أخلاقية، إذ تتعرى أجزاء من الجسد باتفاق مسبق مع المجتمع الذي تسامح مع سفور المرأة بصفة نسبية.

ولم تتعلق ثنائية الإخفاء والإظهار بمستوى المظهر فقط، بل انعكست أيضًا على السلوك، فإن تحررت المرأة وخرجت عن الأعراف يجب عليها أن تخفي تحررها، وإلا ستنعت بأبشع النعوت وتلفظ اجتماعيًا، فإظهار الحرية هنا هو إعلان العصيان على المجتمع وقيمه، وإخفاؤها كسب المجتمع وضمان العيش فيه بسلام.

في هذا السياق نشأت ثقافة منشطرة تخدم مصالح السلطة الذكورية، بشقها الاستهلاكي الذي شيّء جسد المرأة بما يخدم الحركة الاقتصادية لمصانع الملابس والماركات العالمية، أو بشقها الديني المحافظ الذي ما زال يعتبر جسد المرأة عورة وفتنة لا يجب إظهاره، وتغذّي هذه النظرة الدونية فتاوي الشيوخ الذي شهد نشاطهم نموًا كبيرًا في السنوات الأخيرة كردّة فعل على تنامي النزعة التحررية والحركات النسوية.

حمّل الجسد بشعارات سياسية تطالب بالحرية وتندّد بالديكتاتورية وبالحيف الاجتماعي

ونلاحظ مليًا، بعد الثورات العربية ومع وصول الإسلاميين إلى الحكم، عودة الحجاب والنقاب بنسبة لم نتعودها سابقًا في أوساط النساء، بما يشكل خطرًا على دعاة الحداثة وخطاب التحرر، فإانطلقت أشكال من الاحتجاج السلمي لرفض مظاهر الرجعية أو الإخفاء، وصلت إلى تعرية الجسد وإشهاره على الملأ وإلغاء الاتفاق المضمن بين المرأة والمجتمع بتعرية أجزاء وإخفاء أخرى، فلم يعد الجسد العورة أو الجسد النموذج في مجتمع الإستهلاك حاضرًا في ردّة الفعل هذه، فكانت علياء المهدي من مصر، وأمينة السبوعي من تونس، واللتان قامتا باستيراد أفكار منظمة فيمن أفضل نموذجين في تكسير طوطم الجسد داخل المجتمعات العربية الإسلامية، فتحول الحديث من ضرورة إخفاء الشعر والوجه إلى إخفاء ما تحت الرأس، ومن إشهار السلاح في وجه الأعداء إلى تعرية الجسد كسلاح ضدّ السلطة المحافظة.

بعد ظهور موجة التعرّي في بعض الدول العربية، انتقلت النهود والخصور من موضع فتنة إلى موضوع سياسي، إذ حمّل الجسد بشعارات سياسية تطالب بالحرية وتندّد بالديكتاتورية وبالحيف الاجتماعي، "نذكر هنا أنّ نشأة الاحتجاج بالصدور العارية كانت في أوكرانيا للتنديد بالسياحة الجنسية وبتجارة الرقيق الأبيض هناك"، وانتقلنا من الحديث عن عري الجسد، كإثارة للغرائز الذكورية ليصير لافتة احتجاجية دوّنت عليها المطالب السياسية والفكرية والاقتصادية، التي يرفعها الرجل نفسه، أو لنقل الإنسان بقطع النظر عن دينه وجنسه في تونس ومصر وغيرها من الدول العربية الإسلامية، بطريقة مختلفة عن المتظاهرات بالأجساد العارية.

أصبح الجسد الأنثوي العاري أداة سياسية بيد دعاة الحداثة والعلمانية، الذين تراجع حضورهم مع النزعة المحافظة التي وجدت إقبالًا كبيرًا بعد الثورات العربية، كتعويض على التحديث الاستبدادي الذي حارب الحريات الدينية في فترة ما، من هنا يمكننا الحديث عن الاستغلال السياسي للجسد الأنثوي العاري متجاوزًا بذلك الاستغلال الديني الذي ينظر إليه بمعيار جنسوي تقديسي، أو الاستثمار الاستهلاكي والذي ينظر إلى الجسد بنظرة جنسوية تشيئية.

وفي إطار الحرب المعلنة بين النزعة المحافظة والأخرى التحررية، تمّت المزايدة بقضية المرأة في المجتمعات العربية الإسلامية، ليخدم كلّ طرف مصالحه على حساب حقوقها، طالما لم تندلع ثورة ثقافية حقيقية تسعى إلى بناء دولة المواطنة والحريات، التي تضمن للمرأة حقّ المواطنة بعيدًا عن النظرة الرجعية والأخرى الاستهلاكية، وبعيدًا أيضًا عن الاستغلال السياسي للنساء وأجسادهن، ربما بعد هذه الثورة الثقافية لا نفتح حديثًا عن حقّ ملكية النساء لأجسادهن، أو ملكيته للدين والعادات والتقاليد.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"