مقال رأي
تعيش الجبهة الشعبية في الفترة الأخيرة على وقع مشاكل داخلية جمّة وأزمة حقيقية قد تكون الأصعب منذ تأسيسها في 2012، وهي لا تقلّ خطورة على الوضع الذي مرّت به إبان مرحلة الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية الماضية حينما وجد قياديوها أنفسهم إزاء خيار مرّ وآخر أمرّ بين دعم الباجي قائد السبسي أو المنصف المرزوقي.
تختلف التقييمات والرؤى داخل الجبهة الشعبية حول حصيلة ما تحقّق وما لم يتحققّ خلال العهدة النيابية الحالية
اقرأ/ي أيضًا: الخلافات داخل الجبهة الشعبية.. مؤشرات وتساؤلات
لم يكن قرار حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد القاضي بتقديم منجي الرحوي كمنافس لحمة الهمامي أمين عام حزب العمال بشكل تمهيدي داخلي قبل اختيار المرشح الرسمي للجبهة الشعبية في الانتخابات القادمة سوى القطرة التي أفاضت الكأس. فجّر هذا القرار الجدل داخليًا وفي الساحة السياسية الوطنية ومن ثمّة عرى الوجه الآخر الخفي للصراع الجبهوي الباطني. كما كشف عمق الأزمة التي باتت عليها الجبهة الشعبية التي فقدت الكثير من وزنها الشعبي ورصيدها الانتخابي خلال السنوات الماضية بعيد الانتخابات التشريعية والرئاسية الفارطة التي بوأتها مكانة القوة السياسية الثالثة الأكبر في البلاد. يبرز هذا خاصة في النتائج التي تمخضت عن الانتخابات البلدية الأخيرة.
تختلف التقييمات والرؤى داخل الجبهة الشعبية حول حصيلة ما تحقّق وما لم يتحققّ خلال العهدة النيابية الحالية التي حافظت خلالها على تماسك كتلتها البرلمانية رغم فشلها في تزعّم المعارضة والتحوّل إلى قوّة جماهيرية كبرى قادرة على الإطاحة ديمقراطيًا بمنظومة الحكم الحالية لضمان التداول السلمي على السلطة. ولاشكّ في أنّ الخلاف الحاصل أساسًا بين الوطد الموحد وحزب العمّال يتجاوز المناورات وحرب التموقع الداخلي التي تسبق عملية تشكيل القائمات لخوض غمار الانتخابات التشريعية المقبلة ليبلغ درجة التشكيك في وجاهة المقاربة التي يطرحها كلّ طرف من الحزبين الأكثر تأثيرًا صلب الجبهة الشعبية.
يتجاوز الخلاف الآني درجة الصراع الديمقراطي بين مرشحين اثنين داخل جسم تنظيمي واحد يستعد لتقديم مرشح رسمي في الانتخابات الرئاسية القادمة فهو صراع له جذور تاريخية وأيضًا سياسية وفكرية. فقد سبق أن هاجم منجي الرحوي حمة الهمامي في أكثر من تصريح إعلامي محملًا إياه مسؤولية الجمود التنظيمي والضمور الشعبي والسياسي الذي تشهده الجبهة منذ مدّة.
سبق أن هاجم الرحوي حمة الهمامي في أكثر من تصريح محملًا إياه مسؤولية الجمود التنظيمي والضمور الشعبي والسياسي الذي تشهده الجبهة منذ مدّة
فشلت الجبهة الشعبية منذ شهر ماي/ أيار 2016 في مساعي عقد ندوتها الوطنية الرابعة التي كان يفترض أن تحسم في القضايا الخلافية الداخلية منذ أشهر خلت فقد وقع تأجيلها لأكثر من مرّة. كما تمّ إطلاق عديد المبادرات من قبل نشطاء ومناضلين صلبها للتعجيل في موعد وضع ملفاتها التنظيمية في أطر مؤسساتية تجمع جميع مكوناتها من أحزاب ومستقلين بغرض الحسم وفق مقاربة ديمقراطية تشاركية في آفاق هذه التجربة السياسية الجبهوية مرحليًا واستراتيجيًا، غير أنّ الفشل كان هو مصير مختلف هذه المحاولات.
ربّما من الضروري تفهّم طبيعة الصعوبات التي عادة ما تكتنف العمل الجبهوي في المشهد السياسي التونسي الذي أخفقت فيه معظم التجارب إذا ما استثنينا ما حققته الجبهة الشعبية. علاوة عن ضرورة أيضًا وضع هذه التجربة في سياقها السياسي المحلي حيث تسبّب الاستنزاف اليومي في المعارك داخل البرلمان وخارجه إزاء الخيارات السياسية اللااجتماعية المجحفة للائتلاف الحاكم خلال السنوات الماضية في تشتيت قوة الجبهة الشعبية التي أضاعت بوصلتها الاستراتيجية وهو ما ساهم في انفضاض الكثير من مناضليها من حولها.
من المهم التأكيد على أنّ كلّ هذه المعطيات الموضوعية وغيرها لا يجب أنّ تحجب الأسباب العميقة للأزمة التي تشهدها اليوم الجبهة الشعبية كما هو الحال بالنسبة لمعظم القوى الديمقراطية الاجتماعية والأحزاب السياسية بشكل عام في تونس فهنا بالذات يكمن مربط الفرس.
إنّ أزمة الجبهة الشعبية هي أزمة تنظيمية بالأساس قبل أن تكون سياسية. أزمة ديمقراطية داخلية تكاد تكون مفقودة صلب هياكلها التي تحتاج إلى تعميق الممارسة الديمقراطية بطريقة أفقية لا تقتصر فقط على الاجتماعات الدورية لمجلسها المركزي الذي شهد مؤخرًا استقالة أحد أعضائه من الذين اختاروا طريق الالتحاق بحركة تحيا تونس.
ما يزيد الطين بلّة داخل الجبهة الشعبية هو حالة التعنّت وأسلوب المغالبة الذي اختاره كلّ طرف من الأطراف المتنافسة. فسياسة الأمر الواقع من الواضح أنّها ستزيد في تعميق الخلاف وهو ما قد يؤثر سلبًا على الوحدة التنظيمية والمشروعية السياسية لأيّ شخصية قد تتوافق حولها الجبهة في نهاية المطاف كمرشح رئاسي مهما كان لونه الحزبي.
إنّ أزمة الجبهة الشعبية هي أزمة تنظيمية بالأساس قبل أن تكون سياسية، أزمة ديمقراطية داخلية تكاد تكون مفقودة صلب هياكلها
رغم كلّ الانتقادات بغثّها وسمينها التي توجه للجبهة الشعبية حول أدائها خلال الفترة الماضية ولاسيما خطابها السياسي ومقاربتها في التعاطي مع أزمة البلاد فإنّه لا يمكن القفز حول حقيقة مؤداها أنّها كيان سياسي نوعي يمثل ضمانة للمعترك الديمقراطي في تونس لاسيما في علاقة بقضايا الحقوق والحريات وخاصة حينما يتعلق الأمر بالمسألة الاجتماعية والاقتصادية.
قدمت الجبهة الشعبية شهداء للوطن من أجل بناء تونس الديمقراطية الجديدة على قاعدة دستور الجمهورية الثانية ولكنها اليوم تمر بمفترق طرق قد يكون فرصة سانحة لإعادة ترتيب بيتها الداخلي ومراجعة حساباتها قبل فوات الأوان. لا يهم كثيرًا إن كان مرشحها في الانتخابات الرئاسية منجي الرحوي أو حمة الهمامي فالأهم هو الوقوف على أصل الداء.
إنّ داء الجبهة الشعبية هو معضلة هيكلية تعتبر قاسمًا مشتركًا صلب الأحزاب السياسية في تونس فما نعيشه اليوم هو بناء ديمقراطية هشّة بلا ديمقراطيين. فالديمقراطية بقيت مجرد شعار أجوف يتم ترديده في الخطاب السياسي وفي المنابر الإعلامية والاجتماعات الشعبية.
قد يبدو الأمر غريبًا ومفارقة تطرح عديد التناقضات والمفارقات بالنظر إلى أنّ الجبهة الشعبية تقدم نفسها على أنّها قوة سياسية ديمقراطية وتقدمية. والحداثي بالضرورة يجب أن يكون ديمقراطيًا ومتشبعًا بكنه فريضة النقد الذاتي العقلاني قبل كلّ شيء.
ما نعيشه اليوم هو بناء ديمقراطية هشّة بلا ديمقراطيين فالديمقراطية بقيت مجرد شعار أجوف يتم ترديده في المنابر والاجتماعات
تحتاج الجبهة الشعبية إلى وضع تجربتها على محك النقد وربما حتّى جلد الذات، والوضع الذي آلت إليه وهو الذي ينبئ بإمكانية انفراط عقدها خير دليل على عمق الأزمة الهيكلية التي وصلت إليها نتيجة ضعف الممارسة الديمقراطية داخليًا.
قد تنجح الجبهة الشعبية في تخطي هذه المحنة التي تمر بها نتيجة تراكمات وأخطاء شكلية ومضمونية. غير أنّ مستقبلها واستمراريتها ستكون رهينة المعالجة السليمة لأزمتها الهيكلية التي تتطلب إعادة تأسيس على أسس ديمقراطية واقعية تقطع مع سياسة الهروب إلى الأمام وصب الزيت على النار داخليًا عملًا بمقولة "اليوم خمر وغدًا أمر".
إنّ أكبر خطر يهدّد تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس هو هاجس بناء ديمقراطية بلا ديمقراطيين فالظلّ لا يمكن أن يستقيم والعود أعوج. وما يحصل اليوم في الجبهة الشعبية وغيرها من الكيانات السياسية الديمقراطية التقدمية هو نتاج غياب الممارسة الديمقراطية الداخلية والقاعدية التي ظلّت مجرد شعار فضفاض.
ما يجب أن تستوعبه قيادات الجبهة الشعبية وغيرها من الأطراف السياسية الحداثية هو أنّه لا نجاح للتجربة الديمقراطية في تونس مستقبلًا دون تأصيل لهذه الممارسة وثقافتها صلب الأحزاب. ليست الديمقراطية مجرد انتخابات دورية أو ترف فكري منمق وإنّما هي تمرين يومي مؤسساتي يمثل وصفة النجاح والعبور لبناء دولة المواطنة الراشدة التي ترتكز على مفهوم الجمهورية الديمقراطية الاجتماعية لا على الفهلوة السياسوية وخطاب "كول والا كسر قرنك" كما يقال في اللهجة العامية التونسية.
ولأن الحقيقة وحدها ثورية، فسيكون بذلك إعلان معظم أحزاب الجبهة الشعبية عزمها ترشيح حمة الهمامي بأسلوب فوقي مركزي دون الاحتكام إلى آلية توسع دائرة الديمقراطية الداخلية، جرحًا آخر يعمّق جراح جسد تنظيمي عليل.
اقرأ/ي أيضًا: