مع تفاقم مظاهر الأزمة الاقتصادية في تونس، خيّر عدد كبير من التونسيين الهجرة نحو دول يمكن أن تتوفر فيها فرص عمل لائقة تقيهم من جحيم البطالة الذي يتخبطون فيه لسنوات. فآثر بعضهم الانضمام إلى قوافل مراكب الموت نحو الفضاء الأوروبي، فيما خيّر البعض الآخر التوجه نحو الجارة الشرقية ليبيا. ولئن تعتبر الرحلة لكلتا الوجهتين محفوفة بالمخاطر، فإن تفشي الفقر والبطالة أجبرا المواطن على المجازفة ليضع حياته في كفة ومستقبله في كفة أخرى.
تنديد تونسي بغياب الضمانات وحقوق العملة التونسيين بليبيا وعدم تدخل الدولة التونسية لتأمين حقوق جاليتها بالبلد المجاور
وقد تتالت في الآونة الأخيرة حوادث احتجاز تونسيين في ليبيا كما فجرت وفاة تونسي بمدينة بني وليد الليبية في حادث، عمل غضبًا واسعًا في صفوف الحقوقيين الذين نددوا بغياب أي ضمانات وحقوق للعملة التونسيين بليبيا وعدم تدخل الدولة التونسية لتأمين حقوق جاليتها بليبيا.
وقد استنكر المرصد التونسي لحقوق الإنسان ما يتعرض له العمال التونسيون بليبيا من اعتداءات متكررة خلفت حالة من الذعر لدى عائلاتهم، كما أعرب عن رفضه القاطع لهذه الحملات الأمنية العشوائية التي لا تحترم أبسط شروط حقوق الأفراد أثناء عمليات الإيقاف.
كما أكد رئيس المرصد مصطفى عبد الكبير في تصريحات إعلامية أن وضع العمال التونسيين في ليبيا يزداد سوءًا، مطالبًا الدولة التونسية بوضع حد لامتهان كرامة التونسيين. كما سلط الضوء على الوضعية الهشة للعملة التونسيين بليبيا في ظل غياب التأمينات وحرمانهم من أبسط حقوقهم المهنية.
- "غياب الحقوق وتفاوت الأجور"
يقول محمد علي، وهو شاب ثلاثيني، إنه اختار ليبيا وجهة له بتشجيع من زميله في العمل، وإنه اتجه نحو الأراضي الليبية يوم 1 جانفي/ يناير 2022 للالتحاق بعمله كحلاق، وعاد إلى تونس فقط لقضاء إجازة صيفية ثم عاد للعمل نهاية شهر أوت/ أغسطس الماضي.
ويؤكد محمد علي في حديثه لـ"الترا تونس" أن الوضع في ليبيا أفضل من تونس بكثير في علاقة بتوفر جميع المواد الغذائية والمستلزمات الحياتية بصفة عامة، كذلك في علاقة بالأجور والوضعية المادية، لافتًا إلى غياب أي قانون واضح يحمي العمَلة نظرًا لعدم استقرار الوضع بليبيا وخضوع كل منطقة إلى قوانين خاصة بها تحددها "المليشيات" التي تسيطر عليها.
محمد علي (30 سنة) لـ"الترا تونس": الوضع في ليبيا أفضل من تونس بكثير في علاقة بتوفر جميع المواد الأساسية عمومًا، لكن لا يوجد قانون واضح يحمينا كعمال
وتعقيبًا على تعرض تونسيين إلى الاستغلال في العمل وهضم حقوقهم، أكد محمد علي أنه لم يتعرض أبدًا لمعاملة كهذه منذ ذهابه إلى ليبيا، وأن البعض يقبل بظروف مهينة برضا منهم، "لكن الشعب الليبي بشكل عام شعب طيب، وحتى التهديدات والمخاطر الموجودة أحيانًا تشكل خطرًا على الأجانب والليبيين على حد السواء ووجب توخي الحذر والتزام المكوث بالمنزل ريثما يزول الخطر" وفقه.
ويقول المتحدث "واجهت إشكالًا وحيدًا منذ قدومي إلى ليبيا مع القنصلية التونسية، ففي فترة ما، وقعت اشتباكات عنيفة مسلحة واتصلت بنا القنصلية عبر رسالات قصيرة دعتنا فيها إلى التواصل معها إذا واجهنا إشكالًا.. اتصلت بهم لكن الرد لم يكن جديًا وآنيًا.. الدولة التونسية متخلية عنا تمامًا لكن عمومًا وضعيتي ممتازة وأفضل مما كنت عليه في تونس".
محمد علي (30 سنة) لـ"الترا تونس": الدولة التونسية متخلية عنا تمامًا، وإشكالي الوحيد في ليبيا هو مع القنصلية التونسية التي تكون ردودها غير جدّية وغير آنية
أما كمال فهو كهل خمسيني، أب لأربعة أبناء، عمل بسوق الجملة طيلة عقدين متتاليين لكنه قرر في الفترة الأخيرة الانتقال وعائلته إلى ليبيا بحثًا عن لقمة عيش أفضل خاصة وأن الارتفاع الجنوني في الأسعار أثقل كاهله وأفقده القدرة على توفير حاجيات عائلته التي ما فتأت ترتفع يومًا بعد يوم.
يقول كمال في حديثه لـ"الترا تونس" إنه رغم تعب السنين لم يتمكن حتى من اقتناء مسكن قار وظل يتنقل بين منازل الإيجار التي ارتفعت كلفتها وأصبحت عبئًا ثقيلًا عليه، فقرر التوجه إلى ليبيا للبحث عن عمل، وما إن تمكن بمساعدة صديقته من تأمين عمل بأجر لائق ومسكن وظيفي، اصطحب عائلته منذ ثلاثة أشهر للاستقرار هناك.
يقول كمال إن أكبر مخاوفه كانت من عدم قدرة أطفاله على التأقلم مع محيطهم الجديد، لكن مخاوفه تبددت منذ الشهر الأول الذي تمكن فيه أطفاله من الالتحاق بمقاعد الدراسة والتعود على نمط العيش الجديد الذي لا يختلف كثيرًا عن تونس.
كمال (كهل خمسيني) لـ"الترا تونس": هناك فارق كبير في الأجور، فالتونسي الذي توكل إليه كلّ الأعمال الشاقة، يتقاضى أقل من الليبي الذي يعمل نصف يوم فقط
ويستنكر المتحدث فارق الأجور بين الليبيين والتونسيين فيقول "على الرغم من أنه لم يمر وقت طويل على قدومي إلى ليبيا لاحظت فرقًا كبيرًا في الأجور بين الليبيين والأجانب بصفة عامة، حتى أوقات العمل تختلف، فالتونسي مثلًا يعمل منذ الساعة الثامنة صباحًا إلى السادسة مساءً لكنه يتقاضى أقل من الليبي الذي يعمل نصف يوم فقط.. كما أن الأعمال الشاقة التي يمتنع عنها الليبيون توكل إلى التونسيين.. صحيح أن ظروف العمل قاسية ولا وجود لأي ضمانات لحقوق العملة، لكن التونسي مجبر على تخطي الصعاب والعمل من أجل عائلته" وفق وصفه.
- "أداء دبلوماسي وقنصلي ضعيف"
خلال حضورها فعاليات الدورة الرابعة للمنتدى الاقتصادي التونسي الليبي، أكدت وزيرة التجارة فضيلة الرابحي حاجة السوق الليبية إلى العديد من الكفاءات التونسية في شتى المجالات، مشددة على أن الجانب التونسي يسهر على ضمان حقوق العمال التونسيين في ليبيا عبر عقود واتفاقيات تضمن حقوقهم ومستحقاتهم. مع ذلك، فإن 160 تونسيًا لقوا حتفهم في ليبيا خلال العشرية الأخيرة في حوادث شغل وسير ولم يتحصل ذويهم على حقوقهم.
وقد أكد رمضان بن عمر الناطق الرسمي باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية أن مجموعة عائلات من القيروان اتصلت بالمنتدى في شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2022، وأبلغت عن إيقاف أبنائهم في ليبيا منذ فترة بدون وضوح إجراءات التقاضي، ويتم في كل مرة تأجيل النظر في ملفاتهم التي تتعلق بتهم تهريب وقود وسلع وغيرها.
رمضان بن عمر (منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية) لـ"الترا تونس": التونسيون في ليبيا هم اليوم للأسف ضحية بعض المليشيات الليبية، وهم عرضة أحيانًا للابتزاز مقابل إطلاق سراحهم
وقال بن عمر في حديثه لـ"الترا تونس" إن انعدام سلطة مركزية موحدة في ليبيا في ظل الصراع الحالي، أثّر بصفة كبيرة على وضعية الجالية التونسية هناك علاوة على الأداء الضعيف لمصالح القنصلية في تونس الذي لم يساهم في حل هذه الإشكاليات وحماية الجالية التونسية، فتضطر العائلات لاستعمال بعض العلاقات العائلية على مستوى الشريط الحدودي بين البلدين ليتمكنوا من حلحلة بعض الإشكاليات العالقة.
وتابع المتحدث: "أزمة أبنائنا في ليبيا تعكس التخبط التونسي في السنوات الأخيرة في علاقة بالأزمة الليبية وعدم التمكن من بناء علاقات ثقة مع جميع الأطراف في ليبيا بشكل يحمي على الأقل أبنائنا المهاجرين ويدافع على حقوقهم هناك.. للأسف التونسيون في ليبيا اليوم ضحية بعض الأطراف أو المليشيات الليبية، وهم عرضة أحيانًا للابتزاز ودفع الأموال مقابل إطلاق سراحهم".
رمضان بن عمر لـ"الترا تونس": لا يمكن منع التونسيين من الذهاب إلى ليبيا للبحث عن مورد رزق، لأن تونس تعيش وضعًا اقتصاديًا واجتماعيًا وسياسيًا صعبًا جدًا
وأضاف أن العلاقات العائلية أو مع بعض الأطراف في ليبيا يمكن أن تحل بعض الإشكاليات، لكنها لا تستطيع تعويض المجهود الدبلوماسي الحقيقي الذي يتحمل المسؤولية الأساسية في حماية التونسيين في ليبيا، وحتى إن كانت الوضعية هشة بالإمكان تقديم أداء أفضل بكثير، وفقه.
كما يرى رمضان بن عمر أن الوضعية الهشة على المستوى السياسي والأمني والقانوني في ليبيا ستنعكس على وضعية المهاجرين هناك، مبينًا أنه لا يمكن منع العمال التونسيين من التوجه إلى ليبيا والبحث عن مورد رزق، لأن تونس في وضعية اقتصادية واجتماعية وسياسية صعبة جدًا، وبالتالي وجب على الدولة توفير الحد الأدنى من الحماية لمصالح وحقوق التونسيين والوقوف إلى جانبهم من خلال العلاقات الثنائية والتواصل مع جميع الأطراف الليبية، وبالتالي يشعر الليبيون بأن العملة التونسيين مسنودين من دولة تسهر على حماية حقوقهم.
تجدر الإشارة إلى أن الصحفيين التونسيين نذير القطاري وسفيان الشورابي كانا قد اختطفا في ليبيا منذ سبتمبر/ أيلول 2014 من قبل جماعات مسلحة، ورغم التحركات الرسمية والحقوقية لا وجود لأي معلومات دقيقة عن مصيرهما إلى اليوم.
وكانت جمعية إنقاذ التونسيين العالقين بالخارج قد دعت رئيس الجمهورية قيس سعيّد إلى تكوين لجنة للبحث والتقصي حول المفقودين والعالقين من التونسيين والتونسيات والبت بصفة نهائية في مواضيع عالقة لسنوات من بينها ملف الشورابي والقطاري.