17-يونيو-2022
الاتجار بالبشر في تونس

القوانين لم تمنع ارتفاع هذه الجرائم التي طور مرتكبوها في شبكاتهم وطرق استغلالهم لضحاياهم واستقطابهم عبر استعمال وسائل حديثة (Getty)

 

"من يولد في التراب التونسي حر لا يباع ولا يشترى" أمر مضى على إصداره 180 سنة منع بمقتضاه الاتجار في العبيد وبيعهم تلاه أمر علي أصدره أحمد باي الأول في 23 جانفي/يناير 1846 ينص في فصله الأول على أنه "لا عبودية بمملكتنا ولا يجوز وقوعها فيها، فكلّ إنسان حرّ مهما كان جنسه أو لونه ومن يقع عليه ما يمنع حريّته أو يخالفها، فله أن يرفع أمره للمحاكم"، لتكون بذلك تونس سباقة في إلغاء العبودية ومكافحة الاتجار بالبشر.

وعلى الرغم من مضي 176 عامًا على إلغاء الرق فان ظاهرة الاتجار بالبشر عادت للواجهة متخذة أشكالًا وأساليب مختلفة أبرزها الاستغلال الجنسي والاقتصادي والاسترقاق كما طالت جميع الشرائح نساء ورجالاً وأطفالًا وأجانب. ولئن تحاول تونس مكافحة هذه الظاهرة عبر إصدار قوانين ردعية وتشجيع المواطن على الانخراط في حملة المكافحة عبر التبليغ فإن العديد من الأشخاص يقعون فريسة للمتاجرين بالبشر لتصبح بذلك مقاومة هذه الظاهرة والقضاء محور اهتمام جميع دول العالم وتم على إثر ذلك إقرار يوم 30 جوان/يونيو اليوم العالمي لمكافحة الاتجار بالأشخاص.

 

 

  • قوانين لم تمنع تفاقم الظاهرة

كشف التقرير السنوي لهيئة مكافحة الاتجار بالبشر عن تسجيل 907 حالات اتجار بالبشر سنة 2020 مقابل 1313 حالة سنة 2019 وقد تم رصد أطفال من بين المتاجرين كما ارتفعت نسبة انخراط النساء في هذه الجرائم من 2.5 في المائة سنة 2019 إلى 49 في المائة سنة 2020.

تقرير هيئة مكافحة الاتجار بالبشر في تونس: تسجيل 907 حالات اتجار بالبشر سنة 2020 وارتفاع نسبة انخراط النساء في هذه الجرائم

وبيّن تقرير الهيئة أن ثلثي حالات الاتجار بالبشر نساء وأكثر من نصف الحالات من الأطفال لافتًا إلى وجود ارتفاع غير مسبوق للاستغلال الجنسي للأطفال بنسبة 32 في المائة علاوة على ارتفاع ظاهرة بيع الرضع بنسبة 63 في المائة كما بلغت نسبة التشغيل القسري للأطفال 40 في المائة. ولكي لا تظل الأرقام المسجلة مجرد إحصائيات أعربت العديد من الوزارات من بينها وزارة العدل والخارجية والأسرة والمرأة وكبار السن عن استعدادها للتفاعل مع تقرير الهيئة لتتضافر مجهودات الدولة في التصدي لهذه الظاهرة.

التصاعد المتواصل في ظاهرة الاتجار بالبشر يطرح أكثر من تساءل حول نجاعة القوانين والمعاهدات الدولية التي انخرطت فيها تونس للحد من نزيف هذه الظاهرة وقد وافقت تونس على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة وعلى البروتوكول المكمل لها وهو بروتوكول منع وقمع ومعاقبة الاتجار بالأشخاص وخاصة النساء والأطفال. ويقصد بـ"الاتجار بالأشخاص" في القانون الدولي على معنى البروتوكول المذكور  " تجنيد أشخاص أو نقلهم أو تنقيلهم أو إيوائهم أو استقبالهم بواسطة التهديد بالقوة أو استعمالها أو غير ذلك من أشكال القسر أو الاختطاف أو الاحتيال أو الخداع أو استغلال السلطة أو استغلال حالة استضعاف أو بإعطاء أو تلقي مبالغ مالية أو مزايا لنيل موافقة شخص له سيطرة على شخص آخر لغرض الاستغلال. ويشمل الاستغلال كحد أدنى، استغلال دعارة الغير أو سائر أشكال الاستغلال الجنسي أو السخرة أو الخدمة قسرًا أو الاسترقاق أو الممارسات الشبيهة بالرق أو الاستعباد أو نزع الأعضاء".

تقرير هيئة مكافحة الاتجار بالبشر في تونس: ثلثا حالات الاتجار بالبشر نساء وأكثر من نصف الحالات من الأطفال وارتفاع غير مسبوق للاستغلال الجنسي للأطفال

فيما يعرف القانون التونسي عدد 61 لسنة 2016 والمتعلق بمنع الاتجار بالأشخاص ومكافحته الاتجار بالأشخاص على أنه "يعد اتجارًا بالأشخاص استقطاب أو تجنيد أشخاص أو نقلهم أو تنقيلهم أو تحويل وجهتهم أو ترحيلهم أو إيواؤهم أو استقبالهم باستعمال القوة أو السلاح أو التهديد بهما أو غير ذلك من أشكال الإكراه أو الاختطاف أو الاحتيال أو الخداع أو استغلال حالة استضعاف أو استغلال نفوذ أو تسليم أو قبول مبالغ مالية أو مزايا أو عطايا أو وعود بعطايا لنيل موافقة شخص له سيطرة على شخص آخر وذلك بقصد الاستغلال أيًا كانت صوره سواء من طرف مرتكب تلك الأفعال أو بوضعه على ذمة الغير لاستغلاله.

ويشمل الاستغلال استغلال بغاء الغير أو دعارته أو غيرها من أشكال الاستغلال الجنسي أو السخرة أو الخدمة قسرًا أو الاسترقاق أو الممارسات الشبيهة بالرق أو الاستعباد أو التسول أو نزع الأعضاء أو الأنسجة أو الخلايا أو الأمشاج أو الأجنة أو جزء منها أو غيرها من أشكال الاستغلال الأخرى".

كما ينص القانون في فصله الثامن على أنه "يعاقب بالسجن مدة 10 أعوام وبخطية قدرها 50 ألف دينار كل من يرتكب إحدى جرائم الاتجار بالأشخاص المنصوص عليها بالعدد 1 من الفصل 2 من هذا القانون" كما تم على معنى القانون عدد 61 إحداث الهيئة الوطنية لمكافحة الاتجار بالأشخاص والتي تضطلع بالعديد من المهام من بينها وضع استراتيجية وطنية تهدف إلى منع الاتجار بالأشخاص ومكافحته واقتراح الآليات الكفيلة بتنفيذها.

يعاقب بالسجن مدة 10 أعوام وبخطية قدرها 50 ألف دينار كل من يرتكب إحدى جرائم الاتجار بالأشخاص وفق القانون التونسي

 

 

على الرغم من تجذر مكافحة الاتجار بالأشخاص في القانون التونسي منذ القدم وتسليط عقوبات ردعية على المجرمين وإفراد هذه الظاهرة بهيئة تكافحها فإن هذه المجهودات لم تحول دون ارتفاع هذه الجرائم التي طور مرتكبوها في شبكاتهم وطرق استغلالهم لضحاياهم واستقطابهم عبر استعمال وسائل حديثة وأكثر تطور من بينها وسائل التواصل الاجتماعية الشيء الذي عسر عملية الإطاحة بهم ويعيق محاولة محاصرة هذه الظاهرة.

ويرى الناطق الرسمي باسم المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية رمضان بن عمر أنه في قضايا الاتجار بالأشخاص الأرقام المعلن عنها لا تعكس الواقع دائمًا وأن الدولة اكتفت في مسألة معالجة بعض الظواهر الاجتماعية بسن القوانين اعتقادًا منها وكأن القوانين وحدها قادرة على الحد من هذه الظواهر وخاصة منها ظاهرة الاتجار بالبشر.

الناطق الرسمي باسم منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لـ"الترا تونس": في قضايا الاتجار بالبشر الأرقام المعلن عنها لا تعكس الواقع دائمًا والدولة اكتفت بسن القوانين

ولفت بن عمر في حديثه لـ"الترا تونس" إلى أن هذه الظاهرة تتخذ أشكالًا جديدة ومتنوعة تواكب التطور الذي يحدث في المجتمعات، معتبرًا أن الاكتفاء بالمقاربات القانونية وحده أثبت قصوره لأن هذه المقاربات تستوجب إمكانيات مادية كبيرة الشيء الذي لا يتوفر لدى هيئة مكافحة البشر.

وأضاف المتحدث أن هذه الظاهرة تستوجب مقاربة تستهدف تدريب العاملين بالخطوط الأمامية الذين يكتشفون هذه الجرائم ويتعاملون مع الضحايا لتكون لديهم القدرة على التعامل مع هذه الجرائم، بالإضافة إلى مقاربة متكاملة تدمج البعد الثقافي والتربوي والاقتصادي والاجتماعي وهذه المقاربات غائبة لأن عقلية الزجر هي فقط المتوفرة اليوم، وفقه.

كما شدد على أن الاتجار بالبشر مسألة تربوية وثقافية تستوجب إدماج كل المقاربات المذكورة للناشئة منذ الصغر في البرامج والأنشطة والمقاربات والسياسات الثقافية للتمكن من الحد والتقليص من هذه الظاهرة وتبعاتها الخطيرة والمدمرة للمجتمعات والتي أحيانًا تصدم الرأي العام. وختم بالتأكيد على أهمية تحيين المنظومات القانونية والتربوية والثقافية ليكون العمل مستمرًا وناجعًا ويواكب هذه التطورات على اعتبار أن هذه الظاهرة تتخذ أشكالاً جديدة.

الناطق الرسمي باسم منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية لـ"الترا تونس": هذه الظاهرة تستوجب مقاربة متكاملة لكن ذلك غائب لأن عقلية الزجر هي فقط المتوفرة

 

 

  • الفقر والبطالة أبرز أسباب الظاهرة

يعتبر الاتجار بالبشر على اختلاف أشكاله انتهاكًا صارخًا لحقوق الإنسان وتعد سافر على كرامة الذات البشرية كما أنه ممارسات شبيهة بالعبودية يستغل فيها الشخص جسديًا أبشع استغلال. والغريب في الأمر أن بعض العائلات مارست الاتجار بأبنائها بغاية الربح المادي وتتمثل أطوار القضية في تعمد امرأة التفريط في أبنائها الأربع الذين أنجبتهم خارج إطار الزواج اثنين منهما بالتبني واثنين تلقت مقابلهما مبلغًا ماليًا.

وأفادت رئيسة الهيئة الوطنية لمكافحة الاتجار بالأشخاص روضة العبيدي أن أهم أسباب تفاقم ظاهرة الاتجار بالبشر تعزى إلى الفقر والبطالة وتدهور الوضع الاقتصادي الذي يدفع بالبعض إلى البحث عن مواطن شغل في بلدان عربية فيكونون فريسة لعقود مزورة يستغلون على إثرها في شبكات اتجار إلى جانب تطور وسائل الاتصال الاجتماعي التي شهدت مؤخرًا العديد من الجرائم في ظل غياب الرقابة على الأطفال الشيء الذي سهل عملية استقطابهم.

رئيسة الهيئة الوطنية لمكافحة الاتجار بالأشخاص لـ"الترا تونس": لا تملك الهيئة ميزانية خاصة بها لكنها تتعاون مع جميع الوزارات وتبرم شراكات مع المؤسسات الدولية وهذا لا يغطي النقص الموجود

وبينت العبيدي، في حديثها لـ"الترا تونس" أن الهيئة ليس لها ميزانية خاصة بها لكنها تتعاون مع جميع الوزارات كل في مجال اختصاصه فإذا احتاجت لإيواء الضحايا أو مداواتهم أو مساعدتهم تلجأ لمؤسسات الدولة والوزارات لتأمين هذه التدخلات كما أنها تبرم شراكات مع المؤسسات الدولية التي تلعب دورًا كبيرًا لكن هذا لا يغطي النقص الموجود.

كما اعتبرت أن تلافي النقص المذكور يكون عبر حملات التوعية لأنه "على سبيل المثال في ثقافتنا المجتمعية لا يزال عمل الفتيات القاصرات مقبولًا وليس مرفوضًا بشكل كبير"، مشيرة إلى أن الهيئة تتلقى بلاغات بخصوص وجود شبهات اتجار بالأشخاص عبر جميع الطرق من بينها إشعار الهيئة والإعلام من قبل القضاء والأطباء الذين يشكون في حالات اتجار بالأشخاص وكذلك من قبل الصحافيين الذين أشعروا الهيئة بالعديد من الوضعيات التي يتفطنون لها خلال عملهم.

رئيسة الهيئة الوطنية لمكافحة الاتجار بالأشخاص لـ"الترا تونس": نتلقى بلاغات بخصوص وجود شبهات اتجار بالأشخاص مباشرة أو عبر القضاء والأطباء والصحافيين وغيرهم

ولفتت رئيسة هيئة مكافحة الاتجار بالبشر أن الإشكال يكمن في الحالات التي لا تعي بأنها ضحية اتجار، قائلة "هناك بعض النساء يعتقدن أن العنف الذي يسلط عليهن طبيعي ولا يعرفن أن القانون يجرم ذلك حتى أنهن في بعض الأحيان يحملن أنفسهن المسؤولية ويعتبرن أنهن أخطأن".

كما شددت على أن جرائم الاتجار بالأشخاص لديها العديد من الأشكال وتطال جميع مجالات الحياة فنجدها في الاستغلال الجنسي وفي محاولات بيع الأعضاء وبيع الرضع واستغلال الأطفال في التسول وفي العمل القسري والأعمال المنزلية وبالتالي وجب العمل على مستوى المجتمع ليلعب الجميع دورًا في حماية الضحايا.      

تجدر الإشارة إلى أن هيئة مكافحة الاتجار بالبشر كانت قد أطلقت مؤخرًا "دليل مرافقة ضحايا الاتجار بالأشخاص نحو الإدماج أو إعادة الإدماج في تونس" بدعم من البرنامج المشترك بين مجلس أوروبا والاتحاد الأوروبي بغاية التعريف بالحقوق والخدمات المتاحة لضحايا الاتجار بالأشخاص كما يساعد على توفير مرافقة اجتماعية في عملية الإدماج وإعادة الإدماج بشكل مستدام وناجع.