13-يونيو-2019

التأتأة هي اضطراب لا إرادي في طلاقة التعبير والكلام (Getty)

 

"لم يحرجني الأمر في البداية وسط العائلة أو في أي مكان، ربّما لأنّني لم أواجه أيّ سخرية حينها. لكن حين التحقت بالمدرسة تغيّر الأمر كثيرًا، بل باتت تأتأتي مزعجة لاسيما حين يطالبني الأستاذ بالقراءة. تعرّق وخفقان سريع واختناق، يقطع صمت القاعة تأتأتي، ثم تعقبها ضحكات من حولي في الصف. موقف أواجهه مرّات ومرّات، ولم يتعوّد من حولي على هذا المشكل أو العجز الذي أعيشه"، هكذا يصف محمّد فريضي ما كان يتعرّض له من سخرية بسبب مشكلته في النطق وعدم قدرته على إخراج الكلمات بسلاسة لاسيما في مستهلّ كلامه.

محمد فريضي (يعاني من التأتأة): حين أتعامل مع شخص جديد في حياتي لا أستطيع النظر في عينيه مخافة أن أرى ذلك الاستغراب في عينه أو سخريته أو ربّما حتى شفقته

يضيف محدثنا قائلًا: "أكثر المواقف التي تحرجني، كانت عند انطلاق الحصة الدراسية التي يستهلّها الأستاذ بقائمة الأسماء لتسجيل الغيابات. عندما يلفظ إسمي ينتظر مني أن أقول كلمة "حاضر". تمرّ ثلاث ثواني أو أكثر، قد سمعت اسمي لكنّ لفظ "حاضر" في حلقي ولا تخرج بسهولة، كأنّ شيئًا عالقًا يمنعني من الكلام، يبقى فمي مفتوحًا، أجاهد حتى تخرج الكلمة "ححححاضر".

يقول محمّد لـ"ألترا تونس" إن هذا الموقف يجعله محل سخرية من أغلب زملائه في القسم كل يوم ما جعله يصبح شخصًا غير اجتماعي، مشيرًا إلى أن ملازمة هذا العجز له حتى حين كبر جعله يتجنب المناسبات أو أيّ تجمعات مع غرباء. "حين أتعامل مع شخص جديد في حياتي لا أستطيع النظر في عينيه مخافة أن أرى ذلك الاستغراب في عينه أو سخريته أو ربّما حتى شفقته عليّ"، هكذا يحدثنا محمد.

اقرأ/ي أيضًا: مرض التوحد في تونس.. مراكز خاصة مكلفة والعمومي لم يفتح أبوابه!

ماهي التأتأة في الكلام؟

الاكتساب الطبيعي لطلاقة الكلام أمر ضروري في حياة الفرد، والطلاقة تعني السلاسة أو التدفق الذي يربط الأصوات والكلمات والعبارات معًا لكن "قد تبرز لدى بعض الأطفال منذ السنوات الأولى لتعلّم الكلام والنطق صعوبة في إخراج بعض العبارات ونطقها، أي ما يعرف بالتأتأة والتلعثم خلال الكلام، وهو ما يعاني منه بعض الأطفال وحتى البالغين أو ممن ترافقهم تلك المشاكل طيلة حياتهم"، وفق ما أفادت به مريم محمد إخصائية في تقويم النطق لـ"ألترا تونس".

تضيف محدثتنا أن المشكل يتمثل في اضطراب لا إرادي في طلاقة التعبير والكلام، يتميز بتكرار بعض الحروف خاصة الحرف الأول للكلمة أو تطويلات لأجزاء من الكلمة الواحدة.

مريم محمد (إخصائية في تقويم النطق): التأتأة هي اضطراب لا إرادي في طلاقة التعبير والكلام يتميز بتكرار بعض الحروف خاصة الحرف الأول للكلمة أو تطويلات لأجزاء من الكلمة الواحدة

وتشير أن الخلل يتمحور بالأساس في صعوبة نطق بعض الحروف بالذات مثل حرف "السين" التي تنطق "ثاء" أو "الراء" التي تنطق "ياء" أو غيرها، بينما يشكو آخرون من صعوبة في إخراج بعض الكلمات خلال النطق لا سيما في مستهلّ الحديث أو تكرار الحرف أو الكلمة الواحدة عدّة مرّات، أو انقطاع الصوت خلال الكلام. وتبيّن أنه غالبًا ما يصاحب هذه الحالة احمرار في الوجه أو رمش العينين أو الشدّ على الفكّ بصعوبة.

أما عن أسباب التأتأة، تقول الإخصائية في تقويم النطق إنها قد تكون عضوية بسبب وجود عيوب أو مشاكل في أعضاء النطق، أو قد تكون عصبية ناتجة عن مشاكل في المخ والأعصاب، كما قد يعود إلى أسباب نفسية.

وتضيف أنه قد تبعث تأتأة شخص أو التلعثم إلى سخرية أغلب الأشخاص، مما قد ينجرّ عنه انسحاب اجتماعي وعزلة أو سلوك عدواني تجاه الآخرين "فمن منا لا يذكر شخصًا سواء صديقًا أو قريبًا كان يعاني مشاكل في النطق؟". تواصل الإخصائية حديثها "مشاعرنا عادة ما تكون مختلطة نحو هؤلاء، بين الشفقة أو التغاضي عن وجود مشكلة والتعامل مع الأمر وكأنه غير موجود. لكن يوجد منا أيضًا من سخر من تأتأة أحدهم خلال حديثه سواء بقصد أو عن غير قصد".

أحمد (35 سنة): أغلب الناس يعتقدون أنّ التأتأة في الكلام لا تكون عادة إلا عند الأطفال وأنها مشكل يقع تجاوزه خلال الكبر

أحمد (35 سنة) اعتاد على المسألة، كان سابقًا ينزوي عن الغرباء حتى لا يتعرّض إلى مواقف محرجة ولا يرى أي شفقة في عيون من يتحدّث إليهم، لكنّ يقول لـ"ألترا تونس" إنه اعتاد اليوم على الأمر، وتفهمه العديدون دون إشعاره بالنقص كما لم تعد تزعجه سخرية البعض أو غرابتهم.

يشتكي أحمد من مشكلة التأتأة منذ كان صغيرًا، فخلال حديثه كثيرًا ما يصمت برهة عندما تعلق بعض الكلمات في حلقه لثواني وتخرج الكلمة بصعوبة بعد أن يتأتأ حرفها الأول مرات عديدة.

يضيف أنه خضع للعلاج منذ الرابعة من عمره، ورغم تحسن طريقة نطقه مع مرور الوقت إلا أنّ التأتأة لازمته إلى اليوم، قائلًا إنّ: "الناس عادة ما يتغاضون عن الأمر حين أخاطبهم، لا يشعرونني بأي عجز، مع ذلك لا أزال ألاحظ تلك الدهشة في عيون الغرباء ومن أقابلهم أول مرة، فأغلبهم يعتقدون أنّ التأتأة في الكلام لا تكون عادة إلا عند الأطفال وأنها مشكل يقع تجاوزه خلال الكبر".

التأتأة في الأعمال الكوميدية.. تكريس للسخرية

من منّا لم يضحكه الممثل الكوميدي البريطاني "روان أتكينسون" الذي مثّل دور "مستر بين"، الشخصية التي جعلت صاحبها من أشهر الكوميديين في العالم بسبب قدرته الفريدة لإظهار الفكاهة باستخدام تعبيرات الوجه ولغة الجسد فقط، ليكسر الحواجز اللغوية وهو الذي يعانى من التلعثم وعدم القدرة على نطق الحروف بطريقة صحيحة. لم يستعمل أتكينسون التأتأة التي يعاني منها للإضحاك بل استعمل فقط لغته الحركية وتعبيراته الجسدية.

 يكرّس استعمال التأتأة والتلعثم في الكلام في الأعمال الكوميدية الشعور لدى حاملي هذا الاضطراب أن التأتأة مدعاة للسخرية والاستهزاء خاصة مع تصوير صاحبها في صورة الغبي

اقرأ/ي أيضًا: أَوَخِّي، لَمَكِنْتِي ووْاشِي.. حين تصبح لهجة الأرياف مادة للإضحاك

لكن باتت التأتأة والتلعثم في الكلام تُستعملان من قبل ممثلين كوميديين في "السكاتشات" الساخرة، إذ تقمص عديد الممثلين العرب أو التونسيين في أدوارهم الكوميدية شخصية الرجل الذي يتلعثم في الكلام ويتأتأ على غرار وسيم الحريصي في شخصية "ميقالو"، ويونس الفارحي في شخصية البستاني "ضو" في سلسلة "دار الوزير" حينما ظهر يكرر الحرف الواحد خلال كلامه، عدا عن ممثلين آخرين.

بقصد أو عن غير قصد، يكرّس استعمال التأتأة والتلعثم في الكلام للإضحاك الشعور لدى حاملي هذا الاضطراب الكلامي أن التأتأة هي مدعاة للسخرية والاستهزاء خاصة مع تصوير صاحبها في صورة الغبي. أمر قد لا يخلّف فقط آثار نفسية لدى من يشكون هذه العلّة، بل قد يصعّب العلاج على اعتبار أنه عادة ما تكون الوصفة العلاجية تجمع بين العضوي والنفسي.

عن العلاج من التأتاة

تؤكد مريم محمد إخصائية تقويم النطق لـ"ألترا تونس" أنّ حوالي 80 في المائة من الأطفال ممن يشكون مشاكل في النطق تتم معالجتهم عبر الجلسات المتكررة والمنتظمة شريطة أن ينطلق العلاج منذ السن الرابعة أو الخامسة. ولكنها توضح أنه يقع علاج البعض ولكن تبقى لديهم تلك التأتأة أو التلعثم في الكلام حتى الكبر.

في هذا الجانب، تضيف محدثتنا أن العديد من الأشخاص يحملون اعتقادًا أنّ التأتأة تنحصر فقط في الأطفال ولا تكبر معهم، لكنها في واقع الأمر غير ذلك وفق قولها. وتوضح أن الخلل قد يلازم الشخص مدى حياته، فيما قد يتعرض البالغ أيضًا لأزمة عصبية أو نفسية تعرقل النطق السليم لديه. وتختم مريم محمد حديثها معنا بأن أغلب الحالات خلال العلاج العضوي تتلقى أيضًا علاجًا نفسيًا بهدف تجاوز الشخص لحاجز القلق والخجل في المجتمع.

 

اقرأ/ي أيضًا:

من الكابتن ماجد إلى "الأيباد": كيف أصبح الطفل وحيدًا؟

المتحرّش بالأطفال أو "البيدوفيل".. مضطرب جنسيًا ومنبوذ اجتماعيًا