19-مارس-2023
البقشيش الإكرامية بوربوار

باحثة في علم الاجتماع: انتشار ثقافة الإكرامية من شأنه أن يخلق تمييزًا بين الحرفاء (صورة توضيحية/ GETTY)

 

في المشرق هي "بقشيش" أو "إكرامية"، وتعني ذاك المال المُقدّم عادة نظير التمتّع بخدمة ما.. وفي تونس، درج الحرفاء على نطقها "بوربوار"، نقلًا عن الكلمة باللغة الفرنسية (pourboire) أو "لأجل الشرب"، وفاءً ربما لأصل نشأة هذه الكلمة تاريخيًا.

قد لا يكون اللجوء إلى علم التأثيل (Etymology)‏، الذي يبحث عن المعنى الأصلي للكلمة، ضروريًا، حتّى نفهم حيثيّات ولادة هذه الكلمة.. إذ يمكن بعين الخيال أن نلمح ذاك الفارس في العصور الوسطى وقد دخل حانة رخيصة، فطلب لنفسه ما طلب، وارتأى -لكرم منه ربما- أن يبتسم في وجه الساقي، وأن ينقده عُملة حقيقيّة، أتبعه بالقول: "هذه لك، لأجل أن تشرب أيضًا..".

"البقشيش" أو "الإكرامية"، هي ذاك المال المُقدّم عادة نظير التمتّع بخدمة ما.. في تونس، درج الحرفاء على نطقها "بوربوار"، نقلًا عن الكلمة باللغة الفرنسية (pourboire)

قد يكون هذا ما حدث فعلًا، وقد لا يكون! ما يعنينا بالفعل هو أنّ هذه "الظاهرة" قد توارثتها الأجيال لتتواصل إلى يومنا هذا.. وبات تناول هذه الظاهرة بالدرس، أمرًا يستحق الاهتمام، خاصة وأنّ وكالات أنباء دولية قد تداولت مؤخرًا خبر ذاك الأمريكي الذي وقف وسط مدينة واشنطن وهو يحمل لافتة كُتب عليها عبارة "مهما فعلت تشعر أنك مذنب"، في إشارة لسؤال يؤرّقه: "هل عليّ أن أعطي إكرامية؟".

أردنا الإجابة عن هذا السؤال وغيره من خلال الواقع التونسي، فسألنا: هل التونسي متصالح مع عادة "الإكرامية"؟ هل تتفاوت فعلًا بين المحلّات الراقية والشعبيّة؟ "الترا تونس" يغوص أكثر في الموضوع.

الإكرامية.. للزبون إحساس بالذنب وللنادل إحساس بالغدر

يقول صالح (اسم مستعار بعد أن طلب عدم الكشف عن هويّته)، وهو النادل بمقهى بالمنزه السادس (حيّ راق في تونس)، إنّه يشعر بالغدر كلّما تجاهل حريف ما، ترك إكراميّة له. يفسّر الشاب الثلاثيني إحساسه هذا بقوله: "حين قبلتُ بمبلغ 700 دينار كأجر شهريّ، كان ذلك بسبب أنّ صاحب المقهى أقنعني بأنّي سأحصل على ضعف هذا المبلغ من خلال ما سأجنيه من (البوربوار) فقط، وأنّه لن يتدخّل أبدًا في طريقة تحصيلي لهذه الإكراميات، وأذكر جيدًا قوله لي (أنت وجهدك، ذراعك يا علّاف)" في إشارة إلى حثّه على الاجتهاد لكسب هذه الإكراميات، وفق تعبيره.

يضيف صالح بأنّ إحساس الغدر يعود إليه كلّ مرّة يسعى فيها إلى تقديم أفضل ما لديه لينال رضا الحريف، فلا تكون نتيجة ذلك -مع الأسف- منحه "بقشيشًا"، يقول: "أشعر أنّي خُدعت في هذه اللحظة، وأنّي أخطأتُ حين رضيتُ بأجر زهيد لا يكفيني مصاريف التنقّل ومساعدة عائلتي.. أنا لستُ طمّاعًا، ولا أطمح إلى نيل 3 أضعاف أجرتي من خلال الإكراميات، كما يفعل البعض.. يكفيني فقط أن أحصّل منها الحدّ الأدنى الذي يضمن لي عيشًا محترمًا" وفق وصفه.

نادل بمقهى بالمنزه السادس لـ"الترا تونس": أشعر بالغدر كلّما تجاهل حريف ما، ترك إكراميّة، وأنّي خُدعت حين قبلتُ بأجر شهريّ زهيد مع الوعد بكثرة الإكراميات

ولئن كان هذا الإحساس قد تسرّب لمحدّثنا، فإنّ شعورًا آخر بالذنب قد يتسلّل إلى بعض الأشخاص الذين يمتنعون عن تقديم الإكراميات، لجأنا إلى سؤال عدد من التونسيين الذين كانت لهم تجارب بلا شكّ مع بعض النُدُل (جمع نادل)، بعدد من المقاهي.. كي نرصد عن كثب هذه الظاهرة.

يجيبنا أستاذ التفكير الإسلامي محمد علي الرحالي، بقوله في هذا الموضوع: "طبعًا لا تعدّ الإكرامية حقًا مكتسبًا، لأنّ النادل يتمتّع بأجر شهريّ -حتّى لو كان ضعيفًا، فإنّه قد وافق عليه من البداية- صحيح أنّ أغلبهم يقبلون بأجرة ضعيفة على أمل ترقيعها بـ'البقشيش'، ولكن المشكل في نظري، حين تتحوّل الإكرامية إلى حق مكتسب، شخصيًا، أحبّذ ترك الإكرامية لأنّي أعرف أنّ أغلبهم مسؤولون عن عائلات وأنّ أجورهم بالكاد تكفيهم، ولكني أنزعج جدًا ممّن يطالب بها بصفاقة، أو أن يأخذها من تلقاء نفسه بلا استئذان"، وفق شهادته. 

أستاذ تفكير إسلامي لـ"الترا تونس": المشكل حين تتحوّل الإكرامية إلى حق مكتسب، أنزعج جدًا ممّن يطالب بها بصفاقة، أو أن يأخذها من تلقاء نفسه بلا استئذان

واعتبر الرحالي أنّ هناك من النُدُل، ممّن يعيد إلى الزبون باقي الفاتوة وقد أخذ لنفسه بعضًا من هذا المبلغ، "وهذا مستفز إلى أقصى درجة حقيقة، لأنّه لم يكتفِ بإرغامك على الدفع، بل حدّد أيضًا مقدار هذه الإكرامية بنفسه، وهناك من يطالب بها بشكل واضح ومباشر، كأن ينتظر بعد الدفع ساكتًا، أو يردّد عبارات من قبيل (افرح بينا).. باختصار، ما أجمل الإكرامية حين تتركها عن طيب خاطر، وما أقبحها حين تتحوّل إلى حق مكتسب وعبء إضافي، ومصدرًا للإحساس بالذنب أو الخجل، بسبب عدم الدفع"، على حد وصفه.

"البوربوار" كما درج على تسميته في تونس، هو ليس حقًا آليًا، وفق تصريح الشاب فخر الدين الغلابي، لـ"الترا تونس"، يقول: "الإكرامية تكون مقابل خدمة إضافية يقدمها النادل، وليس لمجرد قيامه بعمله العادي، فإذا بذل مجهودًا إضافيًا واستقبل الحريف ببشاشة أكثر من المطالب بها، واستجاب بسرعة ولباقة لطلباته، فإنه استحقّ من الحريف أن يردّ هذا الكرم الزائد بحركة معنوية عرفانًا بالجميل".

فخر الدين الغلابي لـ"الترا تونس": لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن يطالب النادل بالإكرامية باعتبارها مكمّلًا لأجرته، خاصة وأنها تكون مقابل خدمة إضافية يقدمها النادل

وتابع الغلابي بقوله: "ورغم ذلك، لا يحق للنادل أن يطالب بها حتى لو بذل مجهودًا إضافيًا، دون أن يمتّعه الحريف بإكرامية، لأن الأصل في عمله، الاستقبال اللائق والحفاوة اللازمة بالزبائن، ولا يمكن بأي شكل من الأشكال المطالبة بها باعتبارها مكمّلًا لأجرته، لأنّ الحريف ليس مطالبًا بدفع أجرة لهذا النادل، مع أنّ كثيرًا من النُدُل يستطيعون بذكائهم أن يكسبوا من الإكراميات أكثر من أجرتهم الشهرية، وكثيرون في المقابل، يحرمون أنفسهم منها، بطريقة تصرفهم التي تكون وقحة أحيانًا.. هي في الأول والآخر ذكاء وهدية، أكثر من كونها حقًا".

طبقيّة الإكراميّة.. بين المقاهي الراقية والشعبيّة!

يقول سامي (46 سنة) لـ"الترا تونس"، وهو نادل بمقهي شعبيّ بحيّ الزهور بالعاصمة، إنّ الإكرامية عُملة نادرة في المقهى الذي يشتغل به، وإنّ طالبي "الشيشة" عمومًا هم أكثر من يجود عليه ببعض "البقشيش"، لما يرافق عملية تجهيزها من تعب، وحرص على تغيير "الولعة" (الجمرات) من حين لآخر، قبل حتّى أن يطلب الحريف ذلك، وفق شهادته.

يضيف سامي أنّه لا يتمتّع براتب شهريّ، بل يحصل على أجرة يوميّة تبلغ 17 دينارًا في اليوم، وهو مبلغ وصفه بـ"المضحك" مع ارتفاع الأسعار وكثرة حاجيات أطفاله الثلاثة في المدرسة.. يصرّح لـ"التر تونس" بأنّ السعي إلى الترفيع في أجره مسألة حياتية بالنسبة إليه، فإذا لم يفلح في ذلك، من سيعول أبناءه؟ "لازم ننطّر الفرنك بأي طريقة" على حد تعبيره، وهو في ذلك لا يخفي بأنّه يعمد أحيانًا إلى ترك بعض الباقي لنفسه عنوة، خاصة مع حرفاء المقهى الأوفياء.

سامي (نادل بمقهى شعبي) لـ"الترا تونس": أعمد أحيانًا إلى ترك بعض الباقي لنفسه عُنوة، خاصة مع حرفاء المقهى الأوفياء، أنا لا أتسوّل، ولا أسطو على مال الناس، أنا أحسّن دخلي بعزّة نفس

ويتابع محدّثنا: "لا ألجأ أبدًا إلى تلك الطريقة مع الزبائن الجدد، وإنّما أقوم بذلك (بدلال وبمحبّة) مع من حفظوني وحفظتهم من المرتادين، في نهاية الأمر أنا لا آخذ منهم مئات الدنانير، إن هي إلّا ملاليم معدودة أحتفظ بها لنفسي في كلّ مرّة، ويكون الحريف على علم بذلك بطبيعة الحال، حيث إنّني أرجع له باقي نقوده كاملة ثمّ آخذ منها مثلًا 200 مليمًا أو 500 مليمًا كحدّ أقصى وأهتف به (وهاذم مبروكين على عمّك سامي)" وفق تعبيره، وقال: "أنا لا أتسوّل، ولا أسطو على مال الناس، أنا أحسّن دخلي بعزّة نفس".

يواصل "الترا تونس" في استقاء الشهادات والتجارب في هذا السياق، فينقل قول محمد بن عيسى إنّه "إذا كانت الخدمة جيّدة والنادل بشوش وحسَن الاستقبال، وربما يتفقد الحريف أثناء الوقت ليسأله هل هو راض؟ هل ينقصه شيء؟ هل يطلب خدمة أخرى.. في هذه الحالة أجود له بقدر هذا التفاعل واللطافة من دينار إلى ثلاثة" وفقه.

محمد بن عيسى لـ"الترا تونس": إن كان النادل عبوسًا وغير لبق، أو خدمته رديئة كأن يحضر الطعام باردًا أو يتأخر كثيرًا، فلا أرى أن أعطيه شيئًا، أما إن طلب 'الإكرامية' بنفسه فلا أعطيه قطعًا

ويتابع محمد بن عيسى بقوله: "أما إن كان النادل عبوسًا وغير لبق، أو خدمته رديئة كأن يحضر الطعام باردًا أو يتأخر كثيرًا، فلا أرى أن أعطيه شيئًا، أما إن طلب 'الإكرامية' فلا أعطيه قطعًا وأرفض التعامل معه لاحقًا، سواء في مقهى أو مطعم أو تاكسي.."، ويضيف: "هذا في تونس، أما في دول أخرى كالسعودية مثلًا، فالإكرامية أصبحت من العرف الجاري، ولولاها فإنك حتمًا ستتعرض للتضليل أو رداءة الخدمة أو التذمّر والشكوى".

واستعرض بن عيسى تجربته مع مسألة "الإكرامية" في بلدان أخرى، فقال: "في تركيا مثلًا، أفرض على التاكسي احتساب العداد من البداية، فإن طلب أجرة معيّنة زيادة على العداد فلا أتعامل معه، في إيطاليا كذلك 'البقشيش' في بعض المطاعم الفاخرة كأنه ضروري، ويقدم النادل الفاتورة مكتوب فيها بكل وضوح (tips are not included)، وبعد الدفع يبقى واقفًا ينتظر هذه الإكرامية" وفق تعبيره.

الإكرامية.. وجاهة اجتماعية؟

يعتبر المهندس أمين الطرابلسي، أنّ الإكرامية هي عادة ثقافية، فهناك بلدان مثل اليابان تعتبرها إهانة ولا تقبل هذه المبلغ الإضافي من المال، بينما في أمريكا مثلًا، تعدّ ضرورية وتتراوح قيمتها ما بين 10 و20% من الفاتورة، وتعتبر جزءًا هامًا من أجرة النادل، وقال: "في تونس، يُعطى 'البقشيش' عادة كإكرامية للنادل وفي أغلب الأحيان في المقاهي والمطاعم الفاخرة كنوع من الوجاهة الاجتماعية"، وفقه.

أمّا الخبير في الإعلامية وائل بن عثمان، فنقل تجربته مع هذه الظاهرة في بعض المقاهي والمطاعم، فقال: "شخصيًا، أترك الإكرامية كي أضمن حدًا أدنى من جودة الخدمة، لكن في الحقيقة، أرى أنّ هذه العادة في تونس، هي سبب كي يستمر العاملون بهذه المهن في وضعية تشغيل هشة.. الإكرامية تشجع أصحاب الأعمال على عدم تقديم أجر لائق للعمّال، وعدم تمتيعهم بالتغطية الاجتماعية، من ناحية أخرى نفسية، أرى في هذه العادة، طريقة للإذلال النفسي، هناك حرفاء يتمتعون بصفاقة غريبة، ويتخيلون أنّهم اشتروا هذا العامل بتركهم للإكرامية، فيمعنون في الاستعلاء، وطبعًا هذا يمثّل ضغطًا نفسيًا على العامل.." وفق معاينته.

مهندس لـ"الترا تونس": في تونس، يُعطى 'البقشيش' عادة كإكرامية للنادل، وفي أغلب الأحيان في المقاهي والمطاعم الفاخرة كنوع من الوجاهة الاجتماعية

وأوضح نادر العذاري، وهو مدير استراتيجيات وبرامج بشركة تكنولوجيات، لـ"الترا تونس"، أنّه يعطي إكرامية حين يقدّم النادل مجهودًا أكثر مما هو مُطالب به في نطاق عمله، وقال: "أحاول أن أقدّر قيمة هذه الإكرامية بحساب ذلك المجهود، وأنزعج كثيرًا حين يشعرني النادل أني مطالب بالدفع، وممكن وقتها ألّا أعطيه شيئًا، أو أعطيه شيئًا قليلًا، ولكن في المجمل، في تونس، النادل لا يطالب بشيء، ويقبل بما يجود به الزبون.. أعتقد أنّ الإكرامية في تونس أمر جيّد. من ناحية، هي لا تمثّل عناءً وإزعاجًا، ومن ناحية أخرى، هي تضمن عائدًا إضافيًا لنوع من الناس تتمتّع بأجر زهيد عادة".

 

 

نقل "الترا تونس" هذه العادة، إلى طاولة علم الاجتماع، لتشريحها، وبيان أوجهها المختلفة، فتوجّه بالسؤال للباحثة في علم الاجتماع نسرين بن بلقاسم، التي أكّدت أنّ ثقافة "الإكرامية" أو "البقشيش" أو ما بات يُعرف في تونس بـ"البوربوار"، هي ظاهرة موجودة بالفعل داخل المجتمع التونسي لكنها ليست من الظواهر الملموسة التي يمكن ملاحظتها بشكل واضح مقارنة بظواهر أخرى متفشية كالفقر والتسوّل والهجرة غير النظامية.. وغيرها من الظواهر التي تفرض نفسها في المجتمع.. فمسألة "الإكرامية" لا تأخذ صدى كبيرًا لدى التونسي، مع أنّه لا يمكن إنكار وجودها، وفقها.

وتختلف هذه الثقافة من مكان إلى آخر، ففي تقديرها، "المكان هو الذي يفرض على الشخص ترك إكرامية أم لا"، لافتة إلى أنّ الحريف مثلًا يشعر بأنه مُجبر على تركها في المحلات الراقية خاصة، لأنّ الأمر مرتبط بـ'البرستيج' (prestige)، أو الوجاهة الاجتماعية.

نسرين بن بلقاسم (باحثة في علم الاجتماع) لـ"الترا تونس": في مجتمع يربط قيمة الشخص بالمادة، أصبحت الإكرامية شكلًا من أشكال إبراز القيمة والمكانة، وكأنه لا قيمة لمن لا يترك إكرامية

وتابعت بن بلقاسم بقولها: "أحيانًا لا يرغب الحريف في ترك هذا 'البقشيش'، أو ربما تكون ظروفه لا تسمح له بذلك، لكن في مجتمع يربط قيمة الشخص بالمادة، أصبحت الإكرامية شكلًا من أشكال إبراز القيمة والمكانة، وكأنه لا قيمة لمن لا يترك إكرامية، وبالتالي يضطر البعض إلى منحها كي يُبرز مكانته وقيمته في المجتمع".

"هناك مقاهٍ في تونس تُجبرك بطريقة غير مباشرة على دفع الإكرامية.." تؤكد الباحثة في علم الاجتماع ذلك، في إشارة لأشكال عديدة باتت تستعملها المقاهي والمطاعم كي يدفع الحريف إكرامية، على غرار تقديم الفاتورة في علبة بلورية لحثّه على ترك بعض المال، وفقها، مضيفة أنّ الطريقة التي أصبحت تُستعمل للدفع، تفرض الإكرامية بطريقة غير مباشر.

وعن الأسباب الأخرى التي قد تدفع بالشخص إلى الإتيان بمثل هذا الفعل، قالت الباحثة إنّ المرء قد يترك إكرامية من باب الخجل، أو من باب الخشية من نعته لدى مغادرته المكان، والحديث من وراء ظهره عن أنّه "بخيل"، فضلًا عن الخشية من سوء المعاملة في المرّات القادمة التي يدخل فيها هذا المكان.

باحثة في علم الاجتماع لـ"الترا تونس": المرء قد يترك إكرامية من باب الخجل، أو من باب الخشية من نعته بالـ"بخيل"، فضلًا عن الخشية من سوء المعاملة في المرات القادمة

وشدّدت نسرين بن بلقاسم في هذا الإطار، على ضرورة أن تكون ثقافة "البوربوار" نوعًا من التشجيع والشكر لمُقدّم الخدمة نظير خدمته، بطريقة لا تكون مهينة، لحساسية مسألة "إعطاء النقود لشخص آخر"، فقد يمثّل ذلك إهانة للبعض، إذا تم منحه مالًا أمام الملأ، فربما يعتبر أنّه قد أصبح محلّ صدقة، ولهذا فإنّ لإعطاء الإكرامية بطريقة مجمّلة ودبلوماسية، قيمة بالغة، ويجب أن تكون علامة للشكر، وتحافظ على قيمة العامل.

وأبرزت المختصة في علم الاجتماع في حديثها لـ"الترا تونس"، أنّ من سلبيات الإكرامية، أنها يمكن أن تؤثر على طريقة تقديم هذا النادل لخدمته، كأن يربط العامل حسن الخدمة بمنح 'البقشيش' من عدمه من طرف الحريف، ولهذا يجب ألا تكون المسألة إجبارية، بل تلقائية من المانح، وعن طيب خاطر، موضّحة أن دخل هؤلاء العملة يكون في الغالب ضعيفًا، ولهذا هم يعوّلون كثيرًا على الإكراميات، وهي في المقابل وسيلة مريحة لأصحاب المقاهي والمطاعم، إذ إنها تجنّبهم مشاكل المطالبة بالترفيع في الأجور، ولهذا نجد كثيرًا من هؤلاء الأعراف لا يرون مانعًا في تلقّي العمّال الإكراميات، وفق تعبيرها.

باحثة في علم الاجتماع لـ"الترا تونس": من سلبيات الإكرامية، أنها يمكن أن تؤثر على طريقة تقديم النادل لخدمته، كأن يربط حسن الخدمة بحصوله على الإكرامية من عدمه

وقالت نسرين بن بلقاسم: "الإكرامية هي نوع من الربح المريح، وتتفاوت قيمتها بين الأماكن الشعبية والراقية، فهي غير منتشر بكثرة في المقاهي الشعبية مثلًا لأنها تضم فئة واسعة ممّن تشملهم نسب البطالة والفقر، فبعضهم حتّى يبحثون عمّن يدفع لهم ثمن طلباتهم، فلا سبيل للحديث عن ترك الإكراميات هنا، على عكس المقاهي والمطاعم الفاخرة التي دأبت فئة لا بأس بها من مرتاديها على القيام بهذا الأمر، ما يجعل العامل بمقهى شعبيّ، يسعى دائمًا للبحث عن فرصة للعمل في مقهى فاخر".

وخلُصت الباحثة في الأخير إلى تشديدها على ضرورة ألّا تنتشر هذه الثقافة بشكل واسع كي لا يتم الاقتصار على القيام بعمل جيّد وتقديم خدمة لائقة على مانحي الإكراميات لا غير، ما من شأنه أن يخلق تمييزًا بين الحرفاء في المطاعم والمقاهي، مؤكدة على ضرورة أن تكون عملية إرادية كنوع من الهدية والتكريم والشكر، دون ربطها بنوعية الخدمة المقدمة.