02-أكتوبر-2022
الرشوة

أستاذ علم الاجتماع لـ"الترا تونس": أرجّح أن تصبح الرشوة ظاهرة اجتماعية كلية وشاملة (صورة توضيحية/ getty)

 

يقول العلامة ابن خلدون "عندما تنتشر الرشوة والفساد في بلد ما فهذا لا يدل على فساد ضمائر الناس وإنما يدل على سوء توزيع الثروة"، وهي مقولة لخصت العلاقة السببية بين الرشوة والفساد وعدم تحقيق العدالة الاجتماعية بين كافة أفراد الشعب وانتهاج سياسة التفقير والتجويع التي تضاعف فرضية رضوخ المواطن لظاهرتي الفساد والمحاباة. 

وبما أن حسن توزيع الثورة والعدالة الاجتماعية شعارات يرفعها السياسيون خلال فترة الانتخابات ويتناسونها فور تقلدهم لمناصب في الدولة تخول لهم القيام بعمليات إصلاحية ووضع خطط استراتيجية للقطع مع الفساد وتحقيق التوزيع العادل للثروة، فإن المواطن يجد نفسه مرغمًا على الانخراط في شبكة الفساد والمحاباة، الأخطبوط الذي يجثم على العديد من بلدان العالم من بينها تونس.

الجمعية التونسية للمراقبين العموميين: 1.5 مليون تونسي قدموا رشوة سنة 2020 بقيمة جملية قدرت بـ 570 مليون دينار

وتشير إحصائيات أعدتها الجمعية التونسية للمراقبين العموميين، أن 1.5 مليون تونسي قدموا رشوة سنة 2020 بقيمة جملية قدرت بـ 570 مليون دينار، وقد تصدر القطاع الأمني المرتبة الأولى للرشوة والفساد بـ 50% يلي قطاع الصحة بـ20%، فيما كشف المسح الوطني حول "نظرة السكان في تونس إلى الأمن والحريات والحوكمة المحلية" الذي أعده معهد الإحصاء، أن 243 ألف تونسي قدموا رشوة سنة 2021. 

كما أكدت دراسة أعدتها الجمعية التونسية للوقاية من حوادث الطرقات أن 52% من مستعملي الطريق لا يرفضون إعطاء رشوة فيما يبادر 41.7% من الأمنيين بطلب رشوة لتسوية المخالفات المرورية. وتؤكد هذه الإحصائيات أن آفة الرشوة زاد انتشارها خلال السنوات الأخيرة في غياب حلول ناجعة لمكافحتها وهو ما دفع ببعض المواطنين إلى التقاط مقاطع فيديو تثبت تورط أعوان عموميين في قضايا رشوة ونشرها عبر مواقع التواصل الاجتماعي. ولئن اعتبر البعض أنها وسيلة لردع المخالفين، فإن البعض الآخر اعتبرها عملية تشهير لا ترتقي إلى محاولات مكافحة الفساد.

وقد سرى الفيديو الذي يوثق تلقي أمني لرشوة من سيدة، كالنار في الهشيم، وأثار ردود أفعال متباينة كما سلط الضوء مجددًا على ملف الرشوة المستشرية في تونس.  

 

 

  • "سلطة تقديرية + غياب رقابة = وجود حالات رشوة"

يؤكد الخبير في الحوكمة ومكافحة الفساد شرف الدين اليعقوبي أن الدراسة التي نشرتها الجمعية التونسية للمراقبين العموميين، تبين أن 40% من حالات الرشوة يبادر بها المواطن فيما يتسبب الموظف في بقية الحالات، مشيرًا إلى أنه كلما كان للموظف سلطة في تقدير مخالفة أو ضرر أو القيام بخدمات، يفتح ذلك بابًا للرشوة، ولذلك يستأثر القطاع الأمني بأكبر نسبة في الرشاوى لأن العون له سلطة تقديرية كبيرة ولا وجود لرقابة عليه، معتبرًا أن السلطة تقديرية في ظل غياب رقابة تساوي وجود حالات رشوة في أغلب الحالات.

ويرى محدث "الترا تونس" أن انخراط 20% من التونسيين في إعطاء رشوة هو رقم كبير جدًا خاصة إذا ما تم احتساب المبالغ المقدمة والتي تتجاوز الـ 500 مليون دينار، وأن الإشكال يكمن في استقرار نسب دفع التونسيين للرشوة "الخمس تقريبًا" منذ 10 سنوات. متسائلًا عن دور الدولة للحد من الفساد وعن نتائج برامج التعاون الدولي والهياكل، وهل أن الدولة مستعدة لمراجعة سياساتها لمكافحة الفساد.

شرف الدين اليعقوبي (خبير في الحوكمة ومكافحة الفساد) لـ"الترا تونس": كلما كان للموظف سلطة في تقدير مخالفة أو ضرر أو القيام بخدمات، يفتح ذلك بابًا للرشوة

وبيّن اليعقوبي أن ترسانة القوانين المتعلقة بمكافحة الفساد جيدة في المجمل، لكنها تحتاج للتطوير وأن المؤسسات على غرار التفقديات الوزارية وهياكل الرقابة العامة ومحكمة المحاسبات والقضاء رغم تعددها، هي تقريبًا عاجزة عن التقدم بسبب العديد من الإشكاليات التي طرأت على ما يعرف بهندسة مكافحة الفساد علاوة على غلق هيئة مكافحة الفساد، الشيء الذي زاد الوضع تأزمًا لأنها كانت تقوم بدور مهم على مستوى التوعية والتبليغ ووضع ملف الفساد على الطاولة. كما أشار إلى أن منظومة الرقابة والتفقد ومكافحة الفساد لا تقوم بدورها ولا وجود لتوجه لإصلاحها أو تدعيمها أو تغيير طرق عملها، وفقه.

ويرى الخبير أن الإفلات من العقاب "يغذي ظاهرة الرشوة والفساد الصغير لأن مرتكبه يتمتع بحصانة وتغطية من قبل زملائه الذين يتضامنون معه عوض إدانة ما اقترفه"، معتبرًا أن "القطاعية" هي التي تضر بعملية مكافحة الفساد. كما أشار إلى ضرورة الكشف عن مآل قضايا الرشوة والفساد لخلق نوع من الردع لأن الخوف انعدم في صفوف مرتكبي هذه المخالفات بما أن الرقابة مفقودة وهناك سياسة إفلات من العقاب، على حد تعبيره.

شرف الدين اليعقوبي لـ"الترا تونس": من الضروري الكشف عن مآل قضايا الرشوة والفساد لخلق نوع من الردع، لأن الخوف انعدم في صفوف مرتكبي هذه المخالفات لغياب الرقابة

ويقول شرف الدين اليعقوبي: "عندما نتحدث عن نسبة 20% رشوة فإن الفساد لم يعد حالات منفردة، بل أصبح مشكلًا مجتمعيًا يتعلق بالحوكمة الإدارية مما يستوجب تغيير طريقة حوكمة الإدارة والتثبت حسب القطاع من أي باب يدخل الفساد. فهو يتمّ مثلًا في البلديات عن طريق رخص البناء والخدمات، وفي الأمن عن طريق المخالفات المرورية، فنقوم بإغلاق منافذ الفساد وإيجاد حل لكل وظيفة فيها إمكانية طلب رشوة عبر تعزيز عمليات التفقد أو تركيز كاميرات مراقبة". 

كما شدد على أن الحل الأمثل لمكافحة الفساد هو تخفيف الإجراءات الإدارية، أي تقليص الوثائق ورقمنة الإدارة وهو الحل السحري الذي له تأثير مباشر على القضاء على الفساد حسب تقديره.

وبالإضافة إلى الجانب المؤسساتي والقانوني، تحدّث اليعقوبي عن الجانب المجتمعي والثقافي في مكافحة الفساد والذي يبدأ من العائلة التي لها دور هام في تنشئة الأطفال على قيم النزاهة، وكذلك المؤسسة التربوية التي يفترض أن تقدم دروسًا في كل ما له علاقة بالنزاهة ومكافحة الفساد لتدخل في ثقافتنا، ثم الطبقة السياسية. إذ "لا يمكن الحديث عن مكافحة الفساد ونصف الطبقة السياسية فاسدة وتنتخب عبر شراء الذمم" وفق تعبيره.

خبير في الحوكمة ومكافحة الفساد لـ"الترا تونس": الحل الأمثل لمكافحة الفساد هو تخفيف الإجراءات الإدارية، أي تقليص الوثائق والحل السحري هو في رقمنة الإدارة

ويعتبر المتحدث أن ظاهرة الفساد كبيرة ومستشرية، لكن القدرة على مكافحتها ممكنة بقليل من الإرادة والإمكانيات، وعبر هندسة جديدة لمكافحة الفساد تفهم الظاهرة وتضع موارد لمقاومتها وتقوية الرقابة وأطر الرقمنة.

وتعليقًا على الفيديوهات الأخيرة التي سُربت وأثبتت تلقي أعوان أمن لرشاوى، يقول شرف الدين اليعقوبي: "هذه الفيديوهات قليلة لكن تأثيرها كبير وتخلق ضجة على الرغم من الحملة الكبيرة التي شُنت ضد مسرب الفيديو، وهناك حديث عن البحث في نواياه، فالتونسي يلجأ لمقاطع الفيديو بسبب غياب آليات التبليغ وضمانات الحماية عند التبليغ.. فمن المفروض أنّ الدولة هي التي تقوم بفيديوهات وتراقب أعوانها كي لا يضع المواطن نفسه في خطر ويتهم بأنه راش".

 

 

  • الرشوة سلوك اجتماعي؟

تعتبر الرشوة جريمة ثنائية يتورط فيها كل من الراشي والمرتشي، وأحيانًا تحتوي طرفًا ثالثًا يغض النظر عن حدوث الجريمة. ولئن أعدت تونس ترسانة مشاريع يفترض أن تكون كفيلة بالحد من هذه الآفة، فإن تحولها إلى ظاهرة اجتماعية يطبّع معها الجميع، وسلوكًا اجتماعيًا يمارس بشكل يومي، زاد في خطورتها وعمق المخاوف من توارثها جيلًا بعد جيل. 

يرى أستاذ علم الاجتماع عبد الستار السحباني أن الرشوة تتخذ العديد من الأشكال من بينها "التدخلات"، فلا يكاد يقبل مطلب عمل أو تقدم خدمة إدارية إلا بتدخل، معتبرًا أن المنظومة الاقتصادية يهيمن عليها الاقتصاد الرعوي ومرتبطة أساسًا بالإدارة، فلا يمكن الحصول على رخصة بيع أو بناء أو غيره إلا بالمرور عبر الإدارة.

ويعتبر محدث "الترا تونس" أن الهياكل الرقابية بدورها تورطت في هذه الممارسات وأصبحت تعمل بها. معزيًا استفحال ظاهرة الرشوة إلى غلاء الأسعار وتعدد متطلبات التونسي الذي يطمح إلى تحسين ظروفه الحياتية بأي شكل من الأشكال.

عبد الستار السحباني (أستاذ علم الاجتماع) لـ"الترا تونس": يعود استفحال ظاهرة الرشوة إلى غلاء الأسعار وتعدد متطلبات التونسي الذي يطمح إلى تحسين ظروفه بأي شكل من الأشكال

وأشار السحباني إلى أن الرشوة لم تعد تمارس في الخفاء، بل أصبحت ممارسة عادية بل ضرورية لقضاء الحوائج. كما انخرط الجميع في هذا النهج وأضحت تعتبر جوازًا لحلحلة المشاكل. ملاحظًا أن الإشكال ليس فقط في الرشاوى الإدارية والمرورية بل في الصفقات العمومية والمشاريع الكبرى وغيرها. مرجحًا أن تصبح الرشوة ظاهرة اجتماعية كلية شاملة، ينخرط فيها الجميع وتعتبر هي القانون والتمشي السائد.

وتعليقًا على مبادرة التونسي بعملية الرشوة في العديد من الحالات قال أستاذ علم الاجتماع إن المواطن التونسي أجبر على الرشوة أمام التأخير الإداري، وحتى إن أقدم على ذلك فيُفترض على المتلقي عدم قبولها والتبليغ. مشددًا على خطورة هذه الظاهرة التي دخلت في آلية التنشئة الاجتماعية واعتبارها حلًا لمشاكلنا، وفقه.

عبد الستار السحباني (أستاذ علم الاجتماع) لـ"الترا تونس":  الإشكال ليس فقط في الرشاوى الإدارية والمرورية، بل في الصفقات العمومية والمشاريع الكبرى

وقال المتحدث: "التونسي متعدد ومتنوع، يعطي رشوة ويتلقى فأصبحت سلوكًا حياتيًا.. لكن المواطن لا دخل له في مكافحة الرشوة، فحتى الذي يمتنع عن تقديمها يتعطل عن قضاء حوائجه وتعترضه مشاكل إدارية.. القضية قضية دولة بهياكلها الرقابية. ومن بين أهم العوامل التي تحد من الرشوة هي الرقمنة والمراقبة، لأن الظاهرة بصدد نخر المجتمع، وانعكاساتها كبيرة على الدولة، وعلى الاقتصاد الذي يصبح محرّكه الرشوة، وعلى المجتمع. فيصبح الارتقاء الاجتماعي والنجاح رهين الرشوة، وندخل بذلك في قيم الرشوة وثقافة الرشوة وغيرها".

جدير بالذكر أن تونس حلت ضمن تصنيف" Trace Bribery Risk Matrix" المتعلق بارتفاع مخاطر الرشوة في المرتبة الـ99 عالميًا من أصل 200 دولة شملها التقرير، بتنقيط إجمالي بلغ 52 وذلك سنة 2019.