مقال رأي
إن هرولة البشرية نحو السلم بعد أن حطّت الحرب العالمية الثانية أوزارها نهاية النصف الأول من القرن العشرين والقبول بكل تلك النتائج المجحفة والشقيّة التي ظلمت شعوب العالم وشوهت ما شوهت داخلهم وإلى الأبد، وأيضًا الذهاب سريعًا مع بدايات خمسينيات القرن الماضي لتدبّر نهايات حزينة ومشرقة تليق بالشعوب التي أنهكها الاستعمار العبثي والذي دمّر ما دمّر لقرون وعقود مخلّفًا كمدًا في الروح ظلت الأجيال تتوارثه وترويه إلى اليوم.
كما أن التفكك التراجيدي للاتحاد السوفياتي وإعلان نهاية "الحلم اللينيني" أو "نهاية قلعة الاشتراكية العادلة" وإعلان نهاية الحرب الباردة وما تلا ذلك من ثورات برتقالية في أوروبا الشرقية.. كل تلك المحصّلات وغيرها وحسب ما كتبه المؤرخون أدت الى إيهام البشرية بالسلم لأن الحقيقة التاريخية من زاوية المنتصر "هي جزء وليست كلاًّ" وخاصة التاريخ كما ترويه الشعوب التي عاشت ويلات الحرب أو الملاحم التي حدثت في الواقع وهزت الأفئدة وخرجت عن دوائر الزمان والمكان ومنطق الهزيمة والاستسلام وتحولت إلى منطقة الخلود حيث السماء تتدلى منها أيقونات لامعة بدل النجوم.
إن الإنسانية الآن مطالبة عبر قادة الرأي والتفكير وعبر فلاسفتها ومخابر جامعاتها أن لتضع أسس جديدة للعيش المشترك الذي يقوم على ترويض المتحاربين ونشر ثقافة السلام لدى الأجيال
إن ما يحصل الآن من اجتياح روسي للأراضي الأوكرانية، ما يحصل بين أبناء الشعب الواحد اللذين يتكلمون نفس اللغة ويطبخون نفس الطعام بنفس البهارات ويرقصون على نفس إيقاعات الأنغام الثلجية وينظرون بنفس الشاعرية إلى الغروب القطبي الفاتن، يمكن تنزيله في خانة ما لم يقل فيما يتعلق بنتائج تفكيك الخارطة القديمة لجغرافيا الاتحاد السوفياتي والإسراع نحو شاعرية السلم برسم خرائط ملغومة دون تشوّف للمستقبل.
اقرأ/ي أيضًا: برلماني تونسي: لا يمكن اعتبار ما تفعله روسيا مع أوكرانيا إلا اعتداء صارخًا
لقد خبأ المنتصرون تمائم الحروب القادمة على رسم الحدود ضمن منطلق اللامبالاة بمشاعر الناس والتوزع الثقافي والحضاري، متناسين وربما متغافلين عن "الجدلية الفلسفية للحرب" والتي أكدها جون جاك روسو عندما تحدث عن السعادة غير الدائمة للمنتصرين لأنها في جوهرها مرتبطة عادة بشقاء الآخر أو المنهزم.. ودومًا ضمن منطق روسو "فإن كسر خطيّة السلم والذهاب مجددًا للحرب يتأتى من مشاعر الشقاء والتعاسة التي يشعر بها المنهزم رغم رفاهية السلام أحيانًا..".
إن روسو يدحض ما ذهب إليه هوبز من "أن الحرب هي طبيعة الإنسان" ويؤكد "بأنها طبيعة الطبيعة ومنطقها الأبدي"، فيقول إن الإنسان كمفهوم هو بريء من كلّ حرب بل إن الحروب التي عاشتها البشرية وستعيشها مستقبلاً كان الإنسان مدفوعاً لها دفعًا من قبل المجتمع الذي يعيش فيه.
ما شهدناه من أسى على وجوه الأوكرانيين الفارّين من رعب دوي آلات الحرب تحت سماء بيوتهم وحتى على وجوه الروسيين المتظاهرين في موسكو يحيلنا إلى تلك الندوب والشروخ الدامية واللامرئية التي تحدثها الحرب في المشاعر وفي دواخل الروح
ما شهدناه منذ يومين، عبر كل وسائل التواصل المتاحة من تلفزات ومواقع ومنصات، من أسى على وجوه الأوكرانيين الفارّين من رعب دوي آلات الحرب تحت سماء بيوتهم ومغادرتهم بيوتهم الدافئة والمبيت في أنفاق الميترو أو في العراء تحت درجات حرارة لم تتجاوز الصفر درجة.. وحتى على وجوه الروسيين المتظاهرين في موسكو، يحيلنا إلى مسألة إنسانية عميقة غفلت عنه الحروب ولم يشر إليها كتبة التاريخ وهي تلك الندوب والشروخ الدامية واللامرئية التي تحدثها الحرب في المشاعر وفي دواخل الروح.. وحاولت السينما وبعض الفنون الأخرى كالمسرح والرسم التقاطها ببأس شديد والاشتغال عليها وتحويلها الى أعمال خالدة.
اقرأ/ي أيضًا: اجتياح أوكرانيا يرفع أسعار القمح والنفط ومواد أخرى.. أي تداعيات على تونس؟
إن تلك الانكسارات واللوعة التي شاهدناها على وجوه الأمهات والأطفال وذاك الرعب الذي لمع من عيون الشباب وتلك الطوابير التي تبحث عن منافذ للهروب والنأي بالنفس والتي حصلت للإنسان على أرض أقصى شمال أوروبا سافرت عبر الأثير من الحدود الروسية الأوكرانية لتحط داخل كل قلب إنساني وانغرست فيه كشوكة صبار مؤلمة وأشاعت مشاعر الخوف والفناء في كل مكان وهي مشاعر نقيضة للحياة والسلام والتحابب جعلت الإنسانية في ذهول وأعادت إليها كوابيس الحروب القديمة التي لم تشف منها بعد وأعادت النقاش والتفكير بخصوص قرار الحرب.
تلك الانكسارات واللوعة التي شاهدناها على وجوه الأمهات والأطفال وذاك الرعب الذي لمع من عيون الشباب جعلت الإنسانية في ذهول وأعادت إليها كوابيس الحروب القديمة التي لم تشف منها بعد وأعادت النقاش والتفكير بخصوص قرار الحرب
من يتخذه؟ وأي الذرائع تحملنا الى ساحات الوغى؟ وهي أسئلة تطرق إليها الفيلسوف براتراند رسّل وخلص إلى أن كل حرب هي تهديد للجنس البشري، مشيرًا إلى أن الفناء ليس بيد الإنسان.. وبالتالي إن الأخلاق كقاعدة مثلى للعيش المشترك هي من بدائل السلام ومنها ننطلق نحو "عقلانية القوانين " وتدريب الإنسان على النقاش وتغيير القوانين كلما اقتضت حركة التاريخ ذلك وهو ما يسميه الفيلسوف إيمانويل كانط بسياقات "الثابت والمتحول".
إن الإنسانية الآن مطالبة عبر قادة الرأي والتفكير وعبر فلاسفتها ومخابر جامعاتها أن لتضع أسس جديدة للعيش المشترك الذي يقوم على ترويض المتحاربين ونشر ثقافة السلام لدى الأجيال، خاصة وأن العالم يعيش أطوار ما بعد العولمة والمتمثلة في نشوء ما يسميه الفيلسوف "ايمانويل كاستلز" بالمجتمع الشبكي.
كما أن الفنانين والمثقفين في جميع أنحاء العالم مطالبين بإنشاء مصحات افتراضية للتداوي بالفن من المخلفات النفسية والعضوية للحروب.. لأن التجربة أثبتت إثر نهاية الحرب العالمية الثانية أن الفن كان ملاذًا للإنسانية وملجأ لا مرئيًا للمكلومين وجرحى الأفئدة.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"
اقرأ/ي أيضًا:
وزير الخارجية يجتمع بمنظمات دولية وسفراء لتأمين إجلاء التونسيين من أوكرانيا
قيس سعيّد: العمل جار على إجلاء التونسيين بأوكرانيا برًا عبر بولونيا