ضمن مناخات الذاكرة والانخطاف إلى المنسي ومغامرة طلب الهامش الثقافي والاجتماعي، تتغير وظيفة الزمن من آلة للموت والنهاية والنسيان ليصير آلة للانتشاء والتمتع بالتاريخ اللامادي وربما استبدال الذاكرة بالحلم والتذكر بالحنين وأخذ القلم إلى تهيامات شعرية في علاقة بتفاصيل غبار العالم الذي انفصلنا عنه.
ثمة جنّة ثقافية وفنية وجمالية ما انزاحت من مساراتها الطبيعية وتوجهت نحو المجهول رغم عمقها ورحابتها وصداها البهي في الروح، وأهملها حفظة الذاكرة وممتهنو التاريخ كتابةً وفنًّا، في حين كان يمكن لتلك الجنة أن تتحوّل إلى قيمة مشعّة وتحدث لنفسها زمنًا خاصًا بها يمكن تسميته بزمن النشوة، زمن له استعاراته وصوره النادرة البهية التي تبقى مشعةً بعد أن يفنى كل شيء.
الباعة المتجولون بالمناطق البدوية هم شخصيات فريدة طبعت التاريخ الاجتماعي والاقتصادي التونسي طيلة القرن الـ20 إذ كانوا يمتهنون البيع والمقايضة ونقل الأخبار السياسية والاجتماعية بين الأرياف
هذا الهامش الثقافي النادر الذي كانت له أكوانه وحضوره الشاهق في المجتمع يبدو أنه اندثر تمامًا وأصبح أثرًا بعد عين ولا بدّ لنا من جموح الخيال واستقصاء حول المندثر والبحث عن أصدائه المبثوثة في الكتب والبحوث. كلّ ذلك حتى نقف له على وقفة نخلّده من خلالها.
وضمن خانة الزوايا المستحيلة المهملة من التراث الثقافي والاجتماعي اللامادي التونسي يأخذنا البحث والتقليب في ما خلف الباعة المتجولون في تونس، وهم أولئك الذين كانوا يجوبون القرى التونسية على طول جغرافيا البلاد، بعيدًا عن الباعة المتجولين في المناطق الحضرية حيث تختلف الأساليب وأنواع البضائع وأوقات البيع.
الباعة المتجولون بالمناطق البدوية هم شخصيات فريدة طبعت التاريخ الاجتماعي والاقتصادي التونسي طيلة القرن العشرين، إذ كانوا يمتهنون البيع والمقايضة ونقل الأخبار السياسية والاجتماعية بين الأرياف التونسية المتشعبة، يمتطون الحمير والبغال ويجوبون الوهاد والأودية والسهول والسفوح ويشقون الغابات في الصحو وفي المطر. تلفح وجوههم الشمس حتى الاسوداد وتفاجئهم أمطار "غسّالة النوادر" فتفسد بضاعتهم وتشتت مسالكهم. وتتراءى "زنابيل" دوابهم محملة بكل الخيرات والأحلام والأفراح الصغيرة التي تنتقى بعناية وخاصة تلك التي لا تصل المنازل البعيدة، يتزودون ببضائعهم من الأسواق الكبرى بالمدن ومن الأسواق الأسبوعية القريبة إن لزم الأمر.
الباعة المتجوّلون شخصيات أليفة وغامضة في نفس الوقت.. خلقت لتغذية الهامش الثقافي وتظهر في مواعيد ومواسم محددة تحمل معها ما لا يخطر على بالٍ مثل مواد التجميل والأقمشة والعطور والبخور والحلويات والألبسة
الباعة المتجوّلون شخصيات أليفة وغامضة في نفس الوقت. تقيم على التخوم، بل هي خلقت لتغذية الهامش الثقافي، وتظهر في مواعيد ومواسم محددة. تقصد "الدواوير" ( جمع دوّار وهو التجمع السكاني الصغير وعادة ما يكون سكانه من نفس العائلة أو نفس القبيلة) والمنازل الريفية البعيدة المتناثرة على طول البلاد من الشمال إلى الجنوب.
يحملون معهم ما لا يخطر على بالٍ مثل مواد التجميل والأقمشة والعطور والبخور والحلويات والألبسة الخاصة بالأطفال والنساء. ويحملهم تيههم ورغبتهم في تقصي الدروب البعيدة إلى ديار مجهولة، رغم معرفتهم المسبقة بالعروش والبطون والفروع القبلية التي يقصدون، ويميزون الناس من ألقابهم. ورغم ذلك تنتظرهم مفاجآت لم تكن في الحسبان، كأن يتمّ طردهم لأسباب عديدة أو تهاجمهم الذئاب والكلاب عند مرورهم بالمسالك الوعرة والغابية أو يتعرضون للسرقة من قبل قطّاع الطرق.
وترتبط تنقلات الباعة المتجولين بالمواسم الفلاحية مثل موسم حصاد الحبوب وجني الزيتون وجني التمور وتقطير الزهور وقطف اللوز وبيع الدواب والمواشي. وهي مواسم تمثل الخيوط الرفيعة الناسجة للاقتصاديات الاجتماعية المرتبطة أساسًا بالمنتجات الفلاحية. ويعتقد التونسيون كغيرهم من المجتمعات أنها مواسم تدر الخير على الجميع، فتراهم خلال تلك المواسم يتنقلون لكسب الرزق وقد يكون كسبهم من الصابة نفسها فيستبدلون بعض البضائع بالحبوب أو زيت الزيتون أو بكميات من التمر الرفيع أو قوارير من الزهر المقطّر، فيعودون بها للمدن وهناك يبيعونها للتجار الكبار.
قبل وصول الباعة المتجولين إلى "الدوّار" تصدح حناجرهم بعفوية بأغانٍ أو مواويل أو قصائد لقوالين مشهورين مختارة تعلن مجيئهم فتصل أصواتهم إلى البيوت قبل ظهورهم
هؤلاء الباعة وقبل وصولهم بمئات الأمتار إلى "الدوّار" تصدح حناجرهم الخشنة، الطربة، العفوية، الملفوفة بغبار الطريق بأغانٍ أو مواويل أو قصائد لقوالين مشهورين مختارة تعلن مجيئهم، فيصل الصوت إلى البيوت قبل ظهور البائع الجوال وبغلته أو حماره:
"الربيع قال أنا بزهوري
والصيف قال أنا ببقولي
والخريف قال أنا بتموري
والشتاء قال لمّو وهاتولي.."
فينتبه الدوار أو القرية الصغيرة ويستعدون للقائه، وعادة ما تكون البداية بتوفير ظروف الراحة للزائر المبجل فتستريح دابته وتأكل وتشرب وتتخلص من حملها الثقيل ويكرم البائع الجوال بالاستراحة وتقديم أغذية لائقة تعكس مكانة القرية وسكانها.
بعد وقت الراحة تستعد النسوة والأطفال تحت مراقبة دقيقة من عجائز البيوت للنظر وتقليب السلع، وكل سيدة أو شابة تقلّب السلع حسب رغبتها وطموحها في التقيّف والتجمّل.
وهنا ينبلج صوت البائع خفيضًا وبروح غزلية:
"التوت يا مطعم التوت.. والتوت عقاب مرارة
على خاطره نحرم القوت.. ونجلي لبرّ النصارة.."
وينزاح المشهد من بيع وشراء ليدخل إلى خانات البلاغة الشعرية والروح الموسيقية فتطفو هالة لا مرئية من الغزل. وهنا يأتي دور العجائز ممن علمتهن السنون والحياة فيتدخلن بنباهة للحد من هذا الانزياح، وفي لمح البصر يلتقط البائع نظرات وكلمات السيدات الكبيرات في السن فيعدل من كل شيء.
بعد أن تتم كل الصفقات يسوق البائع راحلته المثقلة ويواصل رحلته وهو يتحسس محفظة أمواله المخبأة في نطاق ملابسه. وبعد بضعة كيلومترات يصل بيت أحد الفلاحين الكبار يطلق صوته الخشن بـ"طرق صالحي" (غناء عرفت به قبيلة المثاليث التونسية الممتدة بين ولايات الساحل التونسي الأوسط؛ المهدية وصفاقس وشرق قفصة وجنوب القيروان) التي غناها المطرب الشعبي الشهير إسماعيل الحطاب:
"يا قمرة أوردي وبالك تغبي
وعلى البير ورّي حفالك (لباسك)
سلّمي على من تحبّي..
حرة ولا من يسالك"
وقبل أن يطل أهل البيت باستقباله يخفّض البائع الموغل وجهه في سمرة تسببت فيها شموس الرحلة من صوته احترامًا وتقديرًا ويعدّل "كشطته" (عمامته) وفي لمح البصر يقفز إلى الأرض من على ظهر بغلته الشهباء ذات السيقان الطويلة، وبعد الكرم والحفاوة وجزء من الراحة يبسط البائع بضاعته أما سيدات وصبايا البيت فتفوح العطور وتزهر الألوان من جوف "الزنبيل" الكبير ويسحب كيسًا به أقمشة خاصة كانت زوجة الفلاح قد أوصته بجلبها من سوق قصر هلال بالساحل التونسي. يتلقى مقابل ذلك أموالًا مجزية و"ديقة" من زيت الزيتون البكر (ما قدره عشر ليترات) فيسرج دابته ويواصل الرحلة.
يعرج البائع المتجول على قرية أخرى قريبة وينهي عمل اليوم حسب ما خطط له ويبيت ليلته في دكان أحد الأصدقاء. وفي صبيحة اليوم الموالي وبعد الراحة والتزود بالمؤونة تتواصل الرحلة في أرياف الشمال الغربي التونسي.
أحيانًا يقوم الباعة المتجولون بأدوار إنسانية إلى جانب أدوارهم التجارية الاقتصادية فيجلبون بعض المراهم الخاصة بمريض ما في أحد "الدواوير" كما يحملون رسائل حب مشفرة وأخرى مباشرة بين العشاق
أحيانًا يقوم الباعة المتجولون بأدوار إنسانية إلى جانب أدوارهم التجارية الاقتصادية فيجلبون بعض المراهم الخاصة بمريض ما في أحد "الدواوير". كما يحملون رسائل حب مشفرة وأخرى مباشرة بين العشاق.
وتكون الأغاني التي تعلن مقدمهم هي نفسها في سياق الرسائل المشفرة، فيصدح بهدوء على مشارف البيت: "سوج الحمام وما تعلاه إلا مباركة زرقة الوشام.. طفلة صغيرة وعاشقة" أو "قسمي على الله كان ما تبغوني.. ترضوشي ناكل ونشرب من دموع عيوني".. فتلتقط الرسالة فورًا، لتخرج العاشقة المعنية مهرولة، رغم تظاهرها بالهدوء صحبة أمها وأخواتها وعماتها وجداتها لاقتناء بعض العطور أو الألبسة، لتتسلم رسالة عشق مكتوبة كان حبيبها قد سلمها له منذ أيام، إذ يدسّها البائع بطريقته في "محرمة" أو "ملحفة" أو "سفساري". وهكذا يلعب هذا البائع دورًا إنسانيًا فيتحول إلى وسيط عاطفي يربط بين القلوب ويداوي الجريح منها.
في تونس ثمة حديث مطول يتعلّق بالتراث اللامادي وثمة استراتيجيات رسمت منذ عقود لكننا لا نرى لها ترجمة في الواقع، فلا السينما المدعومة من المال العمومي انطلقت في هذا الاتجاه ولا الأدب خلد هؤلاء الباعة المتجولين في أعمال روائية أو قصصية أو شعرية.. هكذا تبقى قصص وأشعار وأغاني الباعة المتجولين في تونس على ناصية النسيان إلى أن يأتي ما يخالف ذلك.