30-أبريل-2024
 الديمقراطية الاجتماعية

"الحرية والكرامة مقتصرتان في الغرب على الإنسان الغربي" (Getty)

مقال رأي 

 

"إذا كانت ديمقراطية أثينا مشروطة بالعبودية والديمقراطية الغربية اليوم مشروطة بالهيمنة، تطمح ثورة الألفية الثالثة المنطلقة من تونس إلى بناء ديمقراطية مشروطة بالحريّة".

جملة ترددت في كل ما كتبنا عن ثورة الحرية والكرامة باعتبارها إجابة عن أزمة الدولة والديمقراطية ومن ثمّ عن معضلة الانتظام السياسي في عالمنا الحديث. ذلك أنّ جلّ ما كُتب في هذا الباب كان للإجابة عن السؤال الأزلي: كيف للإنسان أن يعيش حرًّا وفي جماعة في الآن نفسه؟

فما المقصود بالشروط التي تؤسس الديمقراطية سواء كانت مشروطة بالعبودية أو الهيمنة أو الحريّة؟

  • الديمقراطية المشروطة بالعبوديّة 

يقودنا الحديث المبسّط عن الديمقراطية في أثينا واعتبارها مشروطة بالعبوديّة إلى طبيعة المجتمع في أثينا في القرن الخامس قبل الميلاد. إذ يماهي فلاسفة أثينا بين الدولة والمدينة حتى غدت "سياسة المدينة" (la cité) مرادفًا لـ"سياسة الدولة". 

لن تبنى الديمقراطية إلا بمرجعية الثقافة الوطنية لكل جماعة سياسية، حيث يكون بناؤها نتيجة سياسية لتسويات كبرى ومصالحة تاريخية بين قوى المجتمع الفعلية وتلك هي شروط الديمقراطية

ويعدّ انتظام المدينة/الدولة عند فلاسفة أثينا صورة من نظرية قوى النفس عندهم وهي قوى ثلاث: القوة الناطقة أي العاقلة وموطنها الرأس ويمثلها الفلاسفة، والقوة الغضبية وموطنها القلب ويمثلها الجند، والقوة الشهوية وموطنها الكبد ويمثلها النساء والعبيد وهم دون منزلة المواطنة ومن ثم مستبعدون من المشاركة في سياسة المدينة وديمقراطيتها المباشرة. فينقسم المجتمع إلى أحرار وهم المواطنون وعبيد وهم النساء والعبيد.

وتمثل السعادة القيمة المركزية في الفلسفة اليونانية ومدينتها الديمقراطية، وفي هذا المعنى اعتبر  الطبيب والفيلسوف اليوناني ديوجانس أن تحقّق السعادة "يكون عندما يتحكم فلاسفة المدينة ويتفلسف حكامها". وهذا مدعاة إلى انتظام كلياني صارم تصنعه الأقلية الحرة من النبلاء التي تحتكر صفة المواطنة وامتيازها. فالعبودية عند اليونان طبيعة وليست ثقافة. وكان هذا كافيًا ليقيم حواجز مستقرة بين مكونات المدينة الأثينية، وهي حواجز بين الإنسان وإنسانيته. 

وبهذا المعنى كانت ديمقراطيتها مشروطة بالعبوديّة. وهي إذ تستبعد المرأة والعبيد من دائرة الإنتماء للإنسان فإنّها تستثنيهما أيضًا من المشاركة فيما يشبه الديمقراطية المباشرة وتحول دون متصور إنساني، وتحيل إلى أن الإنسان لا يسمح بتمثّل وحدة النوع وأنّ كل الناس لآدم وأنّ آدم من تراب. 

ورغم أنّها مشروطة بالعبوديّة كانت ديمقراطية أثينا مباشرة، ويبدو أنّها لم تكن قابلة للحياة سوى داخل حيّز بشري محدود هو المدينة/الدولة.

لذلك كان لظهور الإمبراطوريات بما هو اتساع أفقي ودخول أمم ممتدة أثر على نماذج الانتظام السياسي وأفقد التجربة النموذج هويتها السياسية. 

فتجربة المدينة/يثرب ودستورها الإنساني سيعبّر عنها في جملة "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا"، وهي الجملة التي كان ظهورها تعبيرًا عن أساس جديد للانتظام السياسي قوامه إنسانية الإنسان ووحدة أصله (من نفس واحدة) وتأكيدًا على أن أن ثنائية مؤنث/مذكر مجرّد اختلاف وظيفي لاستمرار النوع، من ناحية، وخوفًا من ارتباكه أمام اتساع العدد ودخول أمم وأعراق مختلفة في التجربة وهي المقدمات الأولى لظهور الشكل الإمبراطوري، من ناحية أخرى.

  • الديمقراطية المشروطة بالهيمنة 

ونعني بها الديمقراطية التي ظهرت في الغرب الحديث واستقرت فيه منذ ما يقارب القرنين، وهي في تقديرنا لم تكن نتيجة سياسية مباشرة للثورات المتعاقبة التي عرفتها أوروبا الغربية خاصة بقدر ما كانت نتيجة تسوية تاريخية كبرى بين السوق والسياسة. 

ولن تبنى الديمقراطية، كل ديمقراطية إلا بمرجعية الثقافة الوطنية لكل جماعة سياسية، حيث يكون بناؤها نتيجة سياسية لتسويات كبرى ومصالحة تاريخية بين قوى المجتمع الفعلية. 

وتلك هي شروط الديمقراطية باعتبارها إدارة سلمية للعيش المشترك تحفظ فيها الحقوق بتأمين العيش المشترك والأمن النفسي والسلم الأهلي بما يشمل الإطعام من الجوع، والتأمين من الخوف. وهي الشروط التي تبلور فيها متصوّر الجماعة السياسية للدولة بنيةً ووظيفةً.  

وتكون الثورة، في تاريخ المجتمعات حالة دورية ترث وظيفتها كالنبوّة، تأتي لتذكّرنا بالقيم عندما تحوّل الدولة -حين يطول بها العهد- كل القيم إلى قوانين. 

فالثورة لا تبني رفاهًا ولا استقرارًا وإنما هي تذكير بالقيم، كقيمة العدل والحرية والأخوة، ودعوة إلى إعادة بناء الدولة والمجتمع على ضوئها، لذلك هي لا تأكل أبناءها مثلما شاع في الأدب السياسي، ولا آكل للقيم والبشر مثل الدولة. 

الثورة لا تبني رفاهًا ولا استقرارًا وإنما هي تذكير بالقيم، كقيمة العدل والحرية والأخوة، ودعوة إلى إعادة بناء الدولة والمجتمع على ضوئها

ولتبسيط الفكرة نشير إلى هوية الظاهرة الاستعمارية الحديثة، وإلى أنّ المستعمر الذي خرج من أوروبا بحثًا عن أسواق لرأسماليته الفائضة على حدوده هو الغرب الديمقراطي في ملابسات سياسية واستراتيجية وتاريخية معلومة. وهو ما يعني أنّ الحرية والكرامة مقتصرتان في الغرب على الإنسان الغربي، في حين يمثّل الإنسان خارجه موضوعًا للاستغلال والقهر. 

وهذا ما تمّ تاريخيًا بالفعل ففرنسا الديمقراطية وبكل ما توفره لمواطنيها من حقوق ورفاه، هي القوة الاستعمارية التي احتلت الجزائر والمغرب العربي في مرحلة أولى وتورطت في حروب إبادة ونهب ثروات البلاد المحتلة لأكثر من قرن. 

  • جامعات الولايات المتحدة والديمقراطية المشروطة بالحرية 

ورغم اختلاف السياقات التي حرّكت النخب في الولايات المتحدة احتجاجًا على حرب الفيتنام وجرائم النظام العنصري في جنوب إفريقيا، فإنّها تشترك في سبب عميق يعود إلى طبيعة الديمقراطية في الغرب وكيف أنّها مشروطة بالهيمنة والاستعمار

ولهذا السلوك الاستعماري المعادي لإنسانية الإنسان جذوره الفكرية. ويمثل المفهوم  الاقتصادي "نمط الإنتاج الآسيوي" أحد أسسه النظرية الماثلة في صميم المادية التاريخية ومراحلها الإنتاجية الخمس. 

وصلت رسالة الربيع قوية إلى قلب النظام العولمي و"مركز صناعة الأموال" في وول ستريت، ومن فلسطين يبعث المجال العربي، بعد رسالة الربيع، برسالة الطوفان العظيم، ليصل صداها إلى الجامعات "مركز صناعة الأجيال"

فترى أنّ الإقطاع في أوروبا كان نمط إنتاج منفتحًا وقادرًا على الانتقال الذاتي إلى الرأسمالية. في حين لم يكن بإمكان الإقطاع خارج أوروبا ومنه في البلاد العربية الانتقال بشروطه الذاتية إلى الرأسمالية بسبب انغلاقه وخاصة فيما يتعلق بالملكية الجماعية للأرض. فكان لا بدّ من عامل خارجي يكسر انغلاقه ويُيسّر انتقاله إلى الرأسمالية. فكان الاستعمار هو هذا العامل، ولذلك أُسندت إليه وظيفة "تمدينية وتنويرية تحديثية". 

ويمثل مفهوم "الاستبداد الشرقي" الوجه السياسي لمفهوم "نمط الإنتاج الآسيوي". والاستبداد الشرقي بدوره استبداد مغلق غير قادر على الانتقال ذاتيًا إلى الديمقراطية. وعلى هذا الأساس كان الاستنتاج التالي: لئن كان للعربي تقاليد في مقاومة المستعمر باعتباره الآخر الكافر الغازي فإنه لم تكن له تقاليد في مقاومة الحاكم المستبد، ولم يكن من الممكن بلوغ الحرية دون وعي الحرية. 

ولن يُكسر الاستبداد إلا بعامل خارجي هو التدخل العسكري الأجنبي. وعلى هذا الأساس  اعتُبر  غزو العراق وتدميره واحتلال عاصمة الرشيد نشرًا للديمقراطية وعلى ضوئه كان تنصيب بول بريمر في المنطقة الخضراء حاكمًا أمريكيًا على شعب العراق بمباركة المرجع آية الله السيستاني وموافقة من دولة الجوار التي كانت تعتبر الولايات المتحدة الشيطان الأكبر بسبب دورها في الحرب المفروضة عليها من قبل النظام العراقي عشية انتصار الثورة الإسلامية.

كانت ثورة الحرية والكرامة ثورة الألفية الثالثة الردّ الأول على تهافت تبرير الاستعمار فأبان الانتفاض المواطني المنطلق من تونس والمتوسع إلى كل المجال العربي بأنّ للعربي تقاليد في مقاومة المستعمر، باعتراف المستعمر نفسه وأنّ له تقاليد راقية في الانتفاض المواطني السلمي على نظام الاستبداد العربي المسند من الغرب الاستعماري رغم إنكار الغرب نفسه. والذي كان إلى جانب عوامل داخلية عربية سببًا في تطييف الثورة وتسليحها (الإرهاب المصنوع) وتشويه وجهها في بحر من الدماء ومئات آلاف القتلى وملايين المشردين بين قارات العالم (سورية الشهيدة والمحتلة نموذجًا).

الحركة الطلابية في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا لا تعنيها عقيدة المقاومين ولا ثقافة الشعب الفلسطيني بقدر ما تَنْشدّ إلى عدالة القضية واستماتة أصحابها في الدفاع عن حقهم الطبيعي في الحياة والحرية والكرامة

ورغم كل تلك الأهوال وصلت رسالة الربيع قوية إلى قلب النظام العولمي و"مركز صناعة الأموال" في وول ستريت، مبشّرة بديمقراطية تكون مشروطة بالحرية. أي أنّها ديمقراطية للإنسان من حيث هو إنسان لا فرق فيها بين أبيض وأسود وامرأة ورجل إلا بدرجة الالتزام بشروط المواطنة والعيش المشترك والأخوة الإنسانية. وفي ذلك تجاوز لفك الارتباط الذي حصل بين الديمقراطية والحرية مع الغرب الاستعماري واستعادة تدريجية لارتباط الديمقراطية بالحرية والسياسة بالأخلاق.

وقبل غزو العراق قام زرع دولة الكيان الوظيفية في فلسطين على التعلات الاستعمارية الواهية نفسها، فاعتبر كذبًا الديمقراطية الوحيدة في ظلام الاستبداد العربي وهو القبس الممنوح من أنوار المدنية الغربية الساطعة، ومن فلسطين يبعث المجال العربي، بعد رسالة الربيع، برسالة الطوفان العظيم، ليصل صداها إلى الجامعات "مركز صناعة الأجيال". 

فالحركة الطلابية في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا  لا تعنيها عقيدة المقاومين ولا ثقافة الشعب الفلسطيني بقدر ما تَنْشدّ إلى عدالة القضية واستماتة أصحابها في الدفاع عن حقهم الطبيعي في الحياة والحرية والكرامة من ناحية، ومن ناحية أخرى لا يقبلون بالظلم وإن كان من مجالها السياسي والثقافي. فقد تعلّمت في الجامعات إيّاها ومن وهيئات التدريس والنخبة الأكاديمية بأن الأخلاق كونية إنسانية.

 الديمقراطية المشروطة بالحرية أفق كان للمجال العربي -رغم حالة الاستثناء التي هو عليها- الفضل في المساهمة فيها بالربيع ثم بالطوفان للدفع نحو انتظام إنساني أكثر عدلاً وألصق بإنسانية الإنسان.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"