26-أبريل-2024
غزة فلسطين جامعة كولومبيا أميركا

ما تشهده الجامعات في الغرب الأوروبي والأميركي من انتفاض يجدّد الثقة بالطوفان وإعجازه (epa)

مقال رأي 

 

تعيش الجامعات الأميركيّة اعتصامات طلابيّة صاخبة مصحوبة بدعوة قويّة إلى وقف الحرب على غزة ووضع حدّ لجريمة الإبادة الجماعيّة. وتعرف التحركات توسّعًا إلى أكبر الجامعات الأميركيّة العريقة وإلى نظيراتها في أوروبا (بريطانيا، فرنسا). فضلًا عمّا يثيره انضمام الأساتذة وهيئات التدريس في هذه الجامعات من أسئلة. ويمثّل العلم الفلسطيني والكوفيّة الفلسطينيّة وغزّة عناوين ثابتة في تحركات الطلاب التي لم تُثنها محاولات فضّ الاعتصام وتهديد بعضهم بالطرد وإحالة بعضهم الآخر على التحقيق.

 

  • سؤال مربك

تتقاطع ردود الأفعال المساندة والمناهضة لانتفاضة الطلاب في خطورة ما يحدث داخل نخب الغرب وقلاعها العلميّة من جهة مركزيّة القضية الفلسطينية والانتصار لعدالتها في هذه التحرّكات، فهو في نظر الكيان "فظيعة ومعادية للساميّة" وفي نظر أنصار الحق الفلسطيني "نبأ عظيم" و"انتصار لقيم الحق والعدل".

ما يحدث داخل نخب الغرب وقلاعها العلميّة من جهة مركزيّة القضية الفلسطينية والانتصار لعدالتها لا يخرج عن كونه مؤشرًا على تفكك السرديّة الصهيونيّة المهيمنة على العالم وبدايات التحرر منها

إنّ ما يدور أمام أعيننا لا يخرج، في تقديرنا، عن كونه مؤشرًا على تفكك السرديّة الصهيونيّة المهيمنة على دول الغرب ومجتمعاته وعلى العالم، وبدايات التحرر منها. ويبدو أنّ الأمر يتطوّر إلى مسار "تحرير اليهود والعالم من الصهيونيّة". وإن ما كان جملًا عابرة في خطاب قامات علميّة من مثل نعوم تشومسكي المناهض للهيمنة ونهجها العولمي المتصهين يتردد اليوم بين الطلاب وأساتذتهم ويصل صداه تدريجيًا إلى النخب خارج أسوار الجامعة. 

مثير انضمام الأساتذة إلى طلبتهم، ويبدو هذا منهم انسجامًا مع ما يدرّسونه من علوم ومناهج وقيم، وإلاّ كانوا مثل كثير من أساتذتنا في تردّيهم وضحالتهم وتشبثهم بالميت من حداثة الآخرين وتبعيتهم الذليلة لها. 

وفي كلّ الأحوال لن نقسو على طلبتنا، وبدرجة أقلّ على نخبتنا لأنّنا لا نملك الإجابة عن السؤال المضاعف: لماذا يتحرّك الطلاّب هناك نصرة للحق الفلسطيني ولا يتحرّك طلابنا هنا وهم أهل القضيّة؟

وإذا كان من غير المتيسّر الإجابة عن أسباب ظاهرة تدور أمام أعيننا في مجالنا فإنّ الإجابة عن أسباب غيابها في مجال آخر تكون أعسر. وتزداد الصعوبة في سياق يغلب عليه جلد الذات. فمثل هذه السياقات تفتح المجال للأجوبة السهلة والمضلّلة. وإنّ ما تقدّم لا يمنع من الإشارة إلى أنّ طلبتهم يتحرّكون في ظلّ مواطنة مستقرّة وحقوق ثابتة ويتحرّك طلبتنا في ظلّ مواطنة مفقودة. 

مثير انضمام الأساتذة إلى طلبتهم في الجامعات الغربية في تحركاتهم المساندة لفلسطين، ويبدو هذا انسجامًا مع ما يدرّسونه من علوم ومناهج وقيم، وإلاّ كانوا مثل كثير من أساتذتنا في تردّيهم وضحالتهم وتشبثهم بالميت من حداثة الآخرين وتبعيتهم الذليلة

ومع ذلك تبقى المفارقة صارخة: كيف لا يرافع المرء عن قضيّته وهو يرى الأباعد يصلون إليها ويدافعون عن عدالتها رغم المسافات الجغرافيّة والحواجز الثقافيّة والنظم الإعلاميّة التي تفصلهم عنها؟   

 

  • هل للمجال العربي مشروعه؟

في سياق العجز عن نصرة غزّة من قبل النخب وتواطؤ نظام الاستبداد العربي بادرني أحد الأصدقاء بملخّص لمشهدنا العربي والإقليمي بأنّه لا يوجد، في نهاية الأمر، في المنطقة سوى مشروعين: المشروع الإيراني والمشروع الصهيوني. ويبقى المجال العربي الذي نتحدّث ونراهن على مستقبله بلا مشروع". 

كان تفاعلي في سياق هذا السجال بأنّ المجال العربي تقدّم بـ"مشروع الربيع" الذي هزّ المنطقة والعالم وبلغ صداه إلى مركز التجارة العالميّة بكل ما يحيط به من دلالات حافّة، وتردّد شعاره (الشعب يريد أسقاط النظام) في أرجائه وبكلّ ما تمنحه رمزيّته القويّة من مضامين تحرّر تتجاوز الاستبداد المحلّي إلى نظام الهيمنة العولمي. واجتمعت أسباب عدّة لإجهاض الربيع إلى حين. ولكنّ جمره تحت رماده لم يخمد. وسيكون الطوفان، وهو مشروع المجال العربي الثاني، قوّة تنفخ ناره ولهيبه الكامن. 

 

 

الربيع والطوفان مشروعان تقدّم بهما المجال العربي، عنوان الأوّل المواطنة وعنوان الثاني المقاومة. ولم يتزامن المشروعان رغم التلازم الموضوعي بين المواطنة والمقاومة في تأسيس المشروع الوطني. 

ورغم محليّتهما فإنّ المشروعين تخطّيا حدود المجال العربي ليحرّكا العالم: الأول طال مركز "صناعة الأموال" (وول ستريت) وطال الثاني مركز "صناعة الأجيال (الجامعة). وفي ذلك إشارة قويّة إلى أنّ مشروع المجال العربي ليس نواة لمركزيّة مضادّة للمركزيّة الغربيّة بقدر ما هو مشروع إنساني مفتوح على رغبة في "إدارة التعارف" بديلًا عن "إدارة التوحّش". 

ليس في هذا هروب من سؤال: لماذا لا يستجيب طلبتنا ولا تتحرّك نخبنا لنصرة فلسطين؟ لأنّي ببساطة لا أملك إجابة سوى تشديدي على أنّ الربيع والطوفان ليسا "قنديل باب منارة ما يضوّي كان على البرّاني". فأثرهما يختلف باختلاف المجال. وقد يكون هذا من بديهيات سوسيولوجيا المجتمعات. فهي لا تستجيب بنفس الطريقة وإن تطابقت الأسباب والدوافع. ثمّ إنّه لا شيء يمنع من أن يكون ما يحدث هناك سببًا لبلوغ ما يحدث هنا غايته.  

 

  • الجوار الإقليمي

أمّا عن المشروعين الصهيوني والإيراني في المنطقة، ونضيف إليهما المشروع التركي. فإنّ المشروع الصهيوني إلى زوال بسبب طبيعة دولته الوظيفيّة المصطنعة والمزروعة قسرًا في المنطقة. فهي مستطيعة بغيرها وأسباب استمرارها توجد خارج المجال العربي. وأبان الطوفان والردّ الإيراني عن أنّها بلغت مرحلة العجز في الدفاع عن نفسها بأدواتها المحليّة. وبسبب انكسارها أمام المقاومة ورّطت معها في جريمة الإبادة الجماعيّة الولايات المتحدة ومعظم دول أوروبا، ولم تكن قادرة على استيعاب الردّ الإيراني دون تدخّل عسكري حمائي من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، وغيرها.

أظهر الطوفان والردّ الإيراني أنّ "إسرائيل" بلغت مرحلة العجز في الدفاع عن نفسها وبسبب انكسارها ورّطت معها في جريمة الإبادة الجماعية الولايات المتحدة ومعظم دول أوروبا

أمّا المشروعان الإيراني والتركي فإنّهما يتعلّقان بقوّتين إقليميّتين أصيلتين وباستراتيجيّتين إقليميّتين. يتأثّر مستقبلهما بعلاقتهما بالمجال العربي. وأهميّة مراجعتها على أساس أنّ مصلحتهما في أن يكون للمجال العربي مثلهما كيانه السياسي. وقد تأخّر انبناؤه لسببين: الاحتلال والاستبداد. وأنّ اعتبارهما إيّاه مجالًا لتوسيع نفوذهما قادهما إلى مناهضة الربيع العربي (محافظة تركيا على علاقتها الداعمة للكيان، دعم إيران نظام الاستبداد العربي في نسخته السورية وتمددها في المجال العربي باسم المقاومة).

 

  • الإصلاح السياسي المأمول

بنينا وجهة نظر حول الإسلام السياسي واعتبرناه الشرط الأساسي في بناء الديمقراطيّة في المجال العربي الإسلامي. فالبناء الفكري والسياسي لن يستقرّ ولن يثمر إلاّ بشروطه الثقافيّة المحليّة. وهذا هو معنى بناء حداثتنا الخاصّة. وقدّرنا من خلال الملاحظة أنّ "العدالة والتنمية" تمثّل أعلى مراحل الإسلام السياسي. وترتبط بمهمّة بناء الديمقراطيّة. وبإنجازها تختفي ظاهرة الإسلام السياسي لتحلّ في هويّة جديدة ضمن الهويّة الوطنيّة. مع تدقيق مهم حول هويّة الديمقراطيّة في المجال العربي يتمثّل في ما تمثّله ثورة الألفيّة الثالثة من إضافة كبرى في سياق إصلاح الديمقراطيّة. فإذا كانت ديمقراطيّة أثينا مشروطة بالعبوديّة وديمقراطيّة الغرب اليوم مشروطة بالهيمنة فإنّ ثورة الحريّة والكرامة تهدف إلى ديمقراطيّة مشروطة بالحريّة لأوّل مرة في تاريخ الانتظام السياسي. 

وأمّا في المجال العربي فإنّه لم يكن ممكنًا تبيّن هويّة القوى السياسيّة وأوزانها الانتخابيّة ودورها إلا مع الربيع الذي أتاح الاختيار الشعبي الحر والانتخابات الديمقراطيّة. وبرز الإسلام السياسي باعتباره من بين القوى الأساسيّة في المشهد. غير أنّ الاختلاف حول الظاهرة ودورها وما عرفته من أزمات هيكليّة داخليّة وحجم التدخّل الخارجي كلّ ذلك حال دون إنجاز مهمتها وعطّل وظيفتها الأساسيّة. 

ويتقدّم المجالان الإيراني والتركي ببنائهما كيانيهما السياسيين. وفي المجال التركي أسست الكماليّة الدولة الوطنيّة وأسست الأردوغانيّة الديمقراطيّة. ورغم استقرارها فإنّها بقيت ديمقراطيّة مشروطة بالهيمنة (علاقة الديمقراطيّة التركيّة بالنيتو والكيان). 

وفي المجال الإيراني بنَت الشاهنشاهيّة الدولة الوطنيّة وكان منتظرًا أن تبني الخمينيّة الديمقراطيّة. غير أنّها كانت، لملابسات إيرانيّة يضيق عنها المقال، سببًا في منع الإسلام السياسي الشيعي متمثلًا في تيار علي شريعتي والتيار الإصلاحي والعلمائي (آية الله شريعتمداري) بروافده المختلفة من إنجاز مهمته في بناء الديمقراطيّة والخروج من ولاية الفقيه إلى ولاية الشعب. كما ساهمت في تدجين جانب من الإسلام السياسي الشيعي في المجال العربي (حزب الدعوة في العراق مثالًا) وحرفه عن مهمته الأصليّة وجعله ذراعًا لها في جوارها العربي. 

ما نراه من صمود أسطوري بغزّة، وما تشهده الجامعات في الغرب الأوروبي والأميركي من انتفاض يجدّد الثقة بالطوفان وإعجازه

فمثلما كانت الأصوليّة الوهابيّة مانعة للإسلام السياسي في المجال العربي السني من إنجاز مهمّته في بناء الديمقراطية كانت الأصوليّة الخمينيّة مانعًا للإسلام السياسي في المجال الشيعي من الهدف نفسه. وبهذا المعنى يكون المجال الإيراني موضوعًا للثورة بما هي انتقال إلى الديمقراطيّة، والمجال العربي مع الطوفان مجالًا لمهمة مزدوجة: بناء الكيان السياسي العربي على قاعدة الديمقراطيّة. 

ويكون بناء الديمقراطية في المجالات الثلاثة سبيلًا إلى كيان إسلامي يطمح إلى بناء ديمقراطيّة مشروطة بالحريّة فيكون بذلك فاعلًا أساسيًّا في عمليّة إصلاح سياسي عميقة للدولة والديمقراطيّة يحتاجها العالم.

كلّ هذا مشروط بالطوفان ومآلاته، وما نراه من صمود أسطوري بغزّة، وما تشهده الجامعات في الغرب الأوروبي والأميركي من انتفاض يجدّد الثقة بالطوفان وإعجازه، ولكن من خلال التاريخ وشروطه. 

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"