تواجه النقابات الأمنية منذ سنوات اتهامات شتّى وضغطًا متواصلًا ومتنوعًا وتنديدًا متكررًا يشتدّ ويتردد صداه كلما صدرت عن هذه المنظمات بيانات احتجاجية أو تحركات ميدانية أو مطالب مهنية حتّى إن بدت بالنسبة إلى العاملين في القطاع الأمني مشروعة بديهية.
تواجه النقابات الأمنية اتهامات شتّى منها بالخصوص توظيف العمل النقابي في أغراض سياسية وإفشاء معلومات سرية واستغلال أعوانها الحاملين للسلاح لمواقعهم في تحركات ميدانية متجاوزة للقانون
يرى البعض أنّ الاعتراض الواسع عن سلوك بعض النقابيين الأمنيين وتحركاتهم وتصريحاتهم يتخذ أحيانًا طابعًا مبالغًا فيه مقارنة بما تلقاه بعض النقابات الأخرى من تعاطف ومساندة، ولكن يشدد آخرون أن النقابات الأمنية وبطابع منخرطيها الحاملين للسلاح والمكلفين بضبط الأمن، يجعلها أكثر التزامًا، من المفترض، بقواعد العمل النقابي بعيدًا عن لغة التهديدات وشبهات توظيف النقابي في السياسي.
وتتعدد الأسئلة في هذا الجانب، هل تستهدف المواقف المعترضة على النقابيين الأمنيين سلوكهم وأنشطتهم أم تستهدف وجودهم القانوني الذي يثير ألوانُا من الحرج؟ وهل ينبني ذاك الاستنكار لتحركات الأمنيين على امتعاض من تصرفاتهم أم ينطوي على رفض مبدئي مطلق لوجود نقابات أمنية؟ وماهي الطرق الأمثل لإيقاف خروقات بعض الأمنيين داخل هذه النقابات وبالخصوص استغلال مواقعهم ووظائفهم بما في ذلك الاطلاع على معلومات حساسة في العمل النقابي؟
اقرأ/ي أيضًا: سنة بعد انطلاق الدوائر القضائية المتخصصة.. النقابات الأمنية تضغط والجلاد غائب!
من يحمي المؤسسة الأمنية من التوظيف؟
مراجعة المواقف المناهضة للنقابات الأمنية تتيح لنا تصنيفها إلى أربع درجات متفاوتة حدّة وخطورة، الأولى تدفع نحو حلها وتعتبر وجودها خطيئة سياسية ارتكبها الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي، ففي حكومته المؤقتة بُعيد الثورة صدر المرسوم 42 المؤرخ في 25 ماي/ أيار 2011، وينصّ في فصله الحادي عشر على أنّ " لأعوان الأمن الداخلي الحق في ممارسة العمل النقابي، ولهم لهذا الغرض تكوين نقابات مهنية مستقلة عن سائر النقابات المهنية واتحاداتها". ويستند أصحاب هذا الموقف الإقصائي إلى عدة حجج منها ندرة هذا التوجه في العالم وحساسية الدور الذي تقوم به القوات الحاملة للسلاح مما يجعل تحركاتها الاحتجاجية تكتسي خطورة على أمن البلاد والعباد، كما لا يخفي البعض خشيتهم من وقوع الأمن الوطني، أمن التونسيين جميعًا، بسبب النشاط النقابي تحت طائلة التوظيف الحزبي والتجاذب السياسي.
الاختراق والتوظيف من قبل مراكز نفوذ داخلية وخارجية مثل هاجسًا دارت حوله سجالات عديدة منذ سنة 2012، فأفضى إلى خلافات وشهادات تؤكد وجود شبهات التوظيف، فقد نبه علي العريض وزير الداخلية الأسبق إلى هذا الأمر قائلًا: "ثمة أحزاب حاولت اختراق المؤسسة الأمنية وكونت علاقات مع نقابات أمنية".
من جهة أخرى، اعترف عدد من النقابيين بهذه التجاوزات الخطيرة مع اختلاف في ضبط الجهة التي حاولت التوظيف، فنظموا في ماي/ أيار 2013 تحركا أطلقوا عليه شعار "إنقاذ المسار النقابي". وبصرف النظر عن مصدر الاختراق والجهات الراغبة في التوظيف، فقد كان الأمر مثيرًا للقلق وحاثّا على المطالبة بحلّ النقابات.
أمّا المدافعون عن وجود هذا الهيكل، فقد استندوا إلى جملة من الحقائق والثوابت، منها التمسك بما أتاحته الثورة من مجال واسع لحرية التعبير والتنظيم بعد عقود الاستبداد وتكميم الأفواه والتضييقات التي طالت سائر القطاعات. واللافت في هذا المقام أنّ أكثر المتغنين بالمسار الثوريّ يعترفون أن الأمنيين قد طالهم من الاضطهاد ما طال جل المواطنين لا سيما المعارضين. يقول ماهر زيد النائب في ائتلاف الكرامة في مقدمة كتابه "النقابات الأمنية والفساد": "من المفارقات أنّ الشعب التونسي الذي تحرّر من ربقة دولة " البوليس" حرّر بانتفاضته تلك هذا "البوليس" من نظام استبدادي بالغ في استغلاله وتوظيفه لخدمته بعيدًا عن مصالح المواطنين".
تتضمن هذه الشهادة تنبيهًا إلى أنّ نظام بن علي قد دأب على توظيف الجهاز الأمني توظيفًا غير جمهوري، وهي حجة يمكن أن يلتقطها النقابيون للتمسك بوجودهم الذي يمكنهم من سلطة تتيح لهم التفطن لأشكال التوظيف والتصدي له، فالتوظيف تبعًا لذلك ليس ناشئًا عن ظهور نقابات أمنية. كما يبني الأمنيون هذا التمسك بحقهم النقابي على شهادات أخرى تؤكد أن الاضطهاد المادي والإداري قد طالهم مثل غيرهم أو أكثر أحيانًا، في هذا المعني يواصل ماهر زيد قوله " فقد بات غنيًا عن البيان ما كان يعانيه أعوان الأمن بمختلف أسلاكهم من مظالم وضغوطات تراوحت بين كثرة ساعات العمل وضعف الأجور والنقص الفادح في المعدات والتجهيزات والعقوبات التعسفية التي تسلط بتعليمات فوقية وغياب الشفافية في الترقيات فضلًا عن الإهانات العلنية التي يوجهها الرؤساء المباشرون للأعوان العاملين تحت إمرتهم".
مقتطف من كتاب "النقابات الأمنية والفساد.. الحقائق الممنوعة" لماهر زيد
استنادًا إلى هذه المعطيات، يمكن القول إن الداعين إلى حلّ النقابات الأمنية لم يكن دافعهم الاعتراض على الأنشطة ذات المنحى الاجتماعي والمهني إنما كان يحركهم الحرص على حماية المؤسسة االأمنية من التوظيف، ولمّا كان التوظيف حاصلًا قبل الثورة وبعدها في وجود النقابات الأمنية أو غيابها فإنّ الإشكالية تظلّ قائمة، من يحمي المؤسسة الأمنية من الاختراق والتوظيف؟ هل يمكن للنقابات أن تكون عنصرًا مساعدًا على منع الاختراق السياسي؟ وكيف نضمن ذلك؟ ما هي التشريعات التي يمكن أن تحمي النقابات والمؤسسة الأمنية من الاختراق والتوظيف وتحمي المواطن والمجتمع المدني من تجاوزات النقابيين؟
التجاوزات وتعدد الجبهات
الدرجة الثانية من درجات التصدي للنقابات الأمنية تبدو ظرفية وثيقة الصلة ببعض الأحداث، وتتمثل في إطلاق صيحات فزع كلما حدث تجاوز أو وقع إخلال بأحد فصول المرسوم 42 المشار إليه أو حينما تصدر عن النقابات الأمنية مواقف وردود أفعال فيها تعارض مع مقتضيات دستور 2014 الذي ينص في فصله التاسع عشر على أنّ "الأمن الوطني أمن جمهوري، قواته مكلفة بحفظ الأمن والنظام العام وحماية الأفراد والمؤسسات والممتلكات وإنفاذ القانون، في كنف احترام الحريات وفي إطار الحياد التام".
يُلاحظ الإجماع في الاعتراض على أداء النقابات الأمنية في ظل تسجيل تجاوزات متفاوتة الخطورة، وهو إجماع ألف بين أطراف متباعدة ومختلفة من يساريين وإسلاميين ومستقلين
في هذا السياق، يمكن على سبيل المثال تنزيل موقف سامية عبو القيادية في التيار الديمقراطي من بيان صدر عن إحدى النقابات الأمنية في جويلية 2017، وقد تضمن رفضًا لتغطية حفل مغني الراب "كلاي بي بي جي" بسبب إساءته من خلال كلمات إحدى الأغاني لقوات الأمن، ما عابته عبو عن النقابة الأمنية أنها لم تلجأ إلى القضاء إنما عزمت على "معاقبة" الخصم بأسلوبها الخاصّ، وهو ما جعل بعض "الحفلات والمهرجانات تحت رحمة النقابات الأمنية" على حدّ تعبير بعض المتابعين.
تتابعت المواقف المنددة بتعنت النقابات الأمنية وتنوعت مصادرها، ففضلًا عن التنبيهات الصادرة عن بعض نواب السلطة التشريعية، نفذ القضاة يوم غضب بكامل المحاكم التونسية في مارس 2018، وذلك إثر "إقدام العشرات من العناصر الأمنية النقابية على محاصرة مقر المحكمة الابتدائية ببن عروس بسبب إحالة خمسة من زملائهم إلى التحقيق من أجل شبهة التعذيب".
جبهة المعارضين لمواقف النقابات الأمنية وبياناتها وتحركاتها ما انفكت تتسع لتشمل أطرافًا أخرى منها بعض الإعلاميين، فقد نعت الصحفي هيثم المكي بعض التجاوزات النقابية بـ"التبوريب"/الهمجية قائلًا: "من حقهم المطالبة بالعدالة الاجتماعية وتحسين وضعياتهم المادية، ولا يحقّ لهم التمرد و" التبوريب" وخرق القانون الذي يمنع عليهم الإضراب".
تواصلت خلافات النقابيين الأمنيين مع عناصر أخرى مشكلة للنسيج الاجتماعي والثقافي والسياسي لتشمل في أوت/أغسطس 2020 الفاضل موسى رئيس بلدية أريانة الذي انتقد تقصير بعض الأمنيين في مواجهة جائحة "كورونا"، فكان الرد سريعًا حازمًا من قبل النقابة الجهوية لقوات الأمن الداخلي (بولايتيْ منوبة وأريانة) تضمن تنديدًا بتصريحات موسي، وقد اعتبر البيان أنّ اتهامات رئيس البلدية "باطلة وتخدم توجهات سياسية لا غير".
وفي نفس السياق، ندد ائتلاف المجتمع المدني للدفاع عن مسار العدالة الانتقالية، الذي يضم منظمات وجمعيات منها الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وجمعية القضاة، في بيان في ماي/أيار 2019 بمناسبة مرور سنة على تركيز الدوائر القضائية المتخصصة، بـ"تنامي التهديدات العلنية الصادرة من قبل النقابات الأمنية بعدم تأمين قاعات الجلسات ودعوتهم لزملائهم من المنسوب إليهم الانتهاك لعدم الامتثال أمام الدوائر ولتجاهل قرارات الجلب الصادرة عنها".
شاهد/ي أيضًا: التعذيب في تونس بعد الثورة.. الكابوس لم ينته بعد
وما يمكن الانتهاء إليه من خلال هذا اللون من ألوان الاعتراض على أداء النقابات الأمنية هو الإجماع على وجود تجاوزات متفاوتة الخطورة، اللافت أن هذا الإجماع قد ألف بين أطراف متباعدة ومختلفة ومتباينة من يساريين وإسلاميين ومستقلين.
ولا يحتاج الباحث في هذه المسألة إلى تقليب النظر ليكتشف أن حداثة النقابات الأمنية قد يكون عاملًا مساهمًا في جعلها غير قادرة على حسن إدارة بعض خلافاتها من جهة وعاجزة على توسيع دائرة أنصارها والمساندين لها، لكن ألا يوحي تعدد الخصوم وتنوع مشاربهم السياسية والإيديولوجية أن النقابات الأمنية لا تراهن على المناورة والاصطفاف، وهو ما جعل نبال النقد والسخط تنهال عليها من كل صوب؟ ألا يوحي ذلك بأنها قد بدأت تتعافى من التوظيف متخذة مسافة واحدة من الجميع؟ ألا تشي عين الرضا أحيانًا من هذه الجهة أو تلك ببوادر اختراق؟ ألم تكن علاقات الوداد في الكثير من المحطات مطية إلى الفساد؟
من القصف المركز إلى الحلول التشريعية
الدرجة الثالثة من درجات التصدي للنقابات الأمنية تبدو أعمق وأخطر ويمكن نعتها بكونها منهجية مركزة تمثلت في تقصّي كلّ التجاوزات الصادرة عن الأمنيين منذ أول ظهور احتجاجي لهم بعد الثورة، كان ذلك يوم 22 جانفي/كانون الثاني 2011 أي بعد أسبوع تقريبًا من رحيل بن علي، فقد انطلقت مظاهرة من القصبة واتجهت إلى شارع بورقيبة رفع المشاركون فيها شعار "نقابة نقابة تحمينا من العصابة".
اعتمد المناوئون للنقابات الأمنية في هذا المقام أدلة مدعمة ووثائق رسمية محينة ومرتبة ومبوبة، وهو ما قام به عدد من الباحثين والإعلاميين والسياسيين منهم ماهر زيد النائب عن ائتلاف الكرامة، وقد أتاح له ذاك الجهد الاستقصائي تدوين كتاب، ونشره سنة 2017 واختار له عنوان "النقابات الأمنية والفساد الحقائق الممنوعة" ورغم ما في هذا الكتاب من مؤشرات دقيقة فقد عدّه الكثيرون قائمًا في جانب كبير منه على التحامل على المؤسسة الأمنية.
كتاب النائب عن ائتلاف الكرامة ماهر زيد بعنوان "النقابات الأمنية والفساد.. الحقائق الممنوعة"
الدرجة الرابعة من درجات التصدي للنقابات الأمنية اتخذت طابعًا تشريعيًا، بقيادة ائتلاف الكرامة، وذلك من خلال مبادرة تشريعية مقدّمة يوم 24 جويلية/تموز 2020، تتضمن الدعوة إلى تحجير خرق واجب التحفظ أو إفشاء معلومات أمنية ومنع إبداء رأي سياسي، وتقترح ومن الإجراءات الزجرية حل النقابات الأمنية التي لم تؤسس طبقًا للقانون أو التي تحيد عن دورها أو التي ثبت خرق مسيريها للسر المهني أو لواجب التحفظ أو إذا ثبت أنها مارست العنف أو الإقصاء.
بصرف النظر عن هذه التفاصيل القانونية المتصلة بمزيد تنظيم نشاط النقابات الأمنية والحدّ من بعض انفلاتاتها وفق تقدير أصحاب المشروع يمكن التأكيد من خلال هذه المبادرة التشريعية على نقطتين: الأولى تتمثل في نقل ائتلاف الكرامة صراعه مع النقابات الأمنية من ساحة الجدال الإعلامي والتظاهرات الميدانية إلى المقام التشريعي، وهو مؤشر قد يساهم في وضع حد للمناكفات التي بدأت منذ أشهر ووصلت ذروة التوتر من خلال إصرار سيف الدين مخلوف على إدخال شخص مشمول بإجراء "s17" إلى البرلمان. وقد اتهم سالم الأبيض في تلك المناسبة سيف الدين مخلوف بالاعتداء على الأمنيين وهرسلتهم. اتسعت دائرة التوتر، فكان رد فعل النقابات تنظيم مظاهرة تطالب برفع الحصانة عن سيف الدين مخلوف. فهل تساهم المبادرة التشريعية الجديدة في الحدّ من هذا التوتر ليعلو صوتا الحكمة والقانون بعد أن طالت التجاذبات والمزايدات والادعاءات؟
قدم ائتلاف الكرامة مبادرة تشريعية لتنظيم عمل النقابات الأمنية تحجّر على منخرطيها إفشاء معلومات أمنية أو إبداء رأي سياسي وتطرح حل النقابة في عدة صور منها خرق السر المهني وممارسة العنف
وتتصل النقطة الثانية بخصوص هذه المبادرة بالتوجه التعديلي للمبادرة التشريعية، وهو ما يعدّ أقلّ حدّة من المطالب الإقصائية الصادرة من هنا وهناك والمطالبة بحل النقابات الأمنية، فائتلاف الكرامة رغم خلافاته مع النقابيين لم يرفع سقف المعارضة إلى درجة المطالبة بإلغاء المرسوم 42 لسنة 2012 الذي أباح للأمنيين النشاط النقابي.
في خضمّ هذه الوضعيات المعقدة، يحق لنا التسليم بأنّ الخروقات والتجاوزات والانحرافات ظاهرة عامّة في تونس بعد الثورة في جلّ الميادين الإعلامية والفنية والسياسية والتربوية والنقابية، غير أنّ درجات الخوف من تلك الخروقات تشتدّ حسب مستويات الخطورة في هذا المجال أو ذاك، هذا ما يفسر القلق الذي ينتاب التونسيين عند معاينة خروقات تصدر عن النقابات الأمنية أو النقابات الصحية في حين يقل شعورهم بالحرج عند مشاهدة تجاوزات في مجالات تبدو لهم ناعمة كالمجال الثقافي والإعلاميّ مثلًا، فالخطأ هنا يمكن أن يجبر والزلة هناك قد لا تُبقي ولا تذر.
اقرأ/ي أيضًا:
السجون التونسية زمن الاستبداد.. مسرح للانتهاكات المهينة للذات البشرية