هي "فتاة القمر"، المتخفية عن الشمس في لباس خاص يغطي كامل جسدها، لكن صوتها وهي تتحدث ينسج خيوط نور من الأمل والسعادة ويبعث بموجات إيجابية مرتفعة، إنها لمياء الحكيم (29 سنة) واحدة من أطفال القمر أو المصابين بمرض جفاف الجلد المصطبغ (Xeroderma pigmentosum).
فتاة القمر لمياء الحكيم لـ"الترا تونس": منذ صغري لم أكن أدرك معنى مرضي، لكني كنت أعرف أنني لست كغيري من الأطفال فممنوع أن أخرج للشمس وأن ألعب معهم في حديقة الروضة
"عانيت الكثير، وواجهت عراقيل الخارج وهو المحيط الذي أعيش فيه، لكني أيضًا واجهت نفسي ودخلت معها في صراع مستمر، فمنذ صغري لم أكن أدرك معنى مرضي، لكني كنت أعرف أنني لست كغيري من الأطفال فممنوع أن أخرج للشمس وأن ألعب معهم في حديقة الروضة، وكانت هناك قواعد وتوصيات أنصاع لها لكني أعرف أنها خاصة بي فقط، إلى أن بدأت أدخل التعليم الابتدائي وأبحث دائمًا عما سأقوله للمعلمة وللتلاميذ" هكذا تحدثت لمياء الحكيم لـ"الترا تونس".
وأكرر السؤال لوالدي "ماذا أقول لمعلمتي وأصدقائي في القسم إذا سألوني لماذا أرتدي هكذا وأخفي وجهي؟ وكانت إجابته: قولي لهم إني أعاني حساسية من الشمس".
لقد كانت أقصى طموحاتي أن أجد إجابة لأقنع معلمتي وتلاميذ قسمي.. ومازلت أذكر تلك المعلمة التي رفضت إغلاق نوافذ قاعة الدرس، وصوت أبي وهو يردّد على مسمعي: "غادري القسم إذا بقيت النوافذ مفتوحة ولا تنزعجي". كما مازلت أذكر أيضًا عيون أترابي وهم ينظرون لي بخوف، فمرض أطفال القمر لم يكن معروفًا، حسب وصف لمياء الحكيم.
ولعلّ أعمق المواجهات وأصعبها، عرفتها فتاة القمر لمياء في سن المراهقة، فقد كانت الأنثى داخلها تصارع الفتاة المصابة بمرض يمنع ظهور جسدها، إذ كان المرض يعيق أن تلبس وأن تتزين وتتأنق كالأخريات، ويمنعها أيضًا من مشاركة بنات سنها في الرحلات.
اقرأ/ي أيضًا: فيلم "بنت القمرة".. عن نساء تحدين المرض وواجهن مجتمعًا لا يرحم
"كنت أجلس وحيدة في القسم.. كان التلاميذ يتجنبونني ويخرجون للساحة، وأظل بمفردي فأحاور نفسي وأختلي بها وأقول لها: اصنعي عالمك، ادرسي، أنت مميزة عن الجميع بمرض يمكنك التعايش معه، فماذا لو كان مرضك أخطر؟ كان والدي يشجعني لكنه يعطيني حرية الاختيار ويقول لي: "افعلي ما يريحك، لن أجبرك على فعل شيء لا تريدينه" فيما كانت أمي هي المسؤولة عن تفاصيلي كلها بما فيها التنقل.
وتواصل محدثتنا قولها: "كنت أخطط لحياتي بأهداف على المدى القصير، فمثلًا اجتزت المرحلة الابتدائية وكنت أريد فقط أن أجتاز الإعدادية. لكني قررت بعدها أن أكمل فأتحصل على البكالوريا وفعلتها ونجحت، واستطعت أن أدخل كلية العلوم بتونس كطالبة.. هناك بدأت رحلة أخرى أمام مئات الطلبة، حيث كنت تلك الغريبة في مدارج الجامعة، بل وربما الوحيدة التي يعرفها الجميع وينادونها بـ"تلك التي تلبس..".
فتاة القمر لمياء الحكيم لـ"الترا تونس": قررت الحصول على الماجستير، ففعلتها.. وقدمت للدكتوراه التي سأناقشها قريبًا.. اخترت علم الوراثة لأواجه مرضي وأفهمه وأغوص فيه
كانت لمياء الحكيم تدخل مرحلة النضج يومًا بعد يوم، وقد قررت في إحدى المرات التي تتناول فيها الغداء بمفردها في إحدى مدارج الجامعة، أن تخصص كل وقتها وجهدها للدراسة والنجاح وأن تصنع عالمًا مميزًا لفتاة القمر، فتجعل من ظروفها الصحية سببًا لسعادتها.
"كنت أخصص كل الوقت للدراسة في الجامعة ومن حسن حظي وجدت مقهى تتوفر فيه شروط حمايتي من الشمس كنت أجلس في ركنه أدرس وأتحاور مع نفسي. وحين كانت عائلتي (أمي وأبي وأختي) تغادر إلى البحر أو لقضاء شؤونها، كنت أغتنم الفرصة في البيت لوحدي فأستمع للأغاني وأرقص وأغني وأستمتع بغيابهم الذي لم يعد يزعجني".
وأضافت الحكيم لـ"الترا تونس": "نجحت وقررت الحصول على الماجستير، ففعلتها. وقدمت للدكتوراه التي سأناقشها قريبًا.. اخترت علم الوراثة لأواجه مرضي وأفهمه وأغوص في هذا المرض الوراثي الذي يبلغ عدد المصابين به في تونس نسبة 14% من عدد مصابي العالم البالغ تقريبًا 7 آلاف حالة" على حد قولها.
اقرأ/ي أيضًا: حكاية طفل القمر.. أحلام "خلود" في كسر القيود
"وأثناء هذه الرحلة أيقنت أن الله كريم وأنه يأخذ منك شيئًا ليعطيك أشياء.. فقط ثق بالله وهو سيمنحك بسخاء ويعوضك فترضى، لم أعترض يومًا على مرضي والله منحني القوة والصبر والانتصار على نفسي وحققت ما أريد" تقول محدّثتنا.
وتتابع فتاة القمر: "الله هو الذي أخرجني من الظلمات إلى النور فلم أبق حبيسة الغرف المغلقة المظلمة ولم أستسلم، وهو من منّ عليّ بكل شي حتى بما اعتقدت أنه مستحيل كالزواج مثلًا وتكوين أسرة، فقد رزقني الله بزوج أحبني ولم يهتم بمرضي بل عشق روحي وقبل بي وبظروفي.. وحينما تقدم لخطبتي اشترط والدي أن تأتي والدته وأن تراني وأن توافق على ارتباط ابنها بي".
فتاة القمر لمياء الحكيم لـ"الترا تونس": أدعو كل أطفال القمر إلى أن يحققوا أحلامهم وأن يعيشوا حياتهم ويقبلوا عليها ويحبوها، خاصة وأن المجتمع قد بدأ يفهم هذا المرض ويتقبل المصابين به
"وهذا ما حدث" تقول لمياء ضاحكة: "قدمت والدته وكانت راقية في كلامها وقالت من حسن حظ ابني أن يتزوج بفتاة مميزة وباركت هذا الزواج وها أنا أعيش منذ أشهر في بيتي كما أعمل مدرسة لغة فرنسية بإحدى المدارس الخاصة وبصدد إكمال رسالة الدكتوراة".
ودعت الحكيم في ختام كلامها كل أطفال القمر أن يعيشوا حياتهم ويقبلوا عليها ويحبوها، وألا يخجلوا من التصبغات في أجسادهم، وقالت: "أدعوهم إلى تحقيق أحلامهم فلا شيء يقف أمام إرادتهم، خاصة وأن المجتمع قد بدأ يفهم هذا المرض ويتقبل المصابين به".