12-مارس-2018

الاغتصاب جريمة قاسية دائمًا ما تترك آثارًا لا يمحوها الزّمن (getty)

 

لا تجرؤ إلا قلّة ممّن تعرّضوا للاغتصاب على الحديث عن ذاك الأثر الموجع الذي لا يُمحى أو يُنسى رغم مرور الزمن، ولا سيما منهم الفتيات اللاتي يتحملن عقاب ذنب لم يقترفنه. ورغم أن أغلب قضايا الاغتصاب اهتمام الرّأي العام في تونس، غير أنها تُنسى مع مرور الوقت، ولكنّ لا يمكن للضحايا نسيان قصصهم، إذ تظلّ الآثار باقية لما لها من وقع مؤلم في النفس، وفي الحياة الشخصية والاجتماعية. لا سيما وأنّ المجتمع العربي مجتمع ذكوري يدين الضحية خاصّة الفتاة ​التي قد تفضّل السكوت لتعيش معاناتها بمفردها.

لا يمكن لضحايا الاغتصاب نسيان قصصهم، إذ تظلّ الآثار باقية لما لها من وقع مؤلم في النفس، وفي الحياة الشخصية والاجتماعية

 

  • "لم أستطع مصارحة أهلي"

في الوقت الذي تتواتر فيها باستمرار الأخبار عن اغتصاب طفل أو طفلة في الوسط المدرسي أو في المحيط العائلي، لا يزال يتذكّر بعض ضحايا الاغتصاب ما حلّ بهم قبل سنوات في تجربة قاسية لا تزال ماثلة في أذهانهم. التقى "ألترا تونس" بضحية اغتصاب وهي عائشة التي حدّثتنا قائلة: "كنت طفلة أبلغ من العمر 12 سنة، تركتني والدتي في بيت أحد الجيران حتى تستطيع الذهاب إلى المستشفى، لكن في ذلك اليوم اغتصبني ابن الجيران الذي كان يكبرني بست سنوات".

تضيف عائشة: "أصبحت منذ ذاك الوقت انطوائية لا أتحدث إلا نادرًا، كثيرة التوتر وأفقد السيطرة على أعصابي، خاصّة وأنني لم أستطع مصارحة أهلي بذلك. ولم أستطع حتى مواصلة الدراسة".

تبلغ عائشة اليوم 35 سنة لكنّها لم تتزوّج، فهي لا تفكر يومًا في الارتباط، ذلك أن رابط الزواج يذكّرها كما حدّثتنا بحادثة الاغتصاب. ولا تزال عائشة "خائفة من أن يفتضح أمرها" كما تقول، ولم تفكر حتّى في العلاج عند مختصّين نفسانيين علّها تتجاوز خوفها وعقدتها من حادثة لم تُمح من ذهنها.

  • حينما يغتصب العمّ!

وفق أغلب الدراسات والإحصائيات، فإنّ نسبة هامّة من حالات اغتصاب الأطفال يكون فيها المعتدي أو المغتصِبُ أحد أفراد الأسرة، وحياة التي التقيناها هي إحدى ضحايا هذا النّوع من الاغتصاب، حيث واقعها أصغر أعمامها دون رضاها حينما كانت تبلغ 14 سنة. وقد أدى تكرار حادثة الاغتصاب أكثر من مرّة إلى إخبار عائلتها بالأمر، ذلك أن تكرار الجريمة عديد المرّات ولّد لديها شعورًا بالعجز.

وفق أغلب الدراسات والإحصائيات، فإنّ نسبة هامّة من حالات اغتصاب الأطفال يكون فيها المعتدي أو المغتصِبُ أحد أفراد الأسرة

تقول حياة مسترجعة تلك الأيّام: "تركنا بيت الجدّ لنعيش بمفردنا أنا وعائلتي لكنّني أصبحت أعامل معاملة سيئة من والدي، وكأنّه يحملني ذنبًا لست من اقترفه، حيث أخرجني من الدراسة، لأبقى حبيسة المنزل لا أخرج إلا رفقة أمّي. ولا يسمح لي حتى بمقابلة الجيران أو من يزورنا"، وتضيف حياة في حسرة "فقد بتّ وصمة عار".

وللآن رغم مرور عشرين سنة، لا يزال وقع الحادثة على حياة كما هو، كما لازال الحديث عنها مؤلم جدًّا كما تؤكد في حديثها لـ"ألترا تونس". إذ تقول حول آثار الاغتصاب: "كنت أعيش طيلة تلك السنوات وأنا أحمل عبء عار لم أذنب فيه. اضطررت إلى ترك بيت العائلة والانتقال للعيش في العاصمة والعمل، وتوقعت أنّ تغيير المدينة والناس قد ينسيني ما مررت به، كما توقعت أنّ الحب والارتباط قد يعالج ألم الماضي وذلك حتى اقتنعت أنّ العلاج النفسي هو أهمّ من كلّ تغيير قد يحدث لي".

حيث خضعت حياة للعلاج النفسي طيلة سنة كاملة لتتجاوز ما كانت تشعر به من خوف تجاه الآخر، وفعلًا استطاعت تجاوز أزمتها، حيث لم تعد انطوائية أو عدائية تجاه الرّجال كما تقول، وإن انتهت تجربة زواجها بالطلاق. وفي هذا الجانب، تقول حياة: "ما آلمني أكثر خلال الخمس سنوات الأخيرة في زواجي هو معاملة زوجي الذي لم يكن يتوانى في كلّ لحظة خلاف بيننا عن مسّبتي ومعايرتي بما هو ليس ذنبي. ويشعرني بأنّه لولا زواجه بي لافتضح أمري أو كنت من العاهرات". تضيف حياة "هي إهانات لم يكن بوسعي التخلص منها إلا بالطّلاق".

 

  • قهر اغتصاب الذكر

تعرف تونس سنويًا مئات حالات الاغتصاب التي تخلّف ضحايا من الجنسين على حدّ السّواء، ذلك أنّ الحديث عن الاغتصاب وتأثيراته لا يتعلّق بالإناث فقط، بل ينسحب كذلك على الذكور وتحديدًا الأطفال الذين عاشوا ولازالوا يعيشون وجع الاعتداء. وإن كان صعبًا على فتاة أن تروى تفاصيل الحادثة، فالأمر يبدو أكثر صعوبة على الذكور.

ترجع تفاصيل الواقعة التي تعرّض لها محدّثنا أشرف (اسم مستعار) حينما كان طفلاً يبلغ من العمر 10 سنوات، حيث يقول: "تمّ اغتصابي مرّتين وفي مناسبتين مختلفتين من قبل أحد الجيران الذي كان يكبرني بثماني سنوات. أذكر أنّه انتابتني حالة من الذهول والصدمة، ولم أعد أستطيع التكلم مع أحد أو أن أبوح لأيّ كان بما حصل. ما كان يؤلمني هو التقائي بهذا الشخص إلى حدّ هذه اليوم".

إن كان صعبًا على فتاة أن تروي تفاصيل حادثة الاغتصاب، فالأمر يبدو أكثر صعوبة على الذكور 

ويضيف أشرف في حديثه لـ"ألترا تونس": "كنت كلّما نظر إليّ شخص ما أشعر وكأنّه يعلم بالحادثة فأتجنب النظر في عيون الناس. وأذكر أنني كنت أقف ساعات أنظر إلى جسدي في المرآة، وأتساءل لما أنا بالذات من اغتصبني؟ كرهت هذا الجسد الذي يحملني وكرهت كل الذكور حتى أنّ أغلب صداقاتي كانت مع فتيات. وكرهت الحيّ الذي أعيش فيه، كيف لا وأنا أقابل من اغتصبني الذي لا يتوانى عن مضايقتي كلّما التقى بي؟".

ولكن قرّر أشرف تحدّي تجربته، حيث قرّر، حينما بلغ من العمر 28 سنة، الذهاب إلى طبيب نفسي للعلاج. ويقول: "إنّ الأمر بدا صعبًا في البداية، ولم أستطع حتى مواجهة الطبيب والحديث عما حصل لي، ولكن استطعت اليوم تجاوز خوفي من نظرات الناس وتجاوز الحادثة لكن كلّما سمعت عن أخبار تتعلق باغتصاب أحد الأطفال إلا وتكرر المشهد أمامي".

ينهي أشرف حديثه معنا وهو يقول :"أيقنت حينها أنّ الحادثة لن تمحى من ذهني ولن يمحى وقعها أيضًا. ولكّنني بت مقتنعًا أيضًا أنّه لو خضعت إلى علاج نفسي منذ وقوع الحادثة لما كان تأثيرها كبيرًا".

  • الاغتصاب على مشرحة علم النّفس

يؤكد المختصّ في علم النفس رضا بن يوسف أنّ ظاهرة الاغتصاب في تونس ليست بالظّاهرة الجديدة في المجتمع، حيث إن كانت تستهدف بدرجة أولى الأطفال فإنّ تأثيراتها تبقى لسنوات إذا لم يُعرض الطفل الضحية على مختصين لتلقي العلاج. ويضيف في حواره معنا: "يؤدي الاغتصاب لدى الضحية إلى رغبة في الانتقام خاصّة عندما يكبر، أو إلى نوع من العنف تجاه الآخر. وإن لم تتولّد لديه ردود أفعال عنيفة، فإنّه يميل إلى العزلة والتوحد ولا يكون اجتماعيًا".

على صعيد آخر، أشار محدّثنا إلى أنّ الاغتصاب يؤثر على الفتيات خلال وقوع الحادثة وتبقى تأثيراتها حتى عندما تكبر، حيث تكره غالبًا الضحية الزواج وتشعر بالنفور تجاه الرجال. أمّا من يتزوّجن منهنّ، تُعاد إلى أذهان بعضهنّ حادثة الاغتصاب وتلك اللحظة الصادمة حيث تصبح انطوائية، وغالبًا لا تنجح في التقرّب إلى الزوج ولا تعيش حياة زوجية سليمة، ولا يمكنها التعامل مع الزوج أو الشريك بطريقة طبيعية. في المقابل، يميل الذكور إلى تغير في السلوك الجنسي، على النّحو الذي صرّح به محدّثنا.

يؤثر الاغتصاب على الفتيات خلال وقوع الحادثة وتبقى تأثيراتها حتى عندما تكبر، حيث تكره غالبًا الضحية الزواج وتشعر بالنفور تجاه الرجال

كما يضيف بن يوسف إلى أنّ أغلب ضحايا الاغتصاب في تونس لا يتم التفطن لهم بسبب الكتمان مخافة العقاب من العائلة، أو بسبب التعرّض إلى التهديد من قبل المغتصب، وهو ما يصعب عملية العلاج. لا سيما وأنّ الإحاطة النفسية للضحية لا بد أن تنطلق منذ وقوع الحادثة حتى لا تبقى تلك العقدة مرافقة له وتزداد تعمقًا مع مرور الزّمن، وذلك وفق ما أكّده لنا محدّثنا.