12-يوليو-2023
أفارقة جنوب الصحراء

عمليًا نحن إزاء ظروف موضوعية تدفع نحو تشكل واقع لمخيمات لاجئين في المناطق الحدودية (صورة حسام الزواري/أ.ف.ب)

مقال رأي 

 

لا تزال "مذكرة التفاهم" الأوروبية التونسية في خصوص الهجرة غير النظامية تنتظر المصادقة من الجانبين. من غير الواضح ما الذي يمنع ذلك خاصة أن الجانبين أعلنا في بلاغ مشترك إثر زيارة الوفد الأوروبي رفيع المستوى إلى تونس ولقاء الرئيس قيس سعيّد يوم 10 جوان/يونيو الماضي أنه سيتم إعلان المذكرة آخر شهر جوان.

من غير الواضح بالتحديد نقاط الخلاف التي عطلت مذكرة التفاهم التونسية الأوروبية، لكن تصريحات سعيّد وإصراره على أننا إزاء "مؤامرة استعمارية" وتكرار رفض دور "شرطي الحدود"، قد يحيل إلى وجود رفض تونسي لعرض أوروبي ما

في المقابل، يواصل الرئيس رسائله إلى الجانب الأوروبي بشكل يومي تقريبًا، بنبرة تصعيدية عمومًا تتحدث عن "الدوائر الاستعمارية" والرفض المتكرر أن تكون تونس "شرطة حدود"، لكن  بمعزل عن المستوى السياسي والمبادئ العامة التي يمكن أن تتضمنها المذكرة والرسائل السياسية المتبادلة بين الطرفين، كأننا إزاء واقع موضوعي بصدد التشكل، ربما سيكون أساس الوضع الجديد، ومن ثمة الاتفاق الحقيقي بين الجانبين. 

كانت وكالة "نوفا" الإيطالية قد نقلت يوم 11 جويلية/يوليو الجاري عن وزير الخارجية الإيطالي قوله في حديث تلفزيوني: "إذا كان هناك خطر من إلغاء الاتفاق بين الاتحاد الأوروبي وتونس بشأن المهاجرين، ينبغي أن نسأل أطراف المفاوضات، لكنني لا أعتقد ذلك. أعلم أن هناك تمنيات طيبة متقاربة من جانب رئيس تونس (قيس سعيّد) ورئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين. أعتقد أن هناك شروط". 

نتحدث هنا إذًا عن ان تأخر الاتفاق حول مذكرة التفاهم والذي يمكن أن يصل حد إلغائها، وأن هناك صعوبات جدية في الموضوع. الجانب الإيطالي يسعى عمومًا إلى تذليل الصعوبات والتقليل من أي إشكالات في خصوص العلاقة مع الطرف التونسي، وإذا كان وزير الخارجية الإيطالي نفسه يتحدث عن احتمال الإلغاء فنحن إزاء احتمال جدي. 

رئيس الوزراء الهولندي الذي كان أحد الأطراف الرئيسية في الزيارة الأخيرة ومن ثمة أحد صناع القرار في السياسة العمومية الأوروبية في خصوص الهجرة غير النظامية، يواجه انهيار تحالفه الحكومي بسبب موقفه في خصوص الاتفاق الأوروبي الأخير

يجب التذكير أيضًا أن رئيس الوزراء الهولندي الذي كان أحد الأطراف الرئيسية في الزيارة الأخيرة ومن ثمة أحد صناع القرار في السياسة العمومية الأوروبية في خصوص الهجرة غير النظامية، يواجه انهيار تحالفه الحكومي ومن ثمة انتخابات مبكرة بالذات بسبب موقفه في خصوص الاتفاق الأوروبي الأخير (New Pact on Migration and Asylum) يوم 9 جوان/يونيو الماضي، والذي بدا لحلفائه على اليسار كانسياق وراء التصور اليميني خاصة توجه الحكومة الإيطالية. 

من غير الواضح بالتحديد نقاط الخلاف بين الطرفين، لكن تصريحات الرئيس التونسي قيس سعيّد وإصراره على أننا إزاء "مؤامرة استعمارية" وتكرار رفض دور "شرطي الحدود"، قد يحيل إلى وجود رفض تونسي لعرض أوروبي ما على الأرجح.

لكن رغم الغموض المحيط بمصير مذكرة التفاهم، من الصعب أ لا نرى الرابط بين مضمون الاتفاق الأوروبي الأخير خاصة الجزء المتعلق بالسماح لكل دولة أوروبية على حدة، اعتماد معاييرها الخاصة في تعريف "البلد الآمن الثالث" (safe third country) بشكل تعويمي حسب الانتقادات الحقوقية، وهو ما دفع البعض لتأويل الاتفاق بأنه يمكن أن يذهب لاعتبار تونس ضمن هذا التعريف خاصة بالنسبة للطرفين الإيطالي والفرنسي.

هذا يمكن أن يعني عمليًا أن ما تم الاتفاق عليه هو أن تكون تونس قبلة ترحيل المهاجرين غير النظاميين من أوروبا، ومن ثمة دراسة طلبات اللجوء في تونس. بما يعني تزايد عدد الأفارقة جنوب الصحراء في تونس، وربما تنظيم وجودهم في شكل مخيّمات خاصة. من المرجح أن الرئيس قيس سعيّد يرفض تحديدًا هذه النقطة في المفاوضات الحالية.

من المرجح أن يكون سبب تعطل "اتفاق التفاهم" مع الجانب الأوروبي هو إمكانية اعتبار تونس "بلدًا آمنًا ثالثًا" مما يعني أن تكون تونس قبلة ترحيل المهاجرين غير النظاميين من أوروبا، ومن ثمة دراسة طلبات اللجوء في تونس بما يعني تزايد عدد الأفارقة جنوب الصحراء في البلد وتنظيم وجودهم

وقد أعلن رئيس المفوضية السامية للاجئين في حوار مع جريدة Frankfurter allgemeine منذ أيام أن "هناك عرض لتونس لإيواء المهاجرين الذين خرجوا من أراضيها وأقامو لمدة معينة فيها، وهذا تسمح به القوانين الدولية مع شرط إثبات إقامتهم في تونس وتوفر الحماية لهم"، وهذا العرض، حسب رأيه، "غير عادل وغير منطقي وسيسبب مشاكل لتونس ويمكن لتونس أن ترفضه وتتساءل عن بقية الدول التي مروا بها حتى وصلوا للأراضي التونسية". 

لكن بمعزل عن هذا السجال السياسي وكواليس الغرف المغلقة، فإن واقعًا عمليًا بصدد التشكل. يجب البدء هنا بقوافل عديد المهاجرين غير النظاميين التي تكاثرت في الشهرين الأخيرين في تونس، وهم يعبرون الحدود من الجزائر وليبيا دون رقابة واضحة، ويقومون بقطع مئات الكيلومترات نحو مدينة صفاقس دون تدخل الأجهزة الحاملة للسلاح والمنتشرة بكثافة خاصة في جهات في مناطق الوسط والجنوب الحدودية والمصنفة في أجزاء منها أصلًا بأنها منطقة عسكرية، وعادة تتدخل حتى لمنع نقل الخواص بعض البضائع التي يمكن أن تكون مهربة للاستعمال الشخصي في بعض الأحيان وليس حتى للتجارة.

فكيف لا تُرى أعداد كبيرة من المهاجرين غير النظاميين عبر ولايات مدنين والقصرين وسيدي بوزيد متجهين نحو مدينة صفاقس؟ طرح ذلك احتمال أن يكون هناك قرار سياسي يسمح بذلك للضغط على الجانب الأوروبي. لكن وجود هذه الأعداد الكبيرة غير المسبوقة في صفاقس أدى إلى انفلات تدريجي للوضع خاصة مع قدوم أعداد كبيرة من دول مثل السودان إثر اندلاع الحرب الأهلية الأخيرة، لم تكن موجودة بهذه النسب سابقًا.

كيف لا تُرى أعداد كبيرة من المهاجرين غير النظاميين عبر ولايات مدنين والقصرين وسيدي بوزيد متجهين نحو مدينة صفاقس؟ طرح ذلك احتمال أن يكون هناك قرار سياسي يسمح بذلك للضغط على الجانب الأوروبي

تشابك ذلك مع وجود شبكات إجرامية من أفارقة جنوب الصحراء منخرطة في الهجرة غير النظامية مثلما أعلن الحرس الوطني التونسي يوم 11 جويلية/يوليو الجاري من خلال انخراطها في تصنيع المراكب الحديدية، والذي لم يبق حكرًا على الشبكات الإجرامية التونسية، مما يزيد في نسب توتر الأوضاع. 

أدى ذلك عمليًا إلى ترحيل سريع وربما حتى عشوائي لعديد المهاجرين غير النظاميين إلى خارج ولاية صفاقس لتجنب مزيد انفلات الوضع، وبعضهم توجه قسرًا أو بشكل طوعي نحو المناطق الحدودية. في المقابل تغلق كل من الجزائر وليبيا المنافذ الحدودية أمامهم رغم أنها غضت الطرف عليهم عندما اتجهوا إلى الأراضي التونسية.

نحن عمليًا أمام مأزق تونسي حيث يوجد عديد المهاجرين محاصرين داخل تونس وقرب الحدود ومن بينهم أطفال ونساء في ظروف قاسية خاصة في المناخ الحار حاليًا. يجب أن نتوقع صدور دعوات وضغوطات من أجل أن تعتني تونس بهم بشكل إنساني، ومن المفارقات تصريح مدير أمن الحدود الليبي اللواء عبد السلام العمراني إلى موقع الجزيرة "والذي رفض فيه بوضوح عبورهم إلى الجانب الليبي لكن دعا السلطات التونسية لتقديم المساعدة الإنسانية لهم". 

عمليًا نحن إزاء ظروف موضوعية تدفع نحو تشكل واقع لمخيمات لاجئين في المناطق الحدودية، مشابهة لمخيّم الشوشة.. هل يتفوّق الواقع، نشأة المخيمات، على مسار المفاوضات، ويفرض نسقه عليها، بإحداث مخيمات لاجئين في إطار اتفاق ثنائي أوروبي تونسي؟ 

عمليًا نحن إزاء ظروف موضوعية تدفع نحو تشكل واقع لمخيمات لاجئين في المناطق الحدودية، مشابهة لمخيّم الشوشة. للتذكير حرصت الدولة التونسية على إغلاق المخيّم بعد سنوات قليلة من إنشائه إثر نشوب الثورتين التونسية والليبية. فهل يتفوّق الواقع، نشأة المخيمات، على مسار المفاوضات، ويفرض نسقه عليها، بإحداث مخيمات لاجئين في إطار اتفاق ثنائي أوروبي تونسي؟ 

في كل الحالات، أثبت قيس سعيّد عبر مسار السنتين الأخيرتين أنه شديد الحساسية في ملف العلاقات الدولية على عدم الظهور في مظهر من تخلى عن مبادئ أعلن عنها بشكل واضح سابقًا، حتى إن أدى الأمر إلى تعطل أي اتفاقيات وربما تعفن الوضع في الداخل. ومسار المفاوضات مع صندوق النقد الدولي مثال واضح على ذلك. وهذا يمكن أن يؤدي إلى وضع توجد فيه مخيمات بشكل عشوائي ودون إقرار رسمي، مع استمرار تعطل الاتفاق مع الجانب الأوروبي. 

 

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"