مقال رأي
في تونس، يُطرح السؤال حول مستقبل حكومة الائتلاف الرباعي الحاكم بقوّة في الفترة الأخيرة خاصة مع بروز مطلب التعديل الوزاري من داخل الائتلاف الحاكم نفسه. كما تجددت الأسئلة إثر استقالة أحد أعضاء الحكومة وإعفاء آخر في ظروف أقلّ ما يمكن أن يقال عنها إنّها محفوفة بالعديد من الأسئلة المبهمة والألغاز، التي سيصعب حلّها على المدى القريب، لا لدرجة التكتّم فحسب، بل لطبيعة المشهد العام في البلاد الذي لا يظهر سوى الهوامش من حقيقة ما يحدث.
شقّ واسع داخل حزب الأغلبية في البرلمان نداء تونس رفع مطلب التحوير الوزاري بشكل واضح قبل نحو شهر من الآن بل حدّد حتّى الأسماء التي يطالب بتغييرها. كما أن شقًا داخل الحزب ساند استقالة الوزير لدى رئيس الحكومة المكلّف بالعلاقات مع مجلس نواب الشعب لزهر العكرمي وكان أمين عام حزب نداء تونس محسن مرزوق قد صرح منذ فترة أن "التعديل الوزاري أصبح ضرورة".
أمّا داخل الحزب الثاني في الائتلاف الحكومي، حركة النهضة، فإنّ مطلب إبعاد وزير الشؤون الدينيّة عثمان بطيخ بسبب بعض القرارات التي تتعلق بإغلاق بعض المساجد وعزل الأئمّة بات لا رجعة عنه، رغم أنّ الخطاب المعلن يعتبره معطّلًا للعمل الحكومي لا غير. وفي الأثناء تسببت التعيينات الأخيرة في سلك المسؤولين الجهويين والمحلّيين في أزمة مع حزب الإتحاد الوطني الحرّ الذي اعتبرت كتلته البرلمانيّة أن الحكومة قد همّشت مقترحاته لبعض المناصب.
إقالة وزير العدل محمد الصالح بن عيسى هي نتيجة حتميّة لتناقضات واختلافات في الرؤى والتصوّرات داخل الحكومة
وبينما يهتم الشارع التونسي بشكل خاص بمآلات الصراع الداخلي بين قيادات حزب نداء تونس، التي وصلت حدّ التخوين والاتهام باستغلال النفوذ وبالإعداد لانقلابات، أعلنت رئاسة الحكومة بشكل مفاجئ يوم الثلاثاء 20 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري قرار إعفاء وزير العدل محمد الصالح بن عيسى من مهامه وتكليف وزير الدفاع بتولي مهام تسيير الوزارة إلى حين تعويضه بشخصيّة أخرى، وقد أثار القرار قراءات مختلفة.
يجب القول أوّلًا أن الوزير المعني بالإعفاء هو أحد الأكاديميين المرموقين في القانون الإداري والعميد السابق لكلية العلوم القانونية، وهي إحدى الجامعات التونسيّة التي يحسب عليها تيّار من الجامعيين المرتبطين ارتباطًا وثيقًا بالتيار الفرنكوفوني، وهو كذلك أحد رموز الحزب الشيوعي التونسي سابقًا. ولا يقترن إسم محمد الصالح بن عيسى بالحكومة الحاليّة، فقد سبق أن تولّى منصبًا في حكومة الباجي قائد السبسي سنة 2011 وطُرح اسمه في شهر ديسمبر/كانون الأول 2013 من طرف حزب "المسار الاجتماعي الديمقراطي" كمرشّح لترؤس حكومة التكنوقراط ولم يحظى بثقة الفرقاء السياسيين الحاضرين آنذاك.
وظهر بن عيسى في موقف متناقض مؤخرًا مع رئيس الجمهوريّة الباجي قائد السبسي وأغلب أحزاب الائتلاف الحكومي فيما يتعلّق بالفصل 230 الذي ينصّ على تجريم المثلية الجنسية، إذ يساند الوزير مطلب تغييره. كما صرّح بن عيسى في جلسة استماع له أمام لجنة الحقوق والحريّات بمجلس نواب الشعب أنّه يتعرض لضغوطات من السفير الأمريكي في تونس دون أن يحدّد طبيعتها، غير أنّه برّر إعفاءه برفضه المشاركة في جلسة عامّة برلمانيّة تتعلّق بالنقاش والتصويت على قانون المجلس الأعلى للقضاء الذي أعلن هو نفسه سابقًا أنّه يعارض صيغته الحالية.
على عكس استقالة لزهر العكرمي التي كانت منتظرة وتمت برمجتها ليتفرغ العكرمي لمهام أخرى مرتبطة أساسًا بمستقبل شقّ برمّته داخل نداء تونس، بعد مؤتمره الوطني القادم، فإنّ إقالة وزير العدل محمد الصالح بن عيسى هي نتيجة حتميّة لتناقضات واختلافات في الرؤى والتصوّرات داخل الحكومة. وكانت كلّ المؤشرات عند تشكل هذه الحكومة تؤكّد أنها لن تعمّر طويلًا أو أنّها ستشهد تعديلاً ملحوظًا وقد بات من شبه المؤكّد اليوم أنّ التعديل قادم لا محالة ولكن الأرجح أن يكون بعد مؤتمر نداء تونس أيّ أنّه سيكون تكريسًا لمبدأ التوافق بين مكوّنات ما سيتبقى من سند سياسي للائتلاف، والذي من المتوقع أن تشهد الأيام القادمة معارضة له من داخله. وقد تتحول إلى معارضة من خارج الائتلاف حسب تطورات الصراع داخل نداء تونس. ويصبّ كل هذا في صالح حركة النهضة التي ستكون بدون أدنى شكّ ممثلة بشكل أوسع في الحكومة القادمة وبما يتماشى وحجمها السياسي.
من المتوقع أن يكون التعديل الوزاري بعد انعقاد مؤتمر نداء تونس
بشكل أكثر دقّة، كان موضوع استمرار عمل الفريق الحكومي للحبيب الصيد منذ تشكيله مرتبطًا أساسًا بتطوّرات المشهد وتشكّله على إثر انتخابات أواخر سنة 2014 وبمآلات التناقضات داخل حزب نداء تونس التي طمسها هاجس الفوز بالانتخابات إلى جانب المعطى الدولي والإقليمي في المنطقة. وتبدو السياقات اليوم ملائمة للإعلان عن التشكيلة الحكوميّة الحقيقيّة العاكسة فعليّا لا فقط للأحجام السياسيّة والانتخابية لمكونات الائتلاف الحكومي بل ولخيار "التوافق" الذي وضع كلّ الفرقاء أمام حتميّة إدارة الإختلاف بالحوار والتشارك في الحكم.
ثمة معطيات كثيرة قد تغيّرت في المشهد قياسًا بما كان عليه الأمر في السنوات الفارطة وحتّى إثر انتخابات أواخر سنة 2014 فالأوضاع الإقليميّة والدوليّة تتجه نحو دعم ما يسمّى بـ"التجربة التونسيّة" لا لأنّها "نموذجيّة" أو لأنّها "ناجحة" فهذه مجرّد شعارات لا غير بل لأنّ هناك حاجة للتخلّص من بؤر التوتّر "المقلقة". أمّا داخليًا فقد بدت بعض الأمور والتوافقات تتضح وإن كان بعضها هشًّا جدًا. ويسيطر القلق على الكثيرين لافتقاد المشهد السياسي في تونس إلى معارضة قويّة وفاعلة، تمتلك قاعدة شعبيّة قادرة على التأثير.
كما تتجدد الأسئلة عن مدى قدرة التحوير الوزاري المرتقب تحقيق الحدّ الأدنى على الأقل من الانتظارات الشعبيّة الكبيرة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، فـ"التوافق" على رأس السلطة ومعارك "اللوبيّات" قد تفرز من جديد مشهدًا سياسيًا معزولًا عن الواقع الشعبي ويبقى هاجس الانتفاضة مجددًا قائمًا في كل لحظة.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"