30-يناير-2024
نزل سان جورج بتونس.. ذاكرة مزدحمة يطغى عليها النسيان

نزل "سان جورج" كان فندقًا ذائع الصيت في الثلاثينات وشهد عدة أحداث ثقافية وسياسية هامة (فيسبوك)

 

إنها ليلة 21 فيفري/شباط 1930. كانت أضواء شارع "ألفريد أوكران كلاي" بحي "لافيات" بالعاصمة تونس غارقة في ضباب الفجر النديّ عندما حثّ الصائغي المعروف "إلياهو ميموني" الخطى في اتجاه فندق "سان جورج" بعد أن سكب البنزين في شقة حبيبته المطربة الشهيرة "حبيبة مسيكة". لقد كان يمشي وصدى أنفاسه تلف الفضاء الصامت. "إلياهو" العاشق كان في حالة أثيرية ليست زمنية أو أبدية، يلتفت خلفه في كل مرة وقلبه في أعماقه يشير إلى شيء ما كان يملكه وفقده إلى الأبد.

تم بناء نزل الـ"سان جورج" بين 1919 و1921 وكان فندقًا ذائع الصيت في الثلاثينات ولا يقل فخامة ورونقًا وجمالًا عن فنادق أخرى 

دخل فندق "سان جورج" مسرعًا لكنّ عون الاستقبال لاحظ ارتباكه وعلامات السكر بادية عليه، فتبعه بهدوء ليتفطن إلى أنه كان يحاول الانتحار شنقًا، وقد تم إنقاذه بأعجوبة. وفي صبيحة اليوم ذاته، شاع خبر موت "حبيبة الكل" بسبب حريق اندلع في شقتها.

هذه الحادثة التي هزت المجتمع التونسي أواسط النصف الأول من القرن العشرين وكتبت حولها صحف تونسية وعالمية، كان فندق "سان جورج" شاهدًا على فصولها لأن الأبحاث الأمنية التي أجريت في ذلك الوقت أكدت أن "إلياهو ميموني" الذي تنقل من مدينة "تستور" شمال غرب البلاد، قد خطط للانتقام وحرق حبيبته التي خانته من داخل هذا المكان الذي كان يسكنه كلما قدم للحاضرة (العاصمة).

الـ"سان جورج" كان فندقًا ذائع الصيت في الثلاثينات ولا يقل فخامة ورونقًا وجمالًا عن فندق "الماجستيك" بشارع باريس أو فندق بريطانيا بنهج اليونان القريب من المسرح البلدي.

 

نزل سان جورج
يبدو ظاهر  نزل الـ"سان جورج" متقشف الجمال، لكنه يخبئ داخله زخرفًا لافتًا من النقائش (فيسبوك)

 

تم بناؤه بين 1919 و1921 أثناء تلك الطفرة التوسعية التي شهدها محيط المدينة العتيقة بداية من القرن التاسع عشر، حيث كان لكل حي من الأحياء الأوروبية الجديدة جملة من الخصوصيات الديمغرافية والمعمارية والثقافية التي تهم الجاليات العديدة المقيمة بتونس مثل الجالية الفرنسية والمالطية والإيطالية واليونانية والبلجيكية والبريطانية.. أما يهود العاصمة فقد توسعوا أسفل هضبة البلفدير وبعثوا حي "لافيات" ومنطقة "بورجل" التي أصبحت تسمى اليوم حي "مونبليزير"، وداخل حي "لافيات" يوجد فندق الـ"سان جورج" الذي بُني من قبل مستثمر يهودي من أصل فرنسي هاجر فيما بعد إلى مستعمرة "غويانا" الفرنسية.

تتناغم هندسة الـ"سان جورج" وتنسجم مع باقي البنايات والعمارات والفيلات الموجودة بحي "لافيات". يبدو ظاهره متقشف الجمال، لكنه يخبئ داخله زخرفًا لافتًا من النقائش ذات الطراز الإيطالي والجليز الفرنسي والنوافذ المستطيلة التي تفسح المجال لمرور المزيد من الضوء داخل الغرف.

بُني نزل الـ"سان جورج" من قبل مستثمر يهودي من أصل فرنسي، بشكل تتناغم هندسته وتنسجم مع باقي البنايات والعمارات والفيلات الموجودة بحي "لافيات"

أما التحف الجاذبة داخل هذا المعلم، فتتمثل في قاعة الاستقبال أو بهو الفندق ذات الانحناءات والأقواس والديكور الكلاسيكي الذي تعود أغلب قطعه إلى النصف الأول من القرن العشرين، وعلى وجه الخصوص "المقهى الحانة" الشهيرة بكنتوارها الخشبي المطرز بالنحاس والسقف الإيطالي والطاولات والكراسي الخشبية.

هذا النزل الفخم وإلى حدود الستينات، كان قبلة ضيوف مهمين قدموا من أوروبا ضمن زيارات رسمية أو من أجل المشاركة في تظاهرات من سياسيين فنانين وأمراء وعسكريين كبار.

 

نزل سان جورج حانة
يعرف نزل "سان جورج" بحانته الشهيرة بكنتوارها الخشبي المطرز بالنحاس (رمزي العياري/ الترا تونس)

 

 كما شهد "سان جورج" أحداث ثقافية وسياسية هامة حيث كان قادة الحركة الوطنية يلتقون داخل فضاءات هذا النزل لتقييم الأوضاع ورسم خطط العمل ضد المستعمر الفرنسي فكان الزعيم الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف يلتقيان هناك كما شهد هذا المكان خطابًا شهيرًا للزعيم علي البلهوان.

وأيضًا كان من عادات "جماعة تحت السور" الثقافية تنظيم جزء من أنشطتهم الأدبية والفنية بنزل "سان جورج" مثل اللقاءات الشعرية والجلسات الغنائية والحوارت الفكرية والنقدية والسهرات الطربية والمسرحية الكوميدية بحضور رموز الجماعة على غرار عبد الرزاق كرباكة ومحمد العريبي والهادي العبيدي وعلى الدوعاجي وعبد العزيز العروي وعلي الجندوبي والهادي الجويني والطاهر الحداد وزين العابدين السنوسي ومصطفى خريف وشافية رشدي.. لقد كان الفندق جزءًا من الحياة الثقافية وشاهدًا على تاريخها وحاضنًا لرموزها.

نزل الـ"سان جورج" الفخم كان إلى حدود الستينات، قبلة ضيوف مهمين من سياسيين فنانين وأمراء وعسكريين كبار.. قدموا من أوروبا ضمن زيارات رسمية أو غير رسمية

ويذكر أن جماعة تحت السور احتفت بالكاتب والشاعر والصحفي التونسي المقيم في مصر "بيرم التونسي" في هذا النزل الشهير وقرأ من أشعاره وتحدث عن تجربته الإبداعية في الشرق العربي.

كما كان يحلو للشاعر التونسي الكبير "منور صمادح" أن يجلس في مقهى "سان جورج" يطالع الصحف ويقضى وقتًا في كتابة الشعر، حتى إنه عندما أصدر مجموعته الشعرية "كفاح" قدمها في قاعة بهذا النزل بحضور جمهور غفير.

نزل الـ"سان جورج" كان شاهدًا على عدة لقاءات كشفية أقامتها "الكشافة التونسية" في النصف الأول من القرن العشرين، وأيضًا لقاءات نقابية نظمها الاتحاد العام التونسي للشغل خاصة في مراحل النضال ضد الاستعمار الفرنسي.

 

نزل سان جورج
التحف الجاذبة داخل نزل الـ"سان جورج"، تتمثل في قاعة الاستقبال أو بهو الفندق ذات الانحناءات والأقواس والديكور الكلاسيكي (فيسبوك)

 

فندق الـ"سان جورج" المتفرد والذي جاوز عمره القرن من الزمن، والشاهد على جزء من التاريخ الثقافي والسياسي والاجتماعي التونسي، تحوّل اليوم إلى مكان باهت مشهور لدى عامة الناس بحانته الشعبية.

إنّ مثل هذه الأمكنة المزدحمة بالتاريخ -وهي عديدة بالعاصمة تونس وبعدة مدن تونسية أخرى- لا بدّ لها من خطة عمل خاصة تنهض بها وزارة الثقافية التونسية ووزارة السياحة، قصد حمايتها وتثمين ذاكرتها واستثمارها في الجانب السياحي.