دودة فشرنقة فحرير، تجمعه أيدي مزارعين بسطاء لتنسجه أنامل عمال فقراء حتى يصبح لباس الأعيان والملوك وأصحاب الجاه والسلطان. الحرير هو مَلك الألياف كما يلقب، مادة أساسية للتبادل التجاري بين الصين وبلدان العالم التي بات بعضها من أكبر منتجي الحرير عالميًا.
وتساوي قيمة سعر الوحدة من الحرير 20 مرة مقارنة بوحدة القطن على مستوى التصنيع النهائي، لتتصدر الصين لائحة الدول المنتجة لمادة الحرير وذلك بنحو 174 ألف طن في السنة من جملة 200 ألف طن مجموع الإنتاج السنوي العالمي أي ما يمثّل نحو 84 من الإنتاج العالمي تليها الهند.
كانت تونس تنتج نسبة بسيطة من الحرير في فترة الاستعمار وهي تورد حاليًا كميات بلغت 150 طن سنويًا
اقرأ/ي أيضًا: الرسم العقاري 6648.. هنشير النفيضة غنيمة الدولة عبر العصور
كانت تونس تنتج نسبة بسيطة من الحرير في فترة الاستعمار، وقد اقتصرت أساسًا على إنتاج شرانق دودة القز وتصديرها إلى السوق الفرنسية، وقد اكتسبت تقاليد هامة في نسج الحرير في عدّة جهات لا سيما في جهة المهدية. فيما تستورد تونس، في الأثناء حاليًا، 150 طن من الحرير الخام سنويًا بقيمة 10 مليون دينار أي ما يعادل 3 مليون دولار أمريكي، وهي تخصّص ربع كميته للأنسجة التي تروّج على مستوى الأسواق المحلية لفائدة حرفيي الصناعات التقليدية بالأساس.
لكن جاءت فرصة، قبل سنوات وتحديدًا عام 2005، كي تصبح تونس بلدًا منتجًا لنسبة هامة من الحرير وذلك عبر زراعة أكثر من 100 ألف شجرة توت وتربية دودة القزّ في طبرقة عبر مشروع مدعوم من كوريا الجنوبية، لكنه مشروع أفل بسرعة بعيد انطلاقته.
مناخ طبرقة: دفء لدودة الحرير
طبرقة تلك المدينة السياحية في شمال غرب البلاد التونسية أو "تباركا" كما أسماها الفينيقيون القدامى، تزخر بثروة مرجانية جعلتها من أشهر المناطق المنتجة للمرجان في العالم. كما تحيط بيها أشجار البلوط والفلين والهضاب والأودية مثل وادي الزرقاء، ووادي المالح، ووادي نفزة، ووادي الكريم، فوجد فيها الكوريون بيئة خصبة لإنتاج دودة الحرير.
تتميز مدينة طبرقة بمناخ معتدل ما جعلها عام 2005 قبلة لإنشاء مشروع لتربية دودة القز بتمويل من كوريا الجنوبية
انطلقت عام 2005 فكرة إحداث مشروع زراعي ضخم لغراسة آلاف أشجار التوت لتربية دودة القز التي تحتاج إلى مناخ معتدل، وقد منحت وقتها كوريا الجنوبية إلى تونس هبات منها هبة مخصصة لتمويل هذا المشروع الفلاحي في طبرقة على اعتبار أن كوريا من بين أكبر منتجي الحرير في العالم.
التقى "الترا تونس" بابراهيم القاسمي، وهو مهندس أول فلاحي بطبرقة أشرف على هذ المشروع منذ بدايته، الذي أخبرنا أنه بعد زيارة إلى عدّة مناطق في تونس اكتشف أنّ العديد منها مناسب لتربية دودة القز على غرار بنزرت وسجنان وعين دراهم وطبرقة والكاف، لكن وقع اختيار طبرقة كأولى تلك المناطق لانطلاق تنفيذ المشروع.
مراسلة "الترا تونس" مع المهندس ابراهيم القاسمي الذي أشرف على مشروع تربية دودة القزّ في طبرقة (مريم الناصري/الترا تونس)
يقول محدّثنا إنّ تربية دودة الحرير تتطلب مناخًا معتدلًا لا تتجاوز فيه درجة الحرارة 26 أو 30 درجة كأقصى تقدير، لاسيما من فترة أفريل/نيسان إلى جوان/يونيو، ولذلك يعتبر معدّل الحرارة في طبرقة مناسب جدًا لإنجاز المشروع.
وقد أخبرنا أن عملية تربية دودة الحرير تمر بخمس مراحل تدوم كلّ مرحلة منها قرابة خمسة أيام. تكون في البداية بيضة محفوظة في مكان بارد لتوضع فيما بعد في مكان دافئ لمدّة 10 أيام للتفقيس. لتصنع الدودة بعد 25 يومًا "cocon" أي شرنقة لمدّة 10 أيام، لتكتمل الشرنقة من خيط حريري يتراوح طوله بين 300 أو 900 متر، ثمّ تخرج فيما بعد الفراشة من الشرنقة. وتتم المراحل الأولى في المخابر أو في الأماكن المخصصة للتفقيس، ليتمّ فيما بعد نقلها بعد أن تصبح دودة إلى الأراضي لتتغذى على أوراق شجرة التوت وتتحول إلى شرنقة.
ماهي معالم المشروع؟
أكد محدثنا أن عملية تنفيذ المشروع انطلقت بعد التنسيق مع عدّة جهات أهمّها الإدارة العامّة للإنتاج الفلاحي في الجهة، وقد وافقت الولاية حينها على منح 20 هكتارًا لفائدة 10 تقنيين متخرجين من معاهد الفلاحة لإنجاز المشروع، وذلك على أمل أن يتمّ فيما بعد توسعة المشروع ليشمل عددًا كبيرًا من الفلاحين في الجهة وفي جهات أخرى.
المخبر الذي خُصّص لتفقيس بيض دودة الحرير (مريم الناصري/الترا تونس)
وأفاد المهندس إبراهيم القاسمي أنّه انعقدت اجتماعات على مستوى ولاية جندوبة ومنطقة طبرقة، مشيرًا إلى أنه تبيّن، وفق توضيح الكوريين لطبيعة المشروع، أنّ المسألة لا تحتاج إلى تقنيين بقدر ما تحتاج إلى يد عاملة فلاحية، لاسيما وأنّ التقني لن يكون قادرًا على الأعمال الفلاحية الشاقة، أو مسك المعول والمسحة والقيام بكلّ الأعمال الفلاحية بنفسه.
وأكد أن المشروع يحتاج، في المقابل، إلى يد عاملة عائلية بالأساس كما الحال في كوريا الجنوبية "فزراعة التوت وتربية دودة الحرير تعتمد هناك بالأساس على العائلات مثل إنتاج التبغ في تونس لأنّ دودة الحرير تتطلب رعاية ومتابعة لصيقة 24 على 24 ساعة للعناية بها وتغذيتها"، وفق قوله.
اقرأ/ي أيضًا: منازل على جرف هار.. تقلبات جوية عرّت مسلسل الاعتداء على ملك الدولة
لكن أفاد المهندس المشرف أن السلطة حينها ممثلة في الوالي والمعتمد عارضت هذا التوجه وهو ما اضطر فريق المشروع للاستجابة لما أرادته السلطة ليتم منح 2 هكتار لكل تقني، لتنطلق لاحقًا مرحلة التنفيذ بغراسة أشجار التوت في 11 هكتارًا بمعدّل 10 آلاف شجرة للهكتار الواحد في إطار ما يسمى بالغراسة المكثّفة. فيما تكفلت المندوبية الجهوية للفلاحة بكافة الأعمال الفلاحية من غراسة وحراثة وتوفير مياه عبر ضخّ المياه على بعد 2 كم نظرًا للافتقار لمنطقة سقوية بالجهة، كما أكد المهندس في حديثه معنا.
إنتاج حرير عالي الجودة
أكد محدثنا المهندس ابراهيم القاسمي على وجود إشكاليات عدة واجهت المشروع حين انطلاقته لأن الأرضية لم تكن جاهزة "فما كان للمشروع أن ينطلق في ذلك الوقت ولكنّهم تسرعوا" حسب تعبيره.
وقال إن التقنيين عندما اكتشفوا مشقة العمل والجهد الكبير المطلوب مع ضرورة توفير يد عاملة كبيرة للقيام بأعمال التقليم والغراسة والسقي وغيرها، انسحبوا من المشروع ليبقى في عهدة المندوبة الجهوية للتنمية الفلاحية وإدارة معهد الغابات والمراعي مدّة أربع سنوات، وذلك مع تخصيص عمال للحراسة وآخرون للعناية بأشجار التوت حتى لا تموت.
إبراهيم القاسمي (المهندس المشرف على المشروع): انسحب التقنيون من المشروع عند اكتشاف مشقة العمل والجهد الكبير المطلوب
بقي المشروع إذًا جهدًا مشتركًا بين المندوبية الجهوية للتنمية الفلاحية والإدارة العامة للإنتاج النباتي وديوان الشمال الغربي والمعهد الأعلى للمراعي والغابات والولاية. وقد وفّر المعهد مكانًا خُصّص كمخبر وبيت لتفقيس وإكثار البيض بمساحة 330 متر مربع، و20 وحدة أخرى صغيرة ومبسطة لتربية دودة الحرير وإنتاج الشرانق لدى صغار الفلاحين. وقد استغلّه طلبة المعهد الأعلى للمراعي والغابات لإجراء بحوثهم ومشاريع ختم دروسهم، فيما وفر ديوان الشمال الغربي مكانًا لإنشاء مصنع لاستخراج خيوط الحرير، وهو أولّ مصنع في تونس على الطريقة الكورية.
مخبر تفقيص البيض (مريم الناصري/الترا تونس)
وأضاف المهندس المشرف على المشروع أن كوريا الجنوبية وفرت كلّ أشجار التوت وكلّ ما يحتاجه المصنع من آلات لاستخراج خيوط الحرير، كما تمّ اقتناء مصفاة مياه لتصفية المياه التي يجب أن تكون خالية من الرواسب لاستخراج الحرير من الشرنقة.
وأخبرنا أن المعمل استخرج بالاعتماد على 100 ألف دودة التي تمت تربيتها بمخبر إكثار دودة الحرير، حريرًا تونسيًا أثبتت التحاليل الأولية جودته العالية، حسب تأكيده.
اقرأ/ي أيضًا: تجارة المخطوطات العبرية.. تاريخ يهود تونس المهرّب
وتوقف المشروع فجأة!
يقول إبراهيم القاسمي لـ"الترا تونس"، في الأثناء، إنه بعد تسليم المشروع "توقف كلّ شيء سنة 2008 وما عاد يوجد أي دعم مادي من أيّ جهة، حتى عندما بادر البعض بتقديم تمويل لإنجاح المشروع تمت معارضته وبقي الأمر على ما هو عليه".
ويشير أنّ المشروع كلّف 2 مليون دينار وفق الكوريين، كما أنفقت المندوبية الجهوية للفلاحة قرابة 400 ألف دينار على تنفيذه، ليتم فيما بعد الاكتفاء فقط بمساعدة الولاية والمعتمدية لتوفير عمال الحراسة وبعض عمال الفلاحة للعناية بالأشجار.
إبراهيم القاسمي (المهندس المشرف على المشروع): عندما بادر البعض بتقديم تمويل لإنجاح المشروع تمت معارضته وبقي الأمر على ما هو عليه
ويضيف أنه بعد 2011 "انتهى كلّ شيء" قائلًا:" حتى أشجار التوت باتت مهملة ولم يعد هناك حراس أو عمال. وتمت سرقة السياج الحديدي الذي كان يحمي الأرض من السرقات".
كان يشغّل المشروع عشرات العمال لا سيما من النسوة المكلفات بالعناية بالأشجار، وكان من المبرمج أن يشغّل العديد من خريجي التعليم العالي من اختصاصات فلاحية مختلفة إلى جانب مواطن شغل لليد العاملة البسيطة، بل ةكان سيتوسع هذا المشروع ليشمل عدّة مناطق أخرى مناخها مناسب لتربية دودة الحرير، ولكن انتهت المغامرة بسرعة.
مشروع كان سيجعل تونس بلدًا منتجًا للحرير الخام، وربّما من المنتجين الفاعلين في العالم، لكن توقف رغم نجاحه دون معرفة أسباب تراجع الدولة عن دعم مشروع هام كفيل بتوفير مواطن شغل عديدة لأبناء الجهة، ليظل السؤال للآن: من قتل دودة الحرير في طبرقة؟
وقع الحفاظ على بعض شرانق الحرير في المخبر (مريم الناصري/الترا تونس)
الأستاذ الجامعي عبد الحفيظ بوشناق، متقاعد من المعهد العالي للمراعي والغابات، رافقناه في زيارة إلى المحل الذي كان مخصصًا لتفقيس بيض دودة القز بالمعهد. مكان بات اليوم شبه مهجور رغم ما فيه من تجهيزات. يقول بوشناق: "كان للطلبة مكانًا لإجراء بحوثهم عن دودة الحرير وكيفية تربيتها، وإعداد مشاريع تخرّجهم، لكن للأسف ضاع كل شيء".
عبد الحفيظ بوشناق (متقاعد من المعهد العالي للمراعي والغابات): للأسف ضاع مشروع كبير كان سيوفر مواطن شغل كبيرة لأبناء الجهة
وأضاف الجامعي في حديثه لـ"الترا تونس" أنّ بعض الأراضي الأخرى التي غرست فيها أشجار التوت تمّ منحها لبعض العائلات وأصبحت أحياء سكنية، إلى جانب البناءات العشوائية الأخرى التي شيدت على أراضي كانت ستكون مسكن دودة الحرير.
يختم متحسرًا بالقول: "للأسف ضاع مشروع كبير كان سيوفر مواطن شغل كبيرة لأبناء الجهة، مشروع كان سيمكن خريجي الفلاحة من بعث مشاريع فلاحية هامة بالمنطقة".
مبادرات جديدة لإنتاج الحرير
أشار المهندس ابراهيم القاسمي، في الأثناء، إلى انعقاد اجتماعات عديدة منذ 2013 عبّر خلالها مستثمرون إيطاليون وتونسيون ممن لديهم مشاريع فلاحية وأراضي تحتوي على أشجار التوت، عن رغبتهم في الاستثمار وإحياء مشروع إنتاج الحرير في طبرقة.
وقد عبّر بالخصوص الإيطاليون الذين يستثمرون في هكذا مشاريع في أمريكا الجنوبية عن رغبة في إنشاء مشاريع لإنتاج دودة الحرير في تونس نظرًا لقرب المسافة من إيطاليا، خاصة بعد سماعهم بسابق وجود كوريين في المنطقة وعلمهم بنجاح دودة الحرير في طبرقة.
واجه مستثمرون تونسيون وإيطاليون تعطيلات عديدة لإنشاء مشاريع لتربية دودة القز من جديد في طبرقة
ولكن لا يوجد للأسف أي تجاوب فعلي من السلطات مع هذه المبادرات، في ظل وجود تعطيلات كبيرة على مستوى كراء الأراضي التي تعتبر النواة الأولى للعمل، وفق محدثنا.
وقد أخبرنا المهندس ابراهيم القاسمي بالخصوص عن وجود تعطيلات كبيرة تواجه مستثمر إيطالي منذ عام 2013، وذلك رغم اتصالاته بالإدارة العامة ومقابلة وزير الفلاحة وكاتب الدولة ووالي الجهة. ويضيف المهندس، في ختام حديثه معنا، أنه يوجد مستثمرون تنقلوا في عدّة جهات لمعرفة المناطق الأكثر ملائمة مع تربية دودة الحرير، ولكن تبقى مشاكل توفير الأرض والتشريعات المانعة لمنح الأراضي الفلاحية للمستثمرين الأجانب هي العائق الأكبر، حسب تأكيده.
اقرأ/ي أيضًا: