01-فبراير-2022

التأخير في عمليات صرف الأجور يكبد الموظف والعامل بالقطاع العام خسائر مالية بصفة دورية (فتحي بلعيد/ أ ف ب)

 

رسالة نصية قصيرة وصلت هاتف أحمد تؤكد القيام عملية تحويل مالية في حسابه البنكي الخاص. أحمد موظف تونسي بالقطاع العام، أرهقه الانتظار في صفوف أحد البنوك، وهو يتذمر من تسجيل تأخير في صرف أجره تجاوز عدة أيام. 

بالتثبت من بقية تفاصيل الرسالة النصية التي وصلته، وجد أحمد أن البنك قد قام باقتطاع مبلغ مالي من حسابه بسبب عدم خلاصه قسط القرض في موعده المعتاد نظرًا لتأخر عملية تحويل أجره إلى حسابه. وما يعانيه أحمد ليس حكرًا عليه، بل يعيشه عديد الموظفين التونسيين.

يتحدث أحمد لـ"الترا تونس"، أثناء انتظاره دوره لدخول البنك، أنه "لم يسبق أن توقع على غرار الكثيرين، أن يصبح الحصول على الأجر في حد ذاته مكسبًا مهمًا، على اعتبار الاعتقاد الراسخ لدى العاملين بالقطاع العام أن الحصول على الأجر  في موعده المعتاد بالنسبة لوضعيتهم هو أمر حتمي".

أحمد، موظف تونسي في القطاع العام: "تواصل التأخير في عمليات صرف الأجور، يكبد الموظف والعامل بالقطاع العام خسائر مالية بصفة دورية.. البنوك لا تأبه للتبريرات فهي تواصل تسليط الاقتطاعات في استغلال لضعفنا"

ويبيّن أن تواصل التأخير في عمليات صرف الأجور، يكبد الموظف والعامل بالقطاع العام خسائر مالية بصفة دورية، قائلاً "البنوك لا تأبه للتبريرات فهي تواصل تسليط الاقتطاعات في استغلال لضعفنا". واسترسل حديثه مستغربًا عدم قدرة الدولة عمومًا على تأمين كتلة أجور موظفيها، متسائلاً عن إمكانية تجاوز هذا التأخير حاجز بضعة أيام،  ليصل إلى تأخير بعدة أشهر متتالية!؟.

اقرأ/ي أيضًا: تأخّر صرف أجور المدرسين في تونس يثير موجة استياء واسعة

"الترا تونس" طرح هذه التساؤلات والمخاوف، التي يعيش على وقعها الشارع التونسي في الأشهر الأخيرة، على المختص في المالية والاقتصاد الصادق جبنون إثر تواصل تسجيل تأخير في صرف أجور الموظفين بعدد من القطاعات على غرار العاملين بقطاع التربية والتعليم وقطاع الصحة وفي موعد صرف جرايات المتقاعدين أيضًا.

يقول جبنون لـ"الترا تونس" إن الأجور والجرايات تعتبر جزءًا من آليات الاقتصاد، فالإشكال يتعلق، حسبه، بضعف النمو الذي لا يمكن الدولة من تحصيل المداخيل المطلوبة لتغطية النفقات والتوجه إلى المشاريع الاستثمارية.

ويضيف أن "ميزانية الدولة المقررة لسنة 2022 تقدر بـ57 مليار دينار وهي تحتاج ما يتجاوز 23 مليار دينار من القروض لتعبئتها على اعتبار ارتفاع سعر النفط، وأن يتم تحصيل بقية الموارد من الجباية التي تعتمد على النمو الاقتصادي المفترض بزائد 2,6%".

ويقدر المختص الاقتصادي أن التحدي الحقيقي لتونس في الفترة الحالية وعلى المدى القريب لا يقتصر على توفير الأجور للقطاع العام والوظيفة العمومية، التي من الممكن أن يتأخر صرفها أو أن يصعب تغطيتها، ولكن الأمر يتعلق بالحفاظ على مواطن الشغل أصلاً، مشددًا على أن "الدول بصفة عامة لا تفلس في عملتها.. هي تفلس دائمًا في العملة الأجنبية".

المختص في المالية الصادق جبنون لـ"الترا تونس": "توفير الأجور يكون إما بتحقيق نسب نمو قوية تغطي كلفة الأجور، أو عبر الوسائل غير التقليدية عبر التمويل غير المباشر من البنك المركزي وهو الإجراء المعتمد في تونس منذ فترة"

ويواصل أن "توفير الأجور يكون إما عبر الطريقة الطبيعية بتحقيق نسب نمو قوية تغطي كلفة الأجور، أو عبر الوسائل غير التقليدية عبر التمويل غير المباشر من البنك المركزي وهو الإجراء المعتمد في تونس منذ فترة" قائلاً إن هذا الإجراء لا يعد طباعة حقيقة للأموال وإنما هي عملية طباعة غير مباشرة".

ويفسر جبنون أن "هذه التقنية تتم عبر سندات الخزينة القابلة للتنظير أو سندات الخزينة على المدى القصير، التي يقوم البنك المركزي ببيعها إلى البنوك وشرائها منها في أجل لا يتجاوز 48 ساعة بنسب فائدة مرتفعة، تصل إلى 6,5 % ونسب فائدة في السوق الداخلية تصل 9% وفي الخارج في حدود 14%".

اقرأ/ي أيضًا: لوّحت بالتصعيد.. جامعة التعليم العالي تندد بتأخر صرف أجور الأساتذة الجامعيين

ينبه الخبير في الاقتصاد والمالية الصادق جبنون إلى أن الإفراط في اتباع تقنية التمويل غير المباشر من البنك المركزي يؤدي لإقصاء القطاع الخاص من إمكانية الحصول على قروض بنكية خاصة للمؤسسات الصغرى والمتوسطة.

ويشدد، خلال حديثه لـ"الترا تونس" على خطورة ما يسمى "بعملية الإقصاء" التي تعمد على أساسها البنوك على إقراض الدولة على حساب المؤسسات الصناعية أو الفلاحية أو السياحية الصغرى والمتوسطة أو العاملة في قطاع التصدير وغيرها، على اعتبار غياب المخاطر في عملية إقراض البنوك للدولة، بالمقارنة مع مخاطر القروض الموجهة للقطاع الخاص.

ويعتبر أن المؤسسات الصغرى والمتوسطة تحتاج دعمًا لتتمكن من تجاوز جائحة كورونا بتمويلات استثنائية ونسب فائدة منخفضة للغاية، لتجاوز خطر الإفلاس والاندثار وفقدان مواطن الشغل في القطاع الخاص.

جبنون لـ"الترا تونس": الإفراط في اتباع تقنية التمويل غير المباشر من البنك المركزي يؤدي لإقصاء القطاع الخاص من إمكانية الحصول على قروض بنكية خاصة للمؤسسات الصغرى والمتوسطة

وفي رده على سؤال "الترا تونس" حول ما إذا أصبحت أبواب الاقتراض الخارجي مغلقة أمام تونس، يقول الصادق جبنون إن الترقيم السيادي لتونس اليوم لا يمكنها من الحصول على تمويل مباشر من الأسواق الدولية إلا بنسب فائدة مرتفعة وخطيرة على استقرار المالية العمومية، مشيراً إلى وجود تردد في العالم في عمليات تمويل الدول التي تواجه صعوبات مالية ما يستوجب تحصل تونس "على الضوء الأخضر من صندوق النقد الدولي"،  للحصول على الدعم المالي.. أو من "نادي باريس" في مرحلة أخرى.

وختم جبنون حديثه لـ"الترا تونس" بالتنبيه إلى أن تفاقم الكتلة المالية ومخاطر التضخم في الخارج مع تواصل ارتفاع سعر النفط وارتفاع كلفة المواد الأولية ستؤدي لتضخم مستورد مع تضخم محلي جراء ضعف آلة الإنتاج الفلاحي والصناعي تصل اليوم إلى 7%، وتتجاوز في بعض المنتجات الفلاحية والغذائية التي تمس أساساً المواطن سقف إلى 15%.

ويكشف قانون الميزانية التكميلي لسنة 2021 المعد من قبل وزارة المالية أن عدد الموظفين في تونس يبلغ 661 ألفًا و703، ما يستوجب توفير كتلة أجور تناهز 20,3 مليار دينار، الأمر الذي نبه إليه صندوق النقد الدولي في تقارير رسمية، فالقطاع العام يكلف الدولة 50% من الناتج الداخلي الخام في مقابل معدلات دولية لا تتجاوز 20% ما دفع الحكومات المتعاقبة في تونس إلى إعلان التوجه نحو تخفيض عدد العاملين بالقطاع العام وتجميد الانتدابات.

قانون الميزانية التكميلي لسنة 2021: عدد الموظفين في تونس يبلغ 661 ألفًا و703، ما يستوجب توفير كتلة أجور تناهز 20,3 مليار دينار

اقرأ/ي أيضًا: قانون المالية التعديلي 2021.. أرقام وملاحظات

لكن موضوع كتلة الأجور الذي تطرحه الحكومة ففد اعتبره الأمين العام المساعد بالاتحاد العام التونسي للشغل سامي الطاهري "قضية وهمية للتغطية على خيارات اقتصادية ومالية خاطئة للحكومات المتعاقبة وميزانيات الدولة الفاشلة"، على حد قوله.

ويفسر الطاهري أن "أجور العاملين في القطاع العام تعتبر ضعيفة بالمقارنة مع دول تشبه تونس في وضعها المالي والاقتصادي"، قائلاً إن "نسبة الأجراء مرتفعة في إدارات ووزارات لا يمكن التخلص من موظفيها مثل قطاع التربية أو الصحة أو وزارتي الداخلية والدفاع وهي تمثل 70% من الأجراء".

وحول موعد صرف الأجور المتأخرة لشهر جانفي/يناير 2022، يؤكد الطاهري، في حديثه لـ"الترا تونس" أن "عملية صرفها تشهد تأخرًا من شهر إلى آخر، مع وجود إشكال في السيولة لدى الدولة وفي الميزانية التي وقع إعدادها بعنوان سنة 2022".

الأمين العام المساعد باتحاد الشغل سامي الطاهري لـ"الترا تونس": كتلة الأجور في القطاع العام وتضخمها قضية وهمية للتغطية على خيارات اقتصادية ومالية خاطئة للحكومات المتعاقبة وميزانيات الدولة الفاشلة

ويعتبر الطاهري أن التأخير المسجل في صرف الأجور يحدث أضرارًا خطيرة في علاقة الموظفين بالبنوك التي أثقلت بدورها كاهلهم، على حد قوله، بالاقتطاعات المالية خاصة للمتحصلين على قروض ذات اقتطاعات بصفة دورية شهرية، والحرفاء من بين المتحصلين على مبالغ مالية "مُسبقة" على حساب الأجر.

ويدعو، خلال حديثه لـ"الترا تونس" مؤسسات الدولة إلى إصدار قانون أو أمر ينهي ما اعتبرها تجاوزات خطيرة غير قانونية للبنوك، وإقرار تعويضات لصالح الموظفين والأجراء، الذين تسبب لهم التأخير في صرف أجورهم، أضرارًا بالحياة الاجتماعية والالتزامات اليومية ما خلق توترات اجتماعية حقيقية، وفقه.

اقرأ/ي أيضًا: من بينها الحليب والزيت والحبوب: أزمات غذائية "قاعدية" تلوح في أفق تونس

في سياق متصل، تواصل "الترا تونس" مع رئيس المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات فرع تونس ـ المختص في علم الاجتماع والوزير السابق مهدي مبروك حول التأثيرات الاجتماعية التي يحدثها تواصل تأخر صرف الأجور على الفرد وإمكانية حدوث تغيرات في سلوكاته.

ويوضح مبروك أن الأمر يتعلق بتعوّد نفسي أساسًا وحدوث اختلال في الالتزامات من عمليات شراءات يومية وخلاص كراء المنزل ومستلزمات العائلة وسداد القروض وخلاص الدائنين وغيره.. فهي، حسب تعبيره، مسألة إدراكات ذهنية تستوجب ما بين 4 إلى 5 أشهر ليتمكن الأجير من التأقلم مع الموعد الجديد لصرف الأجر.

المختص في علم الاجتماع مهدي مبروك لـ"الترا تونس": الأمر يتعلق بتعوّد نفسي أساسًا وحدوث اختلال في الالتزامات من عمليات شراءات يومية وخلاص كراء المنزل ومستلزمات العائلة وسداد القروض وخلاص الدائنين وغيره..

الوزير السابق تحدث لـ"الترا تونس" عن السيناريو الأخطر، على حد قوله، وهو الوصول إلى عدم صرف الأجور بعد تجاوز أشهر عدة، بسبب إشكاليات هيكلية تهم المالية العمومية، ووصول تونس إلى ما يشبه الأزمة المالية في لبنان، اليونان أو ليبيا، فالأمر قد يؤدي، حسب قوله، إلى تغيرات في سلوكيات التونسي، ليصبح عنيفًا متمردًا وتسجل حالات عصيان مدني وفوضى أو اعتداء على المال. 

ويقول مبروك إن في هذا السيناريو ستكون بعض الشرائح عرضة أكثر للمخاطر، على اعتبار عدم امتلاكها لادخار مالي أو الاستثمار، وانقطاع سبل تواصلها مع البنوك التي قد تدخل في شح مالي.

ويضيف "سنشهد عندها تونسيًا آخر أكثر عدوانية وفردانية'، مواصفاته تتلخص في النزعة الفردانية والتفكير المطلق في الذات، ونشهد تقلصًا وإعادة رسم لحدود الممنوعات والمحظورات والمحرمات، وتفشي سلوكات التحيل وتوجه أصحاب الوظائف إلى مهن ثانية يومية صغيرة"، قائلاً "ذلك مشابه لمصر فالأستاذ على سبيل المثال يشتغل أيضًا سائق سيارة أجرة وبائع مواد غذائية لتدبر قوته اليومي".

مهدي مبروك لـ"الترا تونس": السيناريو الأخطر هو الوصول إلى عدم صرف الأجور بعد تجاوز أشهر عدة ما قد يؤدي إلى تغيرات في سلوكيات التونسي، ليصبح عنيفًا متمردًا وتسجل حالات عصيان وفوضى

اقرأ/ي أيضًا: مختصون في الاقتصاد:"قد نصل إلى مرحلة العجز التام ولا مفرّ من إصدار العملة"

يكشف المختصون في علم النفس أن تأثيرات الشعور بعدم الاستقرار المالي تخلف ضررًا نفسيًا عميقًا يبدأ بتسليط ضغط نفسي حاد على الفرد ثم حالة من الإرهاق المتواصل والعصبية المفرطة، حسب تفسير كوثر بن نتيشة، الطبيبة المختصة في الأمراض النفسية، في حوارها مع "الترا تونس".

وبيّنت بن نتيشة أن الاستقرار المادي والاجتماعي يؤثر في توازن المواطن المرتبط بالمحيط وكم الضغوطات التي يواجهها، مشيرة إلى أن الاستقرار في موعد صرف الأجور يوفر إحساسًا بالأمان وقدرة على مواجهة الغد بما يحمله من التزامات اجتماعية يومية.

وتقول بن نتيشة إن غياب الوضوح في حد ذاته المرتبط في هذه الحالة بموعد منتظر لصرف الأجور يخلق حالة من التوتر، بسبب كثرة التفكير التي تزيد من الضغط النفسي، وتصل حد ظهور علامات الإرهاق المفرط والإحساس بانعدام وغياب الأمان.

المختصة في علم النفس كوثر بن نتيشة لـ"الترا تونس": غياب الوضوح في حد ذاته المرتبط في هذه الحالة بموعد منتظر لصرف الأجور يخلق حالة من التوتر وتصل حد ظهور علامات الإرهاق المفرط والإحساس بانعدام وغياب الأمان

وبيّنت المختصة في الأمراض النفسية، في حديثها لـ"الترا تونس" ارتفاع عدد الأشخاص اللذين يعانون من الضغط النفسي بسبب عدم الاستقرار المالي، الذي يؤدي إلى عصبية مفرطة وردات فعل سلبية يؤكدها، حسب قولها، تفشي العنف اللفظي أو قلة التركيز.

وأضافت بن نتيشة أن هذه العوامل تبرز بشدة في المجتمع التونسي على مستوى التصرفات سواء في الشارع أو بين أفراد العائلة ومحيطها، وحتى في طريقة القيادة العنيفة للسيارات، وكيفية تعاطي التونسي مع ما يواجهه من إشكاليات.

وأكدت المختصة في الأمراض النفسية أن تأخر صرف الأجور وتأثيراته النفسية، يؤدي إلى ضعف مردودية العمل للفرد، الذي يغلبه إحساس بالإرهاق يُخلفه التفكير المفرط الذي يؤدي بدوره إلى عدم التركيز وتعكر المزاج والنظرة السوداء إلى المستقبل.

وبيّنت كوثر بن نتيشة أن التأثيرات تصل حد ضرب استقرار علاقة الفرد بالشريك في العائلة وبالأطفال، بسبب تغير طريقة تعامله معهم، الذي  يسيطر عليه التسرع وعدم القدرة على معالجة الإشكاليات اليومية، ما يؤدي حسب قولها إلى إحساس بالذنب بسبب تصرفات عنيفة تتولد من الضغط النفسي وعدم قدرته على القيام بدوره في الأسرة.

أزمة تأخر صرف الأجور في تونس قد تخفي مخاطر تهدد الاقتصاد التونسي واستمرارية مؤسسات الدولة، مع تحولات اجتماعية قد تنتج "تونسيًا جديدًا عنيفًا" على أمل تحسن الأوضاع ومعالجتها، من مختلف الجوانب، تجنبًا لسيناريو أسوأ.

 

اقرأ/ي أيضًا:

تونس.. عندما تتوفّر المواد الأساسية في وثائق السلطات وتغيب عن قفة المواطن!

الاقتصاد التونسي: 2021 عام الانتكاسة.. والمجهول يحف بقانون المالية 2022