أتممت منذ أيام قراءة تقرير لجنة المساواة والحريات الفردية كاملًا، وقد كتبت فيما سبق حول تناوله لمسألة المهر. ولكن تجاوزًا للمواقف من هذا مبحث أو ذاك، فإن الموقف الكلّي من التقرير تسبقه بتقديري وبالضرورة بعض المحدّدات وبالخصوص الخلفية الفكرية والأيديولوجية لكل قارئ للتقرير، وحول تمكن كل قارئ من المادة المعروضة أمامه وغيرها. وعلى ضوء المذكور من المفترض أن يُصاغ إحدى هذه المواقف: أنا مع كل ما ورد في التقرير، أو أنا ضد كل ما ورد في التقرير، أو أنا مع أغلبه ومتحفظ على بعضه، أو أنا متحفظ على أغلبه ومؤيد لبعضه.
وقد صرّح أحد أعضاء اللجنة في وقت سابق أنه لا يؤيد كل ما ورد في التقرير وهو ما يمثل شاهدًا، على الأقل، على صعوبة الدعم المطلق أو الرفض المطلق للتقرير. وربما حسنة التقرير، في هذا الجانب، هو خياره نحو تعدد المقترحات في الجزء الثاني المتعلق بالمساواة، وذلك بمقترح "جذري" مع مقترح "إصلاحي" يقدم تقديمه بمنطق "مجاراة العقليات وتفادي التغييرات الجذرية".
اقرأ/ي أيضًا: لجنة الحريات: تقريرنا ثوريّ ولا يمس من العقيدة.. والمعارضون يردّون: بل هو فتنة
يدفع، في الأثناء، العديد لسجال متوتّر واصطناع التشنّج بمناسبة مناقشة التقرير، بالتوازي مع استعمال نسيج من الافتراءات والمغالطات. ففي خضم ذلك، هناك من يعتبر من يعارض التقرير هو معارض للمساواة والحريات في مطلقها، فيمارس "فتوّة" نخبوية مفادها "نقودوكم للمدنية يا أبناء الجاهلية". ولكننا لنا أن نتساءل هل نتشارك نحن مفهوم "الحريات الفردية"؟ وأي مفهوم لـ"المساواة" حينما نتحدث عنها؟ في حين وفي الطرف المقابل، هناك من يعتبر من يؤيد التقرير هو منسلخ عن الدين. ولا غرو أنه من اللزوم العودة للمبحث الابستيمولوجي في هذا المنحى، وكذا العودة للحفر في مفاهيم التراث وقراءة النص الديني والحداثة والجدل الفلسفي التقليدي حول اعتبار الفكر الأوروبي ومستخلصاته الآنية هو الفكر المركزي/الكوني مقابل الفكر الآخر هو الثانوي/الخاص ولزوم دوران الثاني في مدار الأول. ولا يفوت قطًعا الحديث عن السياقات الثقافية والنحت إجمالًا في مباحث هي في أصلها جوهر الحديث الذي نختزله ظاهرًا في لفظتي "الحريات الفردية" و"المساواة" والألف لام نقطة مفصلية. لذلك من الوجوب، إجمالًا، طرق كل هذه المباحث في إطار هادئ غير متشنج بعيدًا عن المنطق الاختزالي المبتور في تناول التقرير.
لنا أن نتساءل هل نتشارك نحن مفهوم "الحريات الفردية"؟ وأي مفهوم لـ"المساواة" حينما نتحدث عنها؟ لذلك من المستوجب الحفر في مختلف المباحث ذات العلاقة لأنها جوهر الحديث الذي نختزله ظاهرًا في لفظتي "الحريات الفردية" و"المساواة"
ولازالت أؤمن بأن التقرير هو فرصة لحوار مجتمعي واسع على قاعدة الدستور الجامع، ولكن يريد البعض أن يفوّت هذه الفرصة بالتنطع والافتراءات والمغالطات، وبالخصوص من أولئك الذين يمارسون وصاية باسم الدين أو الحداثة، ومن يردّدون مقولات وعبارات منمّقة ليثبّتوا مكانًا لهم مع هذا الفريق أو ذلك تثبيت أقرب للفهلوة والصبيانية أحيانًا منه لأي شيء آخر. في كلّ ذلك، تأتي المسؤولية التاريخية اليوم على أهل النخبة غير الموتورين لقيادة حوار غير مشحون بعيدًا عن منطق المتخاصمين الذين يتبادلون السهام التي تدق الأسافين في جسد المجتمع قبل أن يظنوا أنهم يقتلون حجة لهذا أو ذاك.
ولكن فالمسؤولية الأكبر بتقديري لدى السلطة السياسية وذلك بعدم تورطها في صراع خراجه تقسيم للمجتمع حينما تتحول "الفرصة" إلى "نقمة"، ولذلك يجب ألا يتورط رئيس الجمهورية في محاولة فرض إصلاح من الأعلى للأسفل عبر الاستقواء على المجتمع بالدولة، وألا يجازف بهكذا مخاطرة خاصة في السياق الآني حينما انفتح المجال العام واستعاد كل فاعل مساحة تحركه دون الحاجة لتبادل الأدوار أو لعب لعبة الكراسي المتحوّلة. فليس الأمس كاليوم، فلم تعد الدولة فرعونًا يخضع له المجتمع صاغرًا، وينحني الفرد للسلطان راكعًا.
على أهل النخبة قيادة حوار غير مشحون وعلى السلطة السياسية عدم التورط في صراع خراجه تقسيم للمجتمع حينما تتحول "الفرصة" إلى "نقمة"
ليحين السؤال الأهم هو كيف يمكن أن يحلّ الحوار المأمول؟ إن الشرط الجوهري هو الدفع نحو تعميق هذا الحوار أفقيًا بين مختلف الأطراف المتداخلة دون إقصاء لأي طرف عبر إرساء حوار وطني مجتمعي عميق وشامل حول مسائل الحريات والمساواة كما كان الحوار الوطني حول العدالة الانتقالية، وذلك حينما تكتفي أجهزة الدولة بتوفير الإمكانيات المادية لتيسير الحوار الذي يظل مفتوحًا وغير مشروط بين "الجميع" دون استثناء. وهو حوار يمكن أن يدوم سنتين أو ثلاث سنوات أو أكثر، فإذن بقينا نتجادل لنحو ثلاث سنوات حول النظام الرئاسي أو البرلماني أو نصف البرلماني، ألا يستحق الحديث عن مسألة تنظيم العلاقات داخل الأسرة على الأقل ذلك الحيز الزمني لتوسيع نطاق الحوار في مسائل البعض منها حميمي يهم الفرد في ذاته لا تهم علاقاته مع المجتمع أو تنظيم السلطة كما حال الدستور؟
يجب تعميق الحوار حول المساواة والحريات الفردية بين مختلف الأطراف المتداخلة دون إقصاء لأي طرف وذلك عبر حوار وطني مجتمعي عميق وشامل كما كان الحوار الوطني حول العدالة الانتقالية
يمكن أن تتعدد وسائط وأطر هذا الحوار عبر منتديات وحلقات نقاشية في مختلف الفضاءات ومنها بالأساس الفضاء الأكاديمي/الجامعي، وعبر المجتمع المدني وكذا الأحزاب التي يجب أن تتدافع لتقديم رؤاها حول المضامين المطروحة دون الاستقالة خشية خسارة جمهور انتخابي. وقد يكون من الطوباوية التعويل على صياغة مشروع مجتمعي موحّد إذ أنه يصعب إن لم يستحل الوصول لتوافقات في مختلف المواضيع المطروحة، وذلك الأصل والمنتظر ومن طبيعة المطروح بذاته، ولكن يمكن التعويل على تعميق النقاشات وتجذيرها لتنزيل مقتضيات الدستور تنزيلًا "هادئًا" و"جامعًا" بأكبر قدر ممكن يمكن أن ينتهي بصيغة مشروع تعدّه لجنة فنيّة يقع بالنهاية عرضه على الاستفتاء. وهذا التمشي قد يكون الأكثر أمانًا في طريق وعر يسعى البعض لاختزاله وقطع مسافاته عبر قفز وهرولة متنطّعة تساهم في تقسيم المجتمع وممارسة الوصاية عليه سواء من هذا الطرف أو ذاك، وحينها تكون الخسارة الكبرى.
اقرأ/ أيضًا: