01-سبتمبر-2015

لقطة من الفيلم

يعود يوسف، غازي الزغباني، سائق التاكسي، بعد 30 سنة، لذلك الزمن بسبب صدفة جعلت شابة تركب سيارته نحو أحد أحياء المدينة العتيقة، لتأمره بالتوقف أمام بيت تدخله مسرعة دون أن تدفع له أجرته، وحين يهم بقرع الباب يلاحظ أنه موصد برِتاج من الخارج بشكل يجعله يشك في ماهية "الشيء" الذي دخل المنزل، وهل هو من جنس البشر أم من سواه؟

امرأة مجهولة تحرّض سائق التاكسي في فيلم "الزيارة" ليعيد الحفر في ذاته

يصر السائق المفتون بسحر الفتاة وبالمنزل الذي يدغدغ في ذاكرته شيئًا مبهمًا، على المضي قدمًا في بحثه الذي بدا بحثًا عن الذات وحفرًا في شخصيته. يحرّك فيه ذلك البيت أشياء لم يفهم كُنهها وتزيد من حيرته لوحة رخامية من المفروض أنها تدل على اسم صاحب الدار، غير أن شرخًا يقسمها نصفين يجعل من الصعب جدا تبيّن اسم مالك هذا العقار القديم.

يعود يوسف في اليوم التالي ويقرع بابه بعنف، غير أنّ أحد الجيران يخبره بأن هذا البيت مهجور منذ 30 سنة وأن صاحبه الإيطالي تركه منذ ذاك الحين ولم يعد مسكونًا إلا من بعض الأرواح آتية من زمن ما، ومن مكان ما، وينصحه بعدم الاقتراب منه، خصوصصا حين يخبره يوسف بنيّته في اقتنائه.

يعيش يوسف حياة العزوبية في انتظار جمع ما يمكّنه من إتمام مراسم زفافه من إحدى الفتيات التي لم تظهر في الفيلم، في شقته التي يقطنها بمفرده والتي يجمع فيها مجسّمات صغيرة لأنواع من السيارات التقليدية، إلى أن يطرق بيته طارق يتبيّن حين فتحه الباب أنه تلك الفتاة الغامضة.

بملابس مبللةٍ وبابتسامة خفيفة، تدخل بيته وحياته، قبل أن يأذن لها، وتتجول في شقته وتمسك بأحد مجسمات السيارات وتلعب به ليجد نفسه منقادًا إليها، مشاركًا إيّاها لعبها ولهوها، لتتركه لاحقًا مع كم ثقيل من الأسئلة، فهو لا يعرف اسمها ولا حتى "كُنهها"، خاصة حين تخبره بأنه الوحيد القادر على رؤيتها والتخاطب معها.

يحاول يوسف اقتفاء أثر هذه الفتاة، ولا يجد صعوبة في ذلك بعد أن عرف أنها تسكن ذلك المنزل المهجور، وكلما ذهب هناك يلتقي العم سعد ولكنه ذات مرة يدخل عالمه، عالم الروحانيات، ويأخذه إلى الزاوية الصوفية التي يقطنها، حين يجد زارًا لإخراج جنّ من جسد امرأة ترتعد فرائصها وتنتفض على أنغام اسطمبالي "موسيقى تقليدية أفريقية".

يجد يوسف نفسه محاطًا بعازفين ومنشدين وبكل ما يجعله منتشيًا، أو "متخمّرا" كما يقال بالعامية التونسية، ووسط هذا الانتشاء تنادي الذاكرة ويبدأ في استرجاع شيء منها، تحاصره أصوات الآلات وصور وأصوات عائلته، الوالدين، أخته، صورته حين كان طفلًا.. فيخرج من المكان هاربًا.

يعود إلى شقته فيجدها مسروقة، ويجد معها تنبيهًا بمغادرة المكان، وقد كان قبل ذلك بساعات في حالة خصام مع خطيبته التي قررت هجره، فتتكالب عليه المصائب، ليفاجئ بتلك الفتاة تنتصب أمامه، يمسك بها متهمًا إياها بالاستيلاء على مال جمعه طيلة سنوات عجاف من العمل المضني، ثم يتناول سكينًا ويطعنها ليرديها قتيلة ويتركها مضرّجة بدمائها، وحين يهرع الجيران لاستجلاء الأمر بعد سماع زمجرته وهو يهدد الفتاة، يجدون يوسف وحيدًا ممسكنا بسكين، يتحدث مع نفسه أو مع شبح.

"الزيارة" دراما نفسية تطرح سؤال الهوية في قالب من التشويق

يخرج من بيته نحو المنزل المهجور حيث يتوقع وجودها. يخلع بابه ويلجه ليرى بيًتا يتوسط ساحته بئر، وفعلًا يبدو، كما قيل، غير مسكون، فكيف لتلك الفتاة الجميلة الرقيقة أن تسكن هنا؟ وكيف لها أن تدخله دون أن تكسر القفل على بابه؟ يجول في ساحته ويجد مدرجًا رخاميًّا، يتوجه نحوه مواصلًا بحثه عن الفتاة، يتعثر أثناء صعوده وتسقط من إحدى الدرجات قطعة من الرخام التي كانت تخفي داخلها صندوقًا ما يحوي مجموعة من الصور، يفتحه ويفتح معه أبواب ذكرياته، يتذكر عائلته التي كانت تخدم سيّدًا إيطاليا، والديه الفقيرين، أخته التي اكتشف أبوه أنها ابنة زنى من ذلك الإيطالي، ويكتشف معها أنه أهين في عرضه فيمسك بزوجته يعنفها.

وفي هذه الأثناء، كان يوسف وأخته صغيران لا يفهمان ما يقوله أبوهما، ولا يفقهان غير صور أب يمسك بالأم يضربها ويشتمها. تواصل الطفلة لعبها بدمية إلى أن تفلت من يدها وتسقط في ذلك البئر، فتتطلع فيه، ودون أن تشعر تجد نفسها في قاعه دون أن يتفطن إليها أبواها إلاّ بعد أن يجدا نفسيهما عاجزين عن إنقاذها، حينها تتهم الأم زوجها بالتسبب في هلاك ابنتها، فيدفعها لتسقط على رأسها فيرديها قتيلة دون قصد.

يبدأ يوسف تذكر ذلك المشهد ويقرر النزول إلى البئر فيجد هناك الدمية البلاستيكية وبقايا ذكرى من شقيقته، وحين يخرج يفاجأ بجسم غريب ملفوف في عباءة، يهاجمه كأنه حارس قصر يمنع أي شخص من الاقتراب منه، يتصارع معه وكلٌّ يحاول التخلص من الآخر، وفي لحظة ما  يمسك يوسف حجرًا ويهوي به على رأس غريمه فيرديه قتيلًا، وما إن يكشف عن وجهه ويتبيّن ملامح الشخص الذي يقبع تحته حتى يُصرع ويتقهقر أمتارًا إلى الوراء، لقد قتل والده وهشّم رأسه.

والده الذي اتخذ من زاوية غير معروفة في المنزل القديم منزلًا ومهربًا، والده الذي لم يكن يدري بوجوده إلا العم سعد شيخ الطريقة الصوفية الذي كان يجلب له الطعام والشراب يوميًا، والده الذي حين يذكر تلك الحادثة أمام العم سعد، يتبرأ من تلك الفعلة التي أتاها دون قصد، والفتاة الشبح، هي أخته! أخته التي كبرت لتزوره وتقوده إلى ذلك البيت وتلك الذكريات.

ينتهي الفيلم بهذه الدراما النفسية، كما يعرفه مخرجه نوفل صاحب الطابع، الذي يقول إنه حاول أن يطرح مسألة البحث عن الهوية، انطلاقًا من قصة يوسف الذي يعيش قطيعة مع الواقع، وهي قضية تتمركز في منزلة بين المنزلتين، بين المنطقي واللامنطقي، بين الواقعي والخيالي، مشيرًا إلى أنه يترك للجمهور حرية تأويل أحداث الفيلم، والحكم على البطل إن كان يعاني من ازدواج في الشخصية أم لا، وذلك وفق اعتقادات المتفرج وقناعاته، بعيدًا عن كل تأثير، وبعيدًا عن الكليشيهات المتداولة.

اتخذ المخرج من الأماكن الضيقة، في "الزيارة"، دلالة على الاختناق الذي يشعر به البطل

اتخذ المخرج من الأماكن الضيقة والمغلقة فضاءات للتصوير كدلالة على الضيق الذي يشعر به بطل الفيلم والحالة النفسية التي يمر بها والتي تصل حد الاختناق. ضيق يترجم حالة نفسية متأرجحة، فهو إما في سيارة الأجرة التي يعمل عليها، أو في شقته التي يسكن فيها أو في منزل مهجور أو في مقر الولي الصالح حين التقى العم سعد، يدور بينها كأنه بين جدران أربعة لا يملك منها مهربًا.

نوفل صاحب الطابع هو مخرج ومنتج سينمائي، تحصل سنة 1990 على شهادة في الاتصال والسينما والسيناريو في جامعة كيباك بمونريال، اشتغل هناك في عدة أفلام وبرامج تلفزية ليؤسس لاحقًا وكالة مختصة في توفير الممثلين من إثنيات مختلفة للأفلام. لدى عودته إلى تونس، أخرج عددًا من الأفلام الإشهارية ليكون الفيلم الوثائقي "إسطمبالي" أولى أعماله، ثم أردفه بفيلم "الكُتبيّة" (المكتبة) عام 2002 والذي حصل به على جائزة "الزينيت الذهبي" لأفضل فيلم أفريقي في مهرجان "سينما العالم" بمونريال سنة 2003، وجائزة أفضل سيناريو لفيلم طويل بالمهرجان الدولي بتيبورون كاليفورنيا في ذات العام، ويستعد صاحب الطابع لإنتاج فيلم بعنوان "باكالوريا".

شارك في التمثيل مجموعة مخضرمة جمعت أكثر من جيل، فقد جسّد الفنان الشاب غازي الزغباني دور يوسف، فيما لعبت نادية والي دور الفتاة الغامضة، وعُهد إلى الراحل لطفي الدزيري بدور عبدو، والمغني صلاح مصباح دور العم سعد.