لم يكن المسرح ابتداعًا إنسانيًا ينشد الشعرية المطلقة بحثًا عن حياة أخرى غير مترذّلة وأكثر نقاء وصفاء كما ذهب إلى ذلك أرسطو في كتابه "فن الشعر"، بل هو أعظم فعل مواجهة ومكاشفة استنبته الإنسان من جنبات رحلة الحياة الشائكة والغامضة، وجعله سلاحًا لمواجهة سطوات القدر وسطوة الأسئلة المستبدّة بالعقل الشقيّ.
المسرح هو بيت الحريّة ومسكنها المشتهى، في هذا البيت الآمن تجلس الذّات الى الذّات للتحاور والتساؤل وتقارع الذّات الحرّة السلطة، أيّ سلطة كانت. المسرح أرض للحيرة ومطبّات لا محدودة للتّفلسف والتفكير الحرّ، هو محجّة هاربة من الزمان والمكان يقصدها العقل المتعب للتطهّر والتخلّص من عوالق وشوائب الطّريق.
"قصر السعادة " تغامر في اتجاه مناطق قصيّة ومنسيّة من جسد المجتمع التونسي فهي تزيح الأسلاك الشائكة وتمشي لا مبالية فوق ألغام زرعتها " السيستامات " المتعاقبة
اقرأ/ي أيضًا: "تفّاح المحبّة" للشاعر أحمد زعبار.. لذاذة الحبّ وضجيج الاستعارات
قد نجد صدى لكل ما ذكر في العمل المسرحي "قصر السعادة " الذي أنتجه المسرح الوطني التونسي وأخرجه المسرحي الشاب نزار السعيدي، والذي تمّ تقديمه مساء الأربعاء 11 ديسمبر/ كانون الأول 2019 بقاعة سينما المونديال بالعاصمة تونس خلال فعاليات الدورة 21 لأيام قرطاج المسرحية وضمن قسم مميّز خصّص للاحتفاء بمسرح الجنوب بقفصة.
"قصر السعادة" لا تتطلب جمبازيا بصرية وقدرات لغوية تمكّننا من فكّ شيفرات الحوار حتى نفهم ما يحدث على الخشبة، إنه عمل ينحدر مباشرة من الفضاء الإبستيمي الاجتماعي التونسي، فهي تبدو في ظاهرها وكأنها محاكاة لأعطاب اجتماعية تلبّست بالمجتمع منذ عقود نتيجة سياسات وتصورات خاطئة نالت من كل القطاعات ومسّت الحيوي في هذا البلد وخاصة شكل وبنية العائلة التونسية فبعد أن كانت "عائلة ممتدة" أصبحت "عائلة نواة". لكن دمّل تلك السياسات طفح في السنوات الأخيرة وتجلّى في الظواهر الطارئة.
وإذا ما تجاوزنا هذا المستوى الأول من المسرحية نجد أن "قصر السعادة " مثقلة بالمعاني والدلالات الأخدودية العميقة على نحو جمالي أسسّت له مدرسة الفاضل الجعايبي المسرحي التونسي الجدلي الذي توغّل في بناء مسرح مطرقي وغير نمطي ومليء بالترميز والتشكيل والإيحاء وتمكين المتلقي من أدوات عمل جديدة بل يذهب إلى زعزعة الثابت في مستوى الوعي.
"قصر السعادة " تغامر في اتجاه مناطق قصيّة ومنسيّة من جسد المجتمع التونسي فهي تزيح الأسلاك الشائكة وتمشي لا مبالية فوق ألغام زرعتها " السيستامات " المتعاقبة على هذا الوطن بقصدية وبغير قصدية.
"قصر السعادة" على أرض متشظيّة
من هذه المناطق المحظورة التي ذهبت إليها المسرحية، والتي عادة ما يكون الحديث بخصوصها سطحيًا وتقنيًا هي "مؤسسة المدرسة " كمؤسسة مجتمعية تصنع الرجال وتبني المستقبل وتحصّن العقول وتحمي الأوطان. فالمدرسة من خلال هذا العمل الفني تبدو في حالة انهيار وعطالة وفشل تام، فهي مشلولة وطاردة ومليئة بظواهر غريبة ومدمّرة مثل المخدّرات والعنف بجميع أشكاله.
تتوغل المسرحية على أرض التشظي لتبرز انخرام الجوانب العلائقية والقيمية داخل العائلة
فالمشاهد التي تمنحها الخشبة لعين عقل المتلقي تبدو مدويّة وهادرة في نسقها وشبيهة " بالرواية النهرية " حيث تتالى الروافد السردية وتزدحم الأحداث كالماء في النهر ، تمامًا كالسّرد الرّوائي وهو أسلوب يعتمد في المسرح لأسر الجمهور وشدّه. وقد اعتمدها التمشي السينوغرافي هنا لتأكيد فداحة ما يحصل في المدرسة وما جاورها من عنف وهتك لصورة المربي و التلميذ جرّاء فعل " اللعبة " أو " الشيخة" أو "الهواء"، وهي كنايات من جملة كنايات لا تحصى ولا تعدّ للمواد المخدرة الرائجة داخل وأمام مدارسنا.
اقرأ/ي أيضًا: مسرحية "هوامش على شريط الذاكرة": ذكريات بلا أصل وامرأة في كل فصل
وتزيد المسرحية في هذا المستوى من الحفر النفسي الاجتماعي لتثير مسألة الإحباط لدى شبابنا والذي تعتبره المسرحية من الدوافع الأساسية نحو "قصر السعادة "، حيث يبلغ الشاب منتهى " التقليع" بحثًا عن "حياة أخرى" فيتحول بذلك وتحت تأثير المخدرات من شاب محبط بلا أمل إلى شاب شجاع بل يرى نفسه وحسب الأسطورة اليونانية القديمة " أدونيس الراعي الجميل الذي أحبته أفروديت" .
وتتوغل المسرحية على أرض التشظي لتبرز انخرام الجوانب العلائقية والقيمية داخل العائلة فتبدو الأدوار غريبة ولقيطة. وهنا ينصاعد الحوار على خشبة قصر السعادة إلى مستويات غير معهودة فيتبدّى العنف اللفظي في تجليات نادرة ويصبح اغتصاب الاب لابنته فاصلة في نص اجتماعي عويص الفهم، فيتزعزع الثابت لدى المتلقي ويشرع الجمهور في طرح الأسئلة التي يجب أن تطرح وربّما يحملها معه إلى خارج قاعة المسرح لمناقشتها والبحث لها عن أجوبة، وهذا ما صبا إليه فريق المسرحية.
"قصر السعادة" كانت مسرحية مقدامة وشجاعة أمام أهمية وراهنية القضايا التي تطرحها
المخرج نزار السعيدي وطاقمه التقني صبري العتروس في السينوغرافيا وعلي الهلالي في الإضاءة، وبأسلوب "بريشتي" أزاحوا كل الحواجز مع الجمهور وألغوا الكواليس وتقشفوا في الديكورات والمتمّمات، لا لشيء إلا ليصبح الجميع في فلك واحد حول القضايا المطروقة في هذا العمل. وقد كانت سرديات الإضاءة في " قصر السعادة " هي التقنية المثلى لتوريط المتلقي وإيصال الرسائل الخطرة حول ما يحدث في المجتمع التونسي من انهيارات لا مرئية، 27 كشافًا ضوئيًا جزء منها معلق في سماء القاعة والبقيّة بيد الممثلين ينقلونها بعناية سينوغرافية فوق الخشبة كانت أقباسًا حول أسئلة المسرحية الحارقة.
"قصر السعادة" التي يقوم بأدوار شخوصها كلّ من الفنّان القدير جمال ساسي ومجموعة من المسرحيين الشباب هم انتصار عيساوي وآمال كرّاي وفاطمة عبادة وعلاء الدين شويريف وحمّودة بن حسين، كانت مسرحية مقدامة وشجاعة أمام أهمية وراهنية القضايا التي تطرحها أو تثير منها زوايا منسية ومستوى الحفر الجمالي الذي قامت به على الخشبة.
اقرأ/ي أيضًا:
افتتاح أيام قرطاج المسرحية.. قدر المهرجان بين المأسسة والعودة للثوابت الفكرية
مسرحية "النّفس" لدليلة المفتاحي: مساءلات بلا قرار حول السجن وحقوق نزيلاته