11-ديسمبر-2019

الحب هو الصمت مرتديًا ثوب الوجود (Getty)

 

كلّما رمتُ تقديم كتاب شعريّ إلا وتنتابني أسئلة عديدة حول أهمية الشعر بالنسبة للإنسان ضمن أزمنة الراهن من قبيل: هل الشعر فعلًا هو منتهى اللغة وسقفه؟ هل هو حالة تفكير قصوى أرقى من التفلسف والرّسم؟ هل الشعر فعلًا هو ترجمة جمالية لحركة الكون التي نستشعرها بالقلب قبل العقل؟ أي فاعليّة ونفعيّة للشعر؟

تتجدّد في كلّ مرّة هذه الأسئلة فتتراءى الأجوبة فيما يشبه الهباء المنثور في ثنايا الشعر الذي يكتبه الإنسان لأخيه الانسان في كل مكان، فتحاول قدر المستطاع فهم ما يحدث داخل اللغة وخارجها لتكتشف أن الشعر هو صيحات داخلية دفينة تحنّ إلى الطيران لا تكفّ عن غوايتنا وجذبنا الى أعالي اللغة وسقف المعنى.

أحمد عمر زعبار هو شاعر تونسي مقيم ببريطانيا نشر بالصحافة التونسية والعربية أشعارًا وقصصًا قصيرة ومقالات نقدية، وشارك في العديد من المهرجانات الشعرية التونسية والعربية والعالمية

اقرأ/ي أيضًا: المنصف المزغني مكرّمًا.. "عصفور من حبر" في سماء الثقافة التونسية

الشعر هو مدائن البلاغة العذبة والقصيّة يسرج جياد الخيال الجموحة للروح لتمتطي صهوتها كلّما أعيتها الحياة، فتبدأ قوافل التخيّيل في السير نحو القمم لتزهر في مدى القلب مروجًا للحب وأقمارًا تعشق في النخيل ذراه وفي الموج فضّته وجرأته على الشاطئ. الشعر هو تجلّ من تجلّيات اللغة وفنونها وأحابيل فتنتها وسيظل وتدًا لخيمة اللغة نراه بيننا ويتجوّل معنا ويقولنا قولًا لا نملّ سماعه.

كل هذه الارهاصات في محاولة فهم الشعر قدحت بمناسبة تقليب المؤلف الشعري "تفّاح المحبة" للشاعر التونسي أحمد عمر زعبار الصادر ضمن طبعة أولى سنة 2019 عن "دار البدوي للنشّر" والموسوم غلافه بلوحة إيحائية للرسّام عثمان البّبة.

المؤلف الشعري "تفّاح المحبة" للشاعر التونسي أحمد عمر زعبار 

 

وأحمد عمر زعبار هو من مواليد 1963 في مدينة الوردانين بالساحل التونسي، نشر بالصحافة التونسية والعربية أشعارًا وقصصًا قصيرة ومقالات نقدية، وشارك في العديد من المهرجانات والتظاهرات الشعرية التونسية والعربية والعالمية. وهو يقيم في لندن بالمملكة المتحدة منذ سنة 1992 حيث يسهم في العمل الثقافي والإعلامي المهجري.

"الحب جسر والخوف حاجز"

"تفاح المحبّة" وبعد أن تتورط في قراءته ويتلبس بك إيقاعه، تشعر بأنك تقف على أرض من كلام ومن لغة ومن معنى سطّرها أحمد زعبار بعناية فائقة في مواقيت وأمكنة مختلفة. وحال بحثك عن السواري الشاهقة والوارفة لهذه الأرض، تجد نفسك أمام سارية من لغة تشبه وتد الخيمة تسامق السماء في علّوها هي سارية الحبّ ولا شيء غير الحب في هذا الكتاب، وهو القطب الذي تدور حوله الأفلاك.

 الحب في ثنايا قصائد "تفاح المحبة" هو أصل الأشياء ومنتهى الروح يوم لا ظل إلا ظلّه، فهو شرط الدنيا والآخرة

اقرأ/ي أيضَا: مسرحية "هوامش على شريط الذاكرة": ذكريات بلا أصل وامرأة في كل فصل

الحب عند أحمد زعبار أطوار وحالات وترحال في المعنى يشبه الوجد المتعالي في سماءات الوجود، الحب في ثنايا قصائد "تفاح المحبة" هو أصل الأشياء ومنتهى الروح يوم لا ظل إلا ظلّه، فهو شرط الدنيا والآخرة.

يقول في بعض ردهات الكتاب: "العشق كينونة الكون وفيض الكيان"، "العاجز عن الحب عاجز عن الحياة"، "الحب هو الصمت مرتديًا ثوب الوجود"، "الحب جسر والخوف حاجز"، "الحب لا يرى ولا يُرى"، "الحبّ أن يهوى الجسد التحليق"، "قليل من الحب يكفي لندرك أنّ خيوط الظلام تحمي الضياء الذي في القمر".

الحب عند أحمد عمر زعبار أطوار وحالات وترحال في المعنى

 

ودفاعًا عن الحب كفلسفة وجود، يهاجم الشاعر التونسي كل أشكال التطرف والعنف بجميع تمثلاته الرمزية والمادية وخاصة التطرّف الديني ولعل "معلّقته" الشهيرة "طلع الجهل علينا" التي كتبها في ذكرى ميلاد مؤسس الوهابية محمد بن عبد الوهّاب وهي معارضة لقصيد "طلع البدر علينا " خير دليل على ذلك.

إذ يقول شاعرنا في الصفحة 46 من ديوان "تفاح المحبة":

"طلع الجهل علينا

لبس الدين قناع

فرض القهر علينا

ورأى الأنثى متاع

ورأى النصر المبينا

في نكاح وجماع

أيها المملوء طينا

إنما العقل شعاع

وظلام الملتحين يكره النور المشاع

أيها المدسوس فينا جئت بالقول الخداع
"

وكغيره من الشعراء الذين توغلوا في الحبّ وتحزبوه خلص أحمد عمر زعبار إلى مرحلة الحب الصوفي حيث مدارات النّقاء والصفاء، ونجده في هذا العمل يختلق محاورة مع الشاعر الصوفي "النّفري" فيبوح بوحًا لافتًا جذّابًا قائلًا في الصفحة 37 من مؤلفه:

"الباحث عن نفسه في المرآة..

يسأل صورته عن ذاته

كالباحث عن معنى حياته.. في رنين الكلمات
"

التجربة الشعرية لزعبار نموذجًا مغريًا للنقاد

تبدو النّصوص الشعرية المكوّنة لمجموعة "تفّاح المحبّة" لصاحبها أحمد عمر زعبار كخرائط بشيفرات لا تؤدي إلا إلى مدائن الحبّ والعشق وسيرة البرق وهو يقدح في القلوب العاشقة، وهي أيضًا ذات إيقاعات خليلية منزاحة للمشطور تمسك بتلابيب الأذن وتجذبها جذبًا لطيفًا لتسري في مسارب الرّوح محمّلة بسلال من الإاستعارات التي تسهّل على القارئ ترصيف المعاني وتأمل الصور الشعرية.

 تبدو النّصوص الشعرية المكوّنة لمجموعة "تفّاح المحبّة" لصاحبها أحمد عمر زعبار كخرائط بشيفرات لا تؤدي إلا إلى مدائن الحبّ والعشق 

يوطّن للغة شفيفة مدهشة ومؤلمة، ويفتح أشرعة الحلم على الوجود الواسع اللامحدود متجاوزًا الهواجس والأوجاع وقسوة الغربة واستبداد الحنين. بذلك تمثل التجربة الشعرية لأحمد عمر زعبار نموذجًا مغريًا للنقاد لما تفتحه من آفاق واسعة تسنح بتعدد الزوايا والقراءات النقدية وذلك لما تحمله في طيّاتها من عمق ومراكمة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الموروث الشعبي المنسي.. الشعر الغزلي الإباحي في التراث التونسي

أيام قرطاج الشعرية.. هاجس التأسيس لا يمنع التفلسف حول جدوى الشعر