"لم ألعب يومًا بالأراجيح كبقية أترابي، ولم أطلق العنان للركض لا في ساحة المدرسة ولا حتى في البيت. عليّ المشي فقط والانتباه من أن أقع أو أجرح"، هكذا تحدّث محمد أمين (18 سنة) لـ"الترا تونس" عن معاناته مع مرضه الهيوموفيليا أو الناعور أو كما يسمّى أيضًا نزف الدم الوراثي.
يواصل محمد أمين حديثه مسترجعًا ذكريات طفولته: "كم تمنّيت لو بالمرجوحة لعبت وجرّبت إحساس الطيران أو الانزلاق، وكم تمنيت لو سابقت رفاقي في لعبة الركض. لم أعش طفولتي مثل أي طفل عادي، لم أكن أفقه ما تعنيه أمي "لا فأنت مريض وستجرح"، وقد كان سؤالي دائمًا ماذا لو جُرحت مثل كل طفل في ذلك العمر؟ كنت أظنّ أنّ أمي تعاقبني حين تمنعني من اللعب، لأنني لم أكن أفقه معنى أنّ جرحي ليس كجرح البقية. لم أتأقلم مع مرضي بحكم صغر سني وعدم درايتي به".
محمد أمين (مُصاب بالهيموفيليا): لم أعش طفولتي مثل أي طفل عادي ولم أكن أفقه معنى أن جرحي ليس كجرح بقية الأطفال
حرم هذا المرض محدثنا من عيش حياة طبيعية ولا يزال كذلك، لاسيما وأنّه لا يستطيع لعب مباراة كرة القدم مع رفاقه، عليه فقط ممارسة بعض الرياضات التي لا تعرّضه إلى خطر الوقوع أو التدافع والصدامات. وقد اكتشفت أمه إصابته بالهيموفيليا حينما كان بعمر ست سنوات، حين قام بتغيير أحد أسنانه ولم يتوقف نزيف الدم من فمه.
الهيوموفيليا.. مرض وراثي ومزمن
الهيوموفيليا ليس فقط المرض الذي يصيب أنظمة تجلّط الدم في جسم إنسان معرّض لتزيف شديد من أيّ حادث يومي بسيط، بل هو مرض مزمن يتطلب رعاية خاصة جدًا. فحين إصابة شخص عادي بنزيف، يقوم جسمه بتنشيط أنظمة تجلط الدم حول الوعاء الدموي المصاب، لكن مرضى الهيموفيليا يعانون من عدم تجلّط الدم نتيجة خلل في المادة التي تقوم بوظيفة تخثر الدم، وهو ما يؤدي إلى نزيف مستمر.
وتوجد أنواع من البروتينات اللازمة لتخثر الدم في الحالة الطبيعية تكون ناقصة في دم مريض الهيموفيليا على غرار بروتين يدعى "العامل 8" وهذا النقص هو مرض "الهيموفيليا أ"، وهناك مرضى آخرون يكون لديهم نقص في بروتين آخر يدعى "العامل 9" وهؤلاء يصنفون ضمن قائمة مرض "الهيموفيليا ب".
الهيموفيليا هو مرض نادر ومزمن نتيجة خلل في المادة التي تقوم بوظيفة تخثر الدم وهو ما يؤدي إلى نزيف مستمر عند أي جرح
وتتمثل أعراض المرض في حصول نزيف أطول من الطبيعي مع إصابات بسيطة، ونزول دم في البول، إضافة إلى النزيف داخل العضلات أو المفاصل. فيما تتمثل أخطر أعراض نزيف الهيموفيليا في حدوث نزيف في المخ أو النخاع الشوكي.
هو مرض وراثي ومزمن وغير معد يصيب الأطفال الذكور على وجه الخصوص، ويؤدي في حال إهمال علاجه إلى مضاعفات قد تتسبب في الإعاقة.
ولأنّه مرض نادر، فهو غير معلوم عند أغلب الناس، لكنّه يحمّل الأسرة عبئًا وخوفًا كبيرًا من الجروح أو الصدمات التي قد يتعرّض لها الأطفال. مرض يجب أن تتشارك فيه الأسرة والحضانة وثمّ المدرسة لحماية الأطفال المصابين بالهيموفيليا من الألعاب الثقيلة حتى لا تنتج عنها جروح تتسبب في نزيف الدم، مرض يجعل من الطفل لا يتنقل دون دواء ينقذه في حال تعرّض إلى جرح أو حادث حتى وإن كان بسيطًا.
مرض يحتاج لرعاية خاصة
كريمة (38 سنة) اكتشفت مرض ابنها منذ أن كان عمره ثلاث سنوات بعد وقوعه وجرح يده وركبته. كانت الجروح عميقة خاصة على مستوى الركبة التي ظلت تنزف لمدة طويلة.
توقعت أنّ الأمر يتطلب فقط مجرّد إسعافات بسيطة وضمادات عادية وكل شيء سيصبح بخير، لكنها تفاجأت بالطبيب وقد دعاها إلى إجراء فحوصات طبية لابنها. وقع الخبر كان صادمًا بالنسبة لها، مرض لم تسمع عنه من قبل ولم تكن تعلم حتى أنّه مرض مزمن، وفق قولها.
كريمة (أمّ طفل مُصاب بالهيموفيليا): لم ألحق ابني بأي روضة أطفال أو حضانة مخافة وقوعه أو إصابته خلال اللعب
منذ ذلك الوقت وهي تخاف مجرد أن يُخدش ابنها حتى خدوش بسيطة، وتقول لـ"الترا تونس" أنها لم تلحقه بأي روضة أطفال أو حضانة مخافة وقوعه أو إصابته خلال اللعب، حتى أنّها ترافقه خلال ذهابه إلى المدرسة أو العودة منها.
يبلغ عدد المصابين بمرض الهيموفيليا، وفق الجمعية التونسية للهيموفيليا، 500 حالة. لكن آمنة قويدر، الطبيبة المختصة في أمراض الدم والمسؤولة بمركز الهيموفيليا بمستشفى عزيزة عثمانة، رجحت أن يكون العدد أكثر وقد يصل إلى الألف حالة نظرًا لوجود حالات غير مسجلة أو غير مصرح بها من قبل عائلات المرضى.
توفيق الرايسي، رئيس الجمعية التونسية للهيموفيليا، تحدث لـ"الترا تونس" عن وجود مركز خاص لعلاج مرضى الهيموفيليا بمستشفى عزيزة عثمانة بالعاصمة، وهو يعتبر المركز الوحيد المتخصص في تونس والذي يتولى علاج 60 في المائة من المرضى بشمال البلاد، فيما يتمّ علاج البقية في أقسام أمراض الدم بالعيادات بالمستشفيات.
وأكد أنّ المرض نادر وهو ما يجعل العديد من الناس لا يعرفونه ويجهلون طبيعته، حتى أنّ العائلات التي تكتشف إصابة أحد أبنائها به لا تستوعب فكرة أنّه مرض وراثي أو أنه مزمن، وفق قوله.
توفيق الرايسي (رئيس الجمعية التونسية للهيموفيليا): الهيموفيليا مرض نادر وهو ما يجعل العديد من الناس لا يعرفونه ويجهلون طبيعته
وأضاف أنّ الجمعية تقوم بحملات توعوية مستمرة حول طبيعة المرض، وتنظم لقاءات سنوية مع عائلات الأطفال المرضى لإرشادهم حول كيفية التعامل مع الطفل المريض. كما أشار محدّثنا إلى أنّ الصندوق الوطني التأمين على المرض يتحمّل كلفة العلاج، لكن المشكل في غير المضمونين الذين تتحمل المستشفيات نفقة علاجهم.
هو مرض، في نهاية المطاف، يسلب من صاحبه بعض متع الحياة خاصة ممارسة الرياضة التي يحبها، يقيّد حركته ويجعله دائم الحذر، فيما تظلّ عين العائلة يقظة ومحتاطة من نزيف لا يكفّ. ويبقى العمل، في الأثناء، على ضرورة التوعية المستمرة لمرضى الهيموفيليا وعائلاتهم بآخر المستجدات في الميدان الطبي من أجل حسن التوقي ونجاعة العلاج في صورة حصول نزيف.