26-ديسمبر-2018

أزمة متفاقمة للصناديق الاجتماعية في تونس (ياسين القايدي/وكالة الأناضول)

 

بدأت الوضعية المالية للصناديق الاجتماعية في تونس تزداد تعقيدًا منذ سنة 2015، بعدما أخذ عجز هذه الصناديق يأخذ منحى تصاعديًا. لكن المصاعب المالية لهذه الصناديق انطلقت حقيقة منذ 20 سنة لأسباب متعددة أهمها الخيارات الاقتصادية، والعوامل الديمغرافية بالإضافة إلى العوامل المتصلة بالطابع التوزيعي لأنظمة التقاعد.

وتتمثل هذه الأسباب تفصيلًا في تفشي ظاهرة البطالة، وتهرب المشغلين من التصريح بكافة الأجراء، وظهور أنماط تشغيل هشة، وتراجع عدد المنخرطين في مقابل ارتفاع عدد المتقاعدين مع تسجيل 3.25 مساهم منخرط نشيط لكل متقاعد سنة 2015 في حين كان العدد الضعف تقريبًا بـ6.39 منخرط مساهم لكل متقاعد سنة 1992، وذلك دون نسيان عامل ارتفاع أمل الحياة عند الولادة الذي بلغ 75 سنة في تونس.

بدأت الوضعية المالية للصناديق الاجتماعية في تونس تزداد تعقيدًا منذ سنة 2015 بعدما أخذ عجز هذه الصناديق يأخذ منحى تصاعديًا

اقرأ/ي أيضًا: أعوان صندوق التقاعد: الانتفاع بمبالغ ضخمة وامتيازات دون وجه حق!

طرحت الحكومة جملة من الإصلاحات للخروج من الوضعية التي أصبحت كارثية للصناديق، وأحد هذه الحلول هو الترفيع في سن التقاعد من 60 إلى 62 سنة، غير أن مشروع قانون التقاعد لم يحظ بمصادقة البرلمان لعدم تحصيله على النصاب المطلوب، وهو ما أثار جدلًا بين الكتل النيابية التي تسابقت لتبادل الاتهامات حول تحمّل المسؤولية.

يقوم، في الأثناء، الضمان الاجتماعي على مبدأ التضامن بين الأجيال، إذ يدفع جيل اليوم مساهماته من أجل أن ينتفع المتقاعدون بجرايتهم، وفي المستقبل عندما يصبح جيل اليوم متقاعدًا، سيقوم الجيل القادم بدفع المساهمات من اجل أن يتمتع بجرايات التقاعد، وهكذا.

ويعتبر الضمان الاجتماعي أخر حصون التكافل والتضامن بين الأجيال غير أن هذا الحصن هو مهدد اليوم بالانهيار نظرًا للوضعية الكارثية لكل من الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية (القطاع العام) والصندوق الوطني للضمان الاجتماعية (القطاع الخاص) وأيضًا الصندوق الوطني للـتامين على المرض.

وقد سجلت النتائج الجملية للصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي منذ سنة 2005 اختلالًا في التوازنات المالية بتفاقم العجز من 30 مليون دينار سنة 2005 إلى 400 مليون دينار سنة 2015. وبلغ هذا العجز موفى 2016 أكثر من مليار دينار، فيما وصل سنة 2017 إلى ما يقارب 1800 مليون دينار. ومن خلال الاطلاع على تقرير نشاط الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية، يتبيّن أن عجز الصندوق لوحده بلغ 442 مليون دينار سنة 2015 ثم 475 مليون دينار سنة 2016.

يعتبر الضمان الاجتماعي أخر حصون التكافل والتضامن بين الأجيال

وتضطر الدولة في كل مرة إلى تعبئة موارد الصندوق الوطني للتقاعد و الحيطة الاجتماعية كحلول ترقيعية حتى يتم تنفيذ إصلاحات هيكلية. وتعود أسباب عجز الصناديق الاجتماعية إلى تفشي ظاهرة البطالة بعد تجميد الانتداب في الوظيفة اللعمومية منذ 3 سنوات إضافة لعجز الدولة عن خلق مواطن شغل جديدة عدا عن التحولات الديمغرافية التي شهدتها تونس وارتفاع نسبة الشيخوخة والعائد إلى عاملين أساسيين وهما ارتفاع مؤمل الحياة عند الولادة وانخفاض الخصوبة.

وقد انجرّ عن جملة هذه الأسباب ضغط مالي على نظام التقاعد الممول وفق مبدأ التكافل بين الأجيال الذي يستند عليه النظام التوزيعي، وذلك إضافة إلى اعتقاد بعض الخبراء أن نظام التقاعد في تونس يعتبر من أسخى الانظمة في العالم.

اقرأ/ي أيضًا: الصناديق الاجتماعية في تونس.. إفلاس غير معلن

ووظفت الحكومة لحل هذه المعضلة في قانون المالية لسنة 2018 توظيف نسبة 1 في المائة كمساهمة اجتماعية تضامنية لفائدة الصناديق الاجتماعية. وهي مساهمة لن يكون لها تأثير إذا لم تكن في إطار إستراتيجية كاملة تبناها مشروع قانون التقاعد الذي تضمن بالخصوص الترفيع في سن التقاعد والترفيع في نسبة المساهمة في الصناديق، ولكن سقط المشروع في البرلمان وهو ما جعل وزير الشؤون الاجتماعية محمد الطرابلسي يعلّق بأنه كان يجب إبقاء قانون التقاعد بعيدًا عن التجاذبات السياسي، معتبرًا أن هذا الرفض ضربة كبيرة لإصلاحات الصناديق الاجتماعية.

وينص مشروع القانون على الترفيع بعامين في سن التقاعد بالقطاع العمومي وذلك بتحديد سن الاحالة للتقاعد بـ 62 سنة وتحديد سن الاحالة للتقاعد بالنسبة إلى العملة الذين يقومون بأعمال منهكة ومخلة بالصحة بـ57 سنة على أن تضبط قائمة هذه الأعمال في أمر حكومي.

من جانب آخر، اقترحت المعارضة، خلال مناقشة مشروع قانون المالية لسنة 2019، توظيف نسبة 1 في المائة من رقم معاملات البنوك والشركات العاملة في مجال التأمين والمحروقات لفائدة الصناديق الاجتماعية، وهو ما تمّ تمريره في البداية قبل أن يفرض وزير المالية رضا شلغوم، قبيل المصادقة على القانون برمّته، تأجيل تطبيق هذا الفصل لسنة أخرى. وقد اتهمت المعارضة الوزير، في هذا الإطار، بالخضوع لضغوط لوبيات البنوك وشركات التأمين، وهو ما تنفيه الحكومة.

تضطر الدولة في كل مرة إلى تعبئة موارد الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية كحلول ترقيعية حتى يتم تنفيذ إصلاحات هيكلية

يأتي، في ذات الإطار، تقرير دائرة المحاسبات الحادي والثلاثين الصادر في ديسمبر/كانون الأول 2018 ليسلط الضوء عن جزء من أسباب هذا العجز، إذ يبيّن أن الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية قد صرف جرايات لأشخاص متوفين بقيمة أكثر من 48 مليون دينار، كما تكبد دون وجه حق لاعباء بقيمة أكثر من 26 مليون دينار في التصرف في رأس المال عند الوفاة.

وصرف الصندوق أيضًا مبالغ دون وجه حق بأثر رجعي ل 107 عونًا فاقت 706 ألف دينار  إضافة إلى عدة إخلالات أخرى، وطبعًا دون الحديث عن عجز الصندوق الوطني للتأمين على المرض البالغ موفى 2017 ما يقارب 2600 مليون دينار وهو متأتي من الديون المتخلدة بذمة صناديق نظام التقاعد.

ولعل أزمة صرف جرايات المتقاعدين مؤخرًا هي خير دليل على ما تعانيه الصناديق الاجتماعية من مشاكل هيكلية ومالية، لكن ارتفاع معدلات العجز في ظل غياب حلول جذرية قد يهدد بانهيار هذه الصناديق، وتلك كارثة قد تعجل بدمار آخر حصون التضامن الاجتماعي في تونس.

 

اقرأ/ي أيضًا:

عدم دفع موظفي الصناديق الاجتماعية لمساهماتهم.. امتياز عمّق أزمة الصناديق

توريث الوظائف: الأقربون أولى بالوظيفة!