16-سبتمبر-2020

أول يوم في العودة المدرسية بمدرسة "الشهيد سامي المرابط" بأكودة (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

 

الساعة الثامنة صباحًا، أصوات الرصاص تدوّي.. وحدات نظامية مدجّجة بالسلاح تلوّح بالنصر. المكان محاصر من كافّة الجهات وإسناد تامّ من المواطنين حول المكان. مزيج من الألم و الفرح. صيحات النصر تجرّ وراءها دموع الحسرة على سقوط شهيد الوطن "سامي مرابط" و إصابة زميله "رامي الإمام".

نحن لسنا في ساحة وغى ولا صحاري عاريات ولا جبال راسيات. نحن هنا على عتبات مدرسة ابتدائية بحي حاتم في مدينة أكودة الساحلية. هنا يكتب حراس الوطن تاريخًا جديدًا في مقاومة الإرهاب. هنا، من هذا المكان تتخرّج "كتائب العلم" لمقاومة الجهل والحقد والكراهيّة. وهنا تم القضاء على ثلاثيّ إرهابيّ بعد أن قاموا بدهس عوني حرس وطني في مفترق الطرق القريب من هذه المدرسة. هناك ارتكب إرهابيون ثلاث جريمتهم الشنعاء دهسًا وطعنًا و"احتطابًا" للأسلحة. هناك في المفترق استيقظت تونس على جرمهم وهنا في المدرسة أصبحنا على دحرهم. في مدرسة  تستقبل أبناءها من التلاميذ في عودة مدرسية استثنائية بعد أن طالت العطلة وأطالها وباء كورونا.

 هناك في المفترق استيقظت تونس على جرمهم وهنا في المدرسة أصبحنا على دحرهم؛ في مدرسة تستقبل أبناءها من التلاميذ في عودة مدرسية استثنائية بعد أن طالت العطلة وأطالها وباء كورونا

في هذا الصباح، انتشرت صور الإرهابيين الثلاث قتلى مدرّجين في دمائهم فوق أسطح أحد فصول مدرسة شاحب لونها باهتة صورتها، تكدست النباتات البرّية في أرجائها واهترأت مقاعدها وخربت مرافقها الصحية. طال غلقها بسبب الجائحة و ظلت تتنفس بصعوبة حتى تستأنف العودة المدرسية و تستقبل أطفالها. بضع أيام كانت تفصل المدرسة على عودة الحبر إلى السيلان والناقوس إلى الخفقان، وعن سماع ضحكات الأطفال وصياح البنات وأزيز الكراسي والطاولات. لكن ما يحدث الآن أمر جلل...

دخل الطفل مدرسته وهو مشدوه فكل شيء قد تغيّر (ماهر جعيدان/ الترا تونس)

أطلّ تلميذ من باب بيته المجاور للمدرسة. كاد لا يصدّق عينيه بما رأى. قوات الأمن منتشرة في الأرجاء. و سمع عن مجرمين في مدرسته. خاف الطفل واختبأ وراء جدار. تراجع قليلًا وهرب من المكان الذي طالما أشعره بالأمان. اعترضه رجل طويل القامة فاصطدم بقدميه. قال له الرجل الطويل الصلب: "لا تخف يا بنيّ سنطهّر المكان من المجرمين وتعود إلى ثكنتك آمنًا لتنهل من العلم". فأجابه الطفل مرتعدًا: "لن أعود إلى هنا فأنا خائف". فردّ الرجل: "لا تخف". لم يكن ذاك الرجل الطويل غير ذاك "المسؤول" الذي يركض في الشارع كلما سمع بمصيبة قد حلّت بمؤسسة في مرجع نظره. اختفى الطفل عن ناظريه، ليكون لهما أيامًا قليلة أخرى لقاء في ذات المكان ويكون للمكان معهما لقاء.

كلّ شيء تغير في المدرسة؛ الجدران، الأبواب، الألوان، الأشواك، المقاعد... لعلّه القدر الذي أشرق فجأة على هذه المدرسة التي عاشت سنوات من الفقر، لتصبح بقدرة الله قبلة المدارس في تونس في هذا الصباح الجديد

الخامس عشر من سبتمبر/أيلول، الثامنة صباحًا، خرج الطفل من بيته القريب رفقة أبيه ليلتحق بالفصل الذي تركه منذ 5 أشهر. كان الطفل يمشي في الطريق ورأى شجيرات على اليمين واليسار قد غرست حديثَا، وصل أمام مدرسة "الشهيد سامي المرابط"، فلاحت أمامه أسوار ناصعة البياض وباب حديديّ أزرق يلمع لمعانًا ولافتة أعلاه ترحب بالضيوف والزهور منتشرة يمينًا و يسارًا. دخل الطفل وهو مشدوه رفقة أبيه وقد ارتدى ميدعته الموحّدة مع زملائه على غير العادة. كلّ شيء تغير في المدرسة؛ الجدران، الأبواب، الألوان، الأشواك، المقاعد... لعلّه القدر الذي أشرق فجأة على هذه المدرسة التي عاشت سنوات من الفقر، لتصبح بقدرة الله قبلة المدارس في تونس في هذا الصباح الجديد.

 "لعلّه القدر الذي أشرق فجأة على هذه المدرسة التي عاشت سنين من الفقر" (جمعية أكودة زمان)

ماهي إلا دقائق حتى وصلت وفود رسميّة إلى المدرسة وحلّت فرق أمنية مختلفة لتؤدي التحية الرسميّة واصطفّ المعلّمون أمام العلم المفدّى.عشرات من الصحافيين وعدسات الكاميرا كانت ترافق رئيس الحكومة وهو يجوب الفصول، يتفقد التجهيزات والإمدادات المادية والبشرية لهذه المدرسة التي كانت منذ أسبوعين منسيّة. وكان أحد نواب مجلس الشعب يتفقّد قميصه الذي أصابه شيء من سائل الدهن الذي لم يجفّ بعد.

حادثة القضاء على إرهابيين في "ثكنة العلم" أصابت الإرهاب في مقتل وأيقظت العزائم بتجديد ثوب هذه المدرسة الضائعة في الزمان وصنعت مجدًا للمكان

حادثة القضاء على إرهابيين في "ثكنة العلم" أصابت الإرهاب في مقتل. أيقظت العزائم بتجديد ثوب هذه المدرسة الضائعة في الزمان وصنعت مجدًا للمكان. وعاد ذاك الفتى الخائف إلى صفوف الدراسة و قد أخذته العزة بمدرسته التي شهدت لحظة تاريخية في مقاومة قوى التطرّف والعنف والظلام...عاد الطفل إلى مقعد الدراسة وهو مفتخر بقدوته الجديدة "البطل سامي مرابط".

"العملية الإرهابية أيقظت العزائم بتجديد ثوب هذه المدرسة الضائعة" (جمعية أكودة زمان)

127 تلميذًا يستهلون عودتهم المدرسية أفواجًا حسب تعليمات البروتوكول الصحي المعدّ سلفًا و 6 فصول، وعدد المدرسين بها الذين لا يتجاوز الستة ومديرهم، وعون واحد يقوم بدوره في الحراسة والتنظيف.. هذا كل ّ ما يمكن أن نشاهده في مدرسة "حي حاتم " بأكودة.

حادثة مفترق أكودة سالت فيها الدماء ولكنها أينعت إرادة الحياة من أجل وطن خال من الإرهاب وأسهمت في هبّة غير مسبوقة لإنقاذ مدرسة من الضياع وتعزيز منارة علم  قد تبدع في وصل علماء الماضي بعلماء الآتي

هي مدرسة حديثة  تنضمّ إلى  المدارس العريقة المنتشرة في المدينة. مدينة أشعت بشخصيات في أزمنتها داخل وخارج البلاد بعلمها ومعرفتها وأعطت المدينة وجهًا لنضارتها وتفتحها وتسامحها، من بينها علي الورداني مستشار خيرالدين التونسي (1860 – 1914) الذي كان لسان النخبة الإصلاحيّة، والشيخ راجح إبراهيم الملقب "منارة الساحل" (1882-1933) الذي كان يدعو في كتاباته في الصحافة إلى إصلاح تونسي أصيل قائم على أساس "الحوار بين العاطفة الشرقية والعقلانية الغربية، دون تمشرق ولا تمغرب ودون تذبذب"، والشيخ سالم بن حميدة "فيلسوف الساحل"(1882-1961) الذي تميّز بمواقفه الشجاعة في المطالبة بتعليم المرأة وتمكينها من حقوقها وبرفع الجهل والأمية عن المجتمع التونسي، والشيخ إبراهيم بن حميدة الأكودي (1890-1942) وهو من رواد المسرح "وأحد أولئك العمالقة الذين عبدوا طريق المسرح للذين أتوا بعدهم"... ولا تزال أكودة تنجب جيلًا ناشئًا من صانعي العلم والحياة.

كانت جمعية "أكودة زمان" مجنّدة بشبابها من أجل تجديد ثوب المدرسة (جمعية أكودة زمان)

بعد العملية الإرهابية في مفترق أكودة، التي تورط فيها إرهابيان أصيلا المنطقة  تم القضاء عليهما في فضاء المدرسة، أطلقت  الناشطة في المجتمع المدني مروى عبد الرازق صرخة فزع وكتبت على جدارها في موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك":

"أنا خوفي الآن على أكودة، أكودتي الصغيرة الجميلة الهادئة.  أكودة اليوم لم تعد هادئة، اكودة نزفت أمس وستنزف إن لم يتحرك أبناؤها وبناتها... نعم العمليات الاستباقية والمجهود الأمني مهم لمكافحة التطرف العنيف لكن دورنا نحن كمجتمع مدني، كأساتذة، كأولياء أن نقوم بتوعية أبنائنا، لن نتحمل موت أي من أبنائنا بعد الآن. لندع خلافاتنا جانبًا أرجوكم ولنلتف حول مدينتنا. صديق من أصدقائي اتصل بي البارحة كي يطمئن على حالي، قلت إنني مضطربة الآن، أحس بحسرة في قلبي على أبناء مدينتي الصغيرة. كانت أكودة منارة علم، كنا عندما نبحث عن أكودة في محرك بحث غوغل نجد الفيلسوف الأكودي سالم بن حميدة، نجد مقتطفات من كتاب هويدة، نجد صورنا مع الغرفة الفتية والمصائف والجولات، صورنا في شواطئ شط ماريا والطنطانة... اليوم نتائج البحث الأولي على غوغل بشتى اللغات تتحدث عن العملية الإرهابية. رفقًا بنا أرجوكم رفقًا بنا.  لم أستطع النوم البارحة و لم أذهب لعملي اليوم، لازلت تحت تأثير الصدمة. صور الشهيد الوكيل سامي المرابط لم تفارقني برهة، صور زوجته وأبنائه أبكتني. عائلتي أيضًا لم تنم للآن..نحن خجلون من أفعال أبناء مدينتنا، نعتذر ولو أن الاعتذار لن يعيد الشهيد سامي لعائلته ولوطنه. أعتذر لأنني أهملتك أكودة وانشغلت بمستقبلي المهني. أنا مخطئة أيضًا لأنني أهملت أبناء بلدتي. صدقًا، تأنيب الضمير أتعبني... أكودة اليوم نزفت من الإرهاب، لكنها الأشهر الماضية نزفت من العمليات الإجرامية، نزفت من قلة ذات اليد، أكودة نزفت لأن أبناءها أهملوها..أعتذر أكودة ".

"هي مدرسة حديثة  تنضمّ إلى  المدارس العريقة المنتشرة في المدينة" (جمعية أكودة زمان)

من جهته، قال نجيب الزبيدي المندوب الجهوي للتربية بسوسة إن "حادثة مدرسة أكودة هي قصة تتضمن عاطفة وطنيّة عاصفة وإرادة تغيير من واقع خوف إلى واقع شجاعة وأمل وتحوّل من التردد إلى الإنجاز".

حادثة مفترق أكودة سالت فيها الدماء ولكنها أينعت إرادة الحياة من أجل وطن خال من الإرهاب وأسهمت في هبّة غير مسبوقة لإنقاذ مدرسة من الضياع وتعزيز منارة علم  قد تبدع في وصل علماء الماضي بعلماء الآتي.

 و كانت جمعية "أكودة زمان" مجنّدة بشبابها من أجل تجديد الثوب لمدرسة الشهيد "سامي المرابط" أصيل مدينة المكنين، وساهمت شخصيات اعتبارية بالجهة في عملية الدعم المادي والتعهد بالأشغال حتى يلتحق ذلك الطفل بمدرسته و قد نزع عنه الخوف من المجهول وتمسك بمستقبل مضيء.

 

اقرأ/ي أيضًا:

العودة المدرسية في تونس.. طلب العلم تحت رصاص العدو

أيّ دلالات لهجوم أكودة الإرهابي؟ خبراء يجيبون