توازيًا مع الخروقات والانتهاكات التي تستهدف استقلال القضاء، تصاعدت التتبعات ضد المحامين، بالخصوص النائبين في القضايا السياسية، بما زاد في إضعاف ضمانات المحاكمة العادلة. وهو ما دفع جمعيات حقوقية في مقدّمتها الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان لإطلاق حملة بعنوان "محامون ومحاميات تحت الرقابة" بمناسبة اليوم العالمي للمحامين المعرضين للخطر بتاريخ 24 جانفي/يناير من كل عام، والذي صادف هذا العام جلسة تحقيق مع المحامية سنية الدهماني إثر شكاية من السلطة على خلفية تصريح إذاعي حول وضعية السجون في تونس.
توازيًا مع الخروقات والانتهاكات التي تستهدف استقلال القضاء، تصاعدت التتبعات ضد المحامين، بالخصوص النائبين في القضايا السياسية، بما زاد في إضعاف ضمانات المحاكمة العادلة
- رصد للملاحقات القضائية ضد المحامين
قائمة المحامين الذين شملتهم ملاحقات قضائية تتعلق بوضعهم المهني أو نشاطهم السياسي والحقوقي، وفق تقرير الحملة، تشمل ما لا يقل عن 40 محاميًا منذ 25 جويلية/يوليو 2021.
وقد ابتدأ إسهال الملاحقات وقتها مباشرة بإثارة النيابة العسكرية لقضية ضد المحامي مهدي زقروبة وعدد من النواب، من بينهم سيف الدين مخلوف، فيما يُسمى "واقعة المطار" التي كان قد تعهّد بها القضاء العدلي.
والقضايا العسكرية تفاقمت بشكل غير مسبوق مقارنة بالسنوات السابقة، إذ شملت كذلك العميد السابق للمحامين عبد الرزاق الكيلاني على خلفية توجّهه لعناصر في الأمن أمام مستشفى ببنزرت داعيًا إياهم بتنفيذ أحكام القانون لا أوامر رئيس الدولة، ليجد نفسه محل تتبع أمام القضاء العسكري.
وفي نفس السياق، أثارت الوكالة العامة بمحكمة الاستئناف ببنزرت الدعوى ضد 14 محاميًا، دفعة واحدة، على خلفية توجههم لمركز الأمن بمنزل جميل للاستعلام حول وضعية القيادي في حركة النهضة نور الدين البحيري.
قائمة المحامين الذين شملتهم ملاحقات قضائية تتعلق بوضعهم المهني أو نشاطهم السياسي والحقوقي تشمل ما لا يقل عن 40 محاميًا منذ 25 جويلية 2021 وفق تقرير حملة "محامون ومحاميات تحت الرقابة"
كما تركّزت ملاحقات ضد أعضاء في هيئة الدفاع فيما تُسمى قضية "تآمر على أمن الدولة" على وجه الخصوص بداية بإحالة عبد العزيز الصيد على التحقيق إثر إعلامه الرأي العام في ندوة صحفية تقديم شكاية ضد وزيرة العدل من أجل شبهة ارتكاب جريمة التدليس. كما شملت التتبعات المحاميتين في ذات هيئة الدفاع إسلام حمزة ودليلة بن مبارك مصدق، عبر إثارة قضيتين اثنتين ضد كل واحدة منهما، على خلفية تصريحات صحفية طالبت إثرها النيابة في إحالاتها بتطبيق المرسوم 54 الذي ينصّ على عقوبة سجنية تصل إلى عشر سنوات.
كما شملت التتبعات محامين على خلفية نشاطهم السياسي على غرار غازي الشواشي ورضا بالحاج والعياشي الهمامي وبشرى بالحاج حميدة ولزهر العكرمي ومحمد نجيب الشابي، المشمولين جميعهم بالتتبع فيما تسمى قضية "التآمر على أمن الدولة" التي تؤكد هيئة الدفاع أنها قضية سياسية مفبركة أثارتها السلطة ضد معارضين لها بغية تكميم أفواههم ومنعهم من النشاط السياسي المشروع ضدها.
- انتهاك الضمانات القانونية للمحامين
تتعارض التتبعات ضد المحامين على خلفية أعمالهم مع مرسوم المحاماة لعام 2011 وتحديدًا الفصل 47 الذي ينصّ أنّه "لا تترتّب عن الأعمال والمرافعات والتقارير المنجزة من المحامي أثناء مباشرته لمهنته أو بمناسبتها أي دعوى ضدّه". مرسوم 2011 كان قد نصّ بالخصوص على دور المحامي في حماية الحقوق والحريات الأساسية، الأمر الذي أورده دستور 2014 الذي أكد أن المحاماة تشارك في إقامة العدل وتساهم في الدفاع عن الحقوق والحريات. تنصيص ألغاه دستور 2022.
تتعارض التتبعات ضد المحامين على خلفية أعمالهم مع مرسوم المحاماة والتتبعات لم تنحصر في ممارسة المحامين لأعمالهم بل أيضًا لحرياتهم الأساسية تحديدًا حرية الرأي والتعبير
بذلك يمثل مرسوم المحاماة أساسًا لتوفير الحماية القانونية للمحامين، بما يجعل التتبعات القضائية المثارة تتعارض مع الضمانات المنصوص عليها صلب المرسوم. تعارض مردّه أن التتبعات مثارة في سياق وضع السلطة التنفيذية يدها على القضاء وبالخصوص بعد إخضاع النيابة العمومية لإرادة السلطة السياسية.
والتتبعات لم تنحصر في ممارسة المحامين لأعمالهم بل أيضًا لحرياتهم الأساسية تحديدًا حرية الرأي والتعبير. ويتجلّى ذلك، على وجه التحديد، في حالات المحامين الذين كانوا أعضاءً في البرلمان المنحلّ والناشطين السياسيين عمومًا.
يُضاف أن الملاحقات القضائية ضد المحامين تتعارض أيها مع مبادئ القانون الدولي وتحديدًا المبادئ الأساسية للأمم المتحدة بشأن دور المحامين المعتمدة عام 1990 ومن بينها على سبيل المثال المادة 16 الذي تنص أن "الحكومات تكفل للمحامين القدرة على أداء جميع وظائفهم المهنية بدون تخويف وإعاقة أو مضايقة أو تدخل غير لائق" وأيضًا تكفل "عدم تعريضهم ولا التهديد بتعريضهم للملاحقة القانونية أو العقوبات الإدارية والاقتصادية وغيرها نتيجة قيامهم بعمل يتفق مع واجبات ومعايير وآداب المهنة المعترف بها".
- هل تقاعست هيئة المحامين في الدفاع عن منظوريها؟
أعلنت الهيئة الوطنية للمحامين، في بلاغ بتاريخ 10 جانفي/يناير 2024، رفضها "القاطع والمبدئي المسلك الذي تنتهجه وزارة العدل والنيابة العمومية القائم على استسهال تتبع المحامين جزائيًا لأسباب تتصل بأدائهم لمهامهم أو لمواقفهم وأفكارهم السياسية". بيان صدر إثر إحالة المحامي البشير المنوبي الفرشيشي على التحقيق إثر العثور على مفتاح صغير وشفرات حلاقة أثناء زيارته لمنوّبه بالسجن، ضمن سلسلة الإحالات ضد المحامين مؤخرًا.
تتوجّه مؤاخذات تحديدًا بشأن عدم حيوية هيئة المحامين في التصدّي للملاحقات وممارسة الضغوطات على السلطة التنفيذية للكفّ عن توظيفها للنيابة العمومية في إثارة التتبعات ضد المحامين على خلفية ممارستهم لمهامهم
بيد أن أداء هيئة المحامين في الدفاع عن المحامين الملاحقين قضائيًا بوجه عام يظلّ موضع انتقاد. إذ تتوجّه مؤاخذات تحديدًا بشأن عدم حيوية الهيئة في التصدّي للملاحقات وممارسة الضغوطات على السلطة التنفيذية للكفّ عن توظيفها للنيابة العمومية في إثارة التتبعات ضد المحامين على خلفية ممارستهم لمهامهم على وجه الخصوص.
تساهم الحملة الحقوقية التي أطلقتها جمعيات، في الأثناء، في تسليط الضوء على موجة الإحالات ضد المحامين. وإن كانت هذه الملاحقات تستهدف المساس من حق الدفاع، فإنها لم تمنع من مواصلة نشاط المحامين الحقوقيين دفاعًا عن الحقوق والحريات. ويبقى الرهان في إيقاف نزيف الملاحقات وتأمين ممارسة حق الدفاع دون أي تضييق، رغم واقع هشاشة استقلالية القضاء.