انعقد في تونس في شهر جوان/يونيو الماضي المؤتمر الثلاثين للاتحاد الدولي للصحفيين، أهم منظمة مهنية للصحافة على المستوى الدولي تجمع أكثر من 600 ألف صحفي من 140 دولة، وقد انتهى هذا المؤتمر، ضمن أهم مخرجاته الأساسية، إلى تحيين الميثاق الأخلاقي للمنظمة.
اقرأ/ي أيضًا: أمين عام الاتحاد الدولي للصحفيين: نحو تبني ميثاق جديد لأخلاقيات المهنة (حوار)
الصحافة تقوم على مبادئ مجردة ودائمة
يعتبر هذا التحيين حدثًا بارزًا لأن المواثيق الأخلاقية التي تنظم المهنة الصحفية لا تتغير كل سنة، بما أنها تتضمن مبادئ كونية عامة ومجردة لا تؤثر فيها الأحداث اليومية. وتقوم المواثيق الصحفية تقريبًا على المبادئ ذاتها لأن الصحافة واحدة مهما كان السياق الذي تمارس فيها، إذ لا توجد أخلاقيات صحفية إسلامية أو مسيحية أو يهودية أو هندوسية لأن المبادئ الصحفية كونية يشترك فيما كل الصحفيين مهما كانت انتماءاتهم والأوطان التي يعيشون فيها أو الديانات التي ينتمون إليها.
يمثل تحيين المواثيق الأخلاقية استثناءً فميثاق شرف النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين الموضوع منذ عام 1983 لم يقع تغييره سوى مرة واحدة عام 2018
وقد بينت البحوث الأكاديمية أن الصحفيين في الدول الديمقراطية يتقاسمون عددًا من القيم المشتركة يعتبرونها أسسًا لهويتهم المهنية على غرار اعتبار الصحافة خدمة عامة تقدم للجمهور والموضوعية والاستقلالية والحس الأخلاقي.
هكذا يمثل تحيين المواثيق الأخلاقية استثناءً، فميثاق شرف النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين الموضوع منذ عام 1983 لم يقع تغييره سوى مرة واحدة عام 2018، كما خضع الميثاق الأخلاقي لنقابة الصحفيين الفرنسيين (SNJ) منذ إرسائه عام 1918 إلى تحيين في مناسبتين إثنين فقط (1938 و2011)، فيما عرف ميثاق جمعية الصحفيين الأمريكيين (SPJ) تغييرًا أساسيًا وحيدًا عام 2014 وذلك منذ إصداره عام 1926.
في المقابل، وإن كانت الصحافة ممارسة لا تتغير في جوهرها (أي البحث عن المعلومات والتحري فيها وتحويلها إلى أخبار)، فهي تشتغل في سياقات متغيرة، وليس أدل على ذلك من تأثيرات الميديا الرقمية عليها. ولعل ّإدراج مبادئ تتعلق بمسؤولية الصحافة في الميديا الاجتماعية في عدد كبير من المواثيق الأخلاقية دليلًا على هذا التفاعل بين الصحافة وسياقاتها العملية.
في علاقة الأخلاق بالأخلاقيات
لا بد للقارئ أن يدرك هنا التمييز بين الأخلاق والأخلاقيات: فالأخلاق بشكل عام هي المبادئ العامة التي تسود في المجتمع للتمييز بين الخير والشر، ويمكن أن تكون متصلة بالدين (الأخلاق الإسلامية والمسيحية) ومرتبطة بالثواب والعقاب، وهي ذات مصدر متعال باعتبارها تعاليم يوصي بها الدين. وعلى هذا النحو، إن الأخلاقيات التي يجب أن يلتزم بها الصحفيون ليست الأخلاق التي يلتزم بها الإنسان المتدين، وليس مطلوبًا من الصحفي أن يكون ملتزمًا بالأخلاق كما يعرفها المجتمع لأن ذلك يندرج في إطار الحرية الشخصية. فعلى سبيل المثال، لا يمكن مساءلة صحفي ما لأنه غير ملتزم بالمحظورات التي وضعها المجتمع لنفسه (شرب الكحول في المجتمع الإسلامي مثلًا) لأن لا علاقة لذلك بممارسة الصحافة.
الصحفي يحترم الأخلاقيات المهنية لذاتها وليس ابتغاء لمصلحة ما أو ليغنم منفعة بحثًا عن ثواب
والأخلاقيات الصحفية هي، على نحو ما، امتداد لمبدأ الواجب الأخلاقي كما صاغه الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط في تعريفه للأخلاقيات، لأنها تصدر عن الصحفيين أنفسهم دون غيرهم دون إكراه خارجي، باعتبارها شأنًا خاصًا بهم، وباعتبارهم ينتمون إلى مهنة مستقلة تعبر عن التزام ذاتي.
كما أن الأخلاقيات الصحفية ذات صبغة كونية عامة لا تقبل الاستثناء، فالصحفي لا يطبق معايير مزدوجة على الوقائع. لا يمكن، على سبيل المثال، أن نطبق معايير أخلاقية مهنية على الحكومة وأخرى مختلفة على المعارضة.
اقرأ/ي أيضًا: المفارقة التونسية: هل الصحفيون التونسيون أحرار حقًا؟
كما أن الصحفي يحترم الأخلاقيات لذاتها وليس ابتغاء لمصلحة ما أو ليغنم منفعة بحثًا عن ثواب، فلا يمكن للصحفي أن يطالب مثلًا بأجر إضافي لأنه يحترم الأخلاقيات المهنية. إذ يصبح احترام الأخلاقيات لغايات منفعيّة عملًا غير أخلاقي لأنها (أي الأخلاقيات) تتحول في هذه الحالة إلى وسيلة في حين أنها جزء من احترام الصحفي لنفسه وللآخرين.
ولابد من الإشارة أيضًا إلى أن الأخلاقيات المهنية هي ابتكار المهنة برمتها وليس ابتكارًا لبعض الأشخاص، فلا يمكن لمجموعة صغيرة من الصحفيين أن تضع لنفسها مبادئ أخلاقية خاصة بها وأن تتمايز بها عن الجماعة الصحفية.
كما أن احترام الصحفي للأخلاقيات لا يعني أن الصحفي لا يخضع إلى القانون بتعلّة أنه "صحفي حر". وفي هذا الإطار، تؤكد عدة مواثيق أخلاقية على غرار الميثاق الأخلاقي لنقابة الصحفيين الفرنسيين على أن الصحفي يقبل بالمثول أمام القضاء بالنسبة للجرائم التي ينصّ عليها القانون، ثم يخضع بعد ذلك إلى المساءلة على أساس الأخلاقيات الصحفية.
لماذا المواثيق الأخلاقية أساسية للممارسة الصحافة؟
تكتسي المواثيق الأخلاقية أهمية كبرى في الصحافة لأنها تمثل أو تتضمن المبادئ الأساسية إلي يجب أن يلتزم بها الصحفيون على غرار الكثير من المهن الأخرى كالطب والمحاماة والصيدلة. ولكن على خلاف هذه المهن، ليس للصحفيين عمادة تقوم بتنظيم النفاذ إلى المهنة واتخاذ القرارات التأديبية كالرفت مثلًا ضد من لا يحترم هذه الأخلاقيات.
ابتكر الصحفيون في الدول الديمقراطية أشكالًا متعددة مما يسمّى التنظيم (أو التعديل) الذاتي داخل مهنتهم حتى يخضع الصحفي إلى المساءلة من طرف زملائه أو من طرف الجمهور تطبيقًا لمبدأ المسؤولية
ومن أسباب غياب هذه العمادة في كل دول العالم الديمقراطية، باستثناء إيطاليا، أن الصحافة ليست مهنة حرة والصحفيون المستقلون لا يمثلون سوى نسبة ضئيلة من عدد الصحفيين، إضافة إلى أنهم عادة ما يعملون كأجراء في مؤسسات بما أنهم لا يقدمون خدمة مستقلة بذاتها في علاقة مباشرة مع "الحرفاء". ويمكن أن نفسّر أيضًا غياب آلية العمادة بطبيعة المعرفة التي يحتاجها الصحفي لممارسة المهنة التي ليست بالتخصص الكبير على غرار الطب والمحاماة أو الصيدلة.
في المقابل، ابتكر الصحفيون في الدول الديمقراطية أشكالًا متعددة مما يسمّى التنظيم (أو التعديل) الذاتي داخل مهنتهم حتى يخضع الصحفي إلى المساءلة من طرف زملائه أو من طرف الجمهور تطبيقًا لمبدأ المسؤولية.
أنواع المواثيق الأخلاقية
تتعدد أنواع المواثيق الأخلاقية، فنجد أولًا المواثيق الأخلاقيات الصادرة عن النقابات والهيئات المهنية على غرار ميثاق الإتحاد الدولي للصحفيين وميثاق النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين. كما نجد مواثيق تصدرها مجالس الصحافة وهي هيئات أنشأتها المهنة الصحفية في الدول الديمقراطية باعتبارها محكمة شرف تمكّن الجمهور من تقديم شكاوى ضد الصحفيين في كل ما يتعلق باحترامهم للأخلاقيات الصحفية.
ثم نجد أخيرًا المواثيق التحريرية التي تصدرها المؤسسات الصحفية والتي تجمع في الوقت ذاته المبادئ الأخلاقية والمبادئ التحريرية الخاصة بكل مؤسسة. ويمثل الميثاق التحريري لمؤسسة "البي بي سي" أشهر المواثيق التحريرية على المستوى العالمي. وتونسيًا، إذاعة "موزاييك أف أم" هي أول مؤسسة ميديا في تونسر وضعت مثل هكذا ميثاق.
الأخلاقيات آلية أساسية لمساءلة الصحفيين
الأخلاقيات الصحفية هي الآلية الأساسية التي تنظم العمل الصحفي ومساءلة الصحفيين. وعلى هذا النحو، لا يمكن مساءلة الصحفيين من خارج المرجعية الصحفية نفسها أي بمعنى آخر لا يمكن مثلًا محاسبة الصحفي على عدم احترامه الدين أو الهوية لأن هذه المبادئ غير موجودة في ميثاقه.
لا يخضع الصحفي إلى أي نوع من أنواع السلطات سواء أكانت دينية أو سياسية أو طائفية لأنه لا يبتغي إلا مصلحة الجمهور في معرفة الحقيقة
ويمكن أن نذهب إلى أكثر من هذا للإشارة مثلًا إلى أن مصطلح "الوطنية" غير موجود أصلًا في المواثيق الأخلاقية لأن "الوطنية" مصطلح يمكن أن نعاقب به صحفيًا لأنه لم يكتفي مثلًا بالرواية الرسمية في الأحداث الإرهابية أو في أحداث أخرى حقق في فرضيات التقصير الأمني.
يحيل ما يسمى مبدأ التنظيم (التعديل) الذاتي الذي تقوم عليه الصحافة الديمقراطية على مبدأ أساسي وهو أن الصحفيين لا يلتزمون إلا بالمبادئ التي وضعوها لأنفسهم بأنفسهم بشكل مستقل عن كل السلطات الأخرى، وترتبط كل هذه المبادئ بشكل وثيق بغاية البحث عن الحقيقة.
فنظريًا أو من المنظور المثالي أي "الصحافة كما يجب أن تكون"، يخضع الصحفي فقط إلى واجب السعي إلى الحقيقة لأنها تمثل جوهر الصحافة بما أنها مؤسسة من مؤسسات الديمقراطية التي تحتاج مواطنين عاقلين وراشدين. ولذلك فالصحفي لا يخضع إلى أي نوع من أنواع السلطات سواء أكانت دينية أو سياسية أو طائفية لأن الصحفي لا يبتغي إلا مصلحة الجمهور في معرفة الحقيقة.
المبادئ الأخلاقية للصحفيين التونسيين
تقوم أخلاقيات الصحفيين التونسيين على مصدرين: المصدر الأول هو الميثاق الأخلاقي للإتحاد الدولي للصحفيين، أما المصدر الثاني هو ميثاق شرف النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين.
شهد ميثاق الإتحاد الدولي للصحفيين تحيينًا في بعض مبادئه كما أشرنا في بداية التقرير، والأمر الأساسي الذي يجب أن نشير إليه يتعلّق باستبدال مفهوم الحقيقة بمفهوم الوقائع، وقد يكون ذلك بسبب النقاش حول ما يسمى حقبة ما بعد الحقيقة والأخبار الكاذبة. إذ تحولت الحقيقة، بسبب الاستقطاب الإيديولوجي، إلى موضوع يتخاصم حوله السياسيون والصحفيون، فالرئيس الأمريكي دونالد ترامب، مثلًا، يصف أخبار الصحافة الأمريكية حوله بأنها "أخبار زائفة"، فيما تسخّر هذه الصحافة جهدها لكشف ألاعيب التضليل التي يقوم بها ترامب إزاء الرأي العام.
يؤكد الميثاق الأخلاقي على أن مقتضيات الفورية والسرعة أو العجلة لا تشفع للصحفي الأخطاء أو لا تبرر الأخطاء التي يمكن أن يرتكبها
لم يتخلص الميثاق الجديد للإتحاد الدولي للصحفيين من المبادئ التي تجعل من الصحفي باحثًا على الحقيقة وشغوفًا بها، بل إنها أضافت تفاصيل كثيرة لتعينه على هذه المهمة النبيلة الأولى بإضافة معطيات جديدة أساسية عن المنهجية الصحفية. ورد في الميثاق أنه يجب على الصحفية احترام الوقائع وحق الجمهور في معرفتها، ولا يروي الصحفي إلا الوقائع التي يعلم علم اليقين مصدرها، ولا يحذف المعلومات أو المعطيات الأساسية، ولا يزورالوثائق، ويتعامل بحذر مع المعلومات والمعطيات المنشورة في الميديا الاجتماعية.
اقرأ/ي أيضًا: الصحافة التونسية أمام امتحان "الشعبوية"
كما يعطي الصحفي الكلمة إلى من توجه إليه اتهامات (هذا الخطأ دارج في الصحافة التونسية)، ويؤكد الميثاق على أن مقتضيات الفورية والسرعة أو العجلة لا تشفع للصحفي الأخطاء أو لا تبرر الأخطاء التي يمكن أن يرتكبها، مما يجعل من التحري واجبًا أساسيًا لدى الصحفي، فلا يمكن للصحفي أن يقدم مبررات لعدم احترامه للأخلاقيات بدعوى ضيق الوقت. ومن القيم الجديدة أيضًا التي أكد عليها الميثاق أن الصحفي ليس شرطيًا يلاحق المواطنين أو قاضيًا يطلق أحكامًا على الناس.
وقد صدر ميثاق شرف الصحفيين التونسيين عام 1983 كما أشرنا ولم يشهد سوى تغييرًا واحدًا عام 2018، وهو يتضمن أربعة عشر مبدأ من أهمها "السعي إلى الحقيقة"، والفصل بين المضامين الإخبارية والإشهارية (بمعنى أن الصحفي لا يكتب مضامين ترويجية ويقدمها كمضامين إخبارية)، والتضامن بين الصحفيين (بما في ذلك الامتناع عن ثلبهم في الميديا الاجتماعية)، واحترام السر المهني، وعدم تطويع العمل الصحفي إلى الأغراض الشخصية، والامتناع عن نشر الأخبار الكاذبة والدفاع عن الحريات العامة.
ما هي مؤشرات قياس التزام الصحفيين التونسيين بالأخلاقيات الصحفية؟
كيف يمكن أن نقيم التزام الصحفيين التونسيين بالأخلاقيات الصحفية؟ وهل توجد مؤشرات موضوعية يمكن اعتمادها بعيدًا عن التقييمات الانطباعية؟
المؤشر الأول: محدودية آليات مساءلة الصحفيين
الصحفي ليس فوق المساءلة أي يمكن محاسبته على احترام الأخلاقيات التي وضعتها المهنة، من طرف زملائه أولًا ومن طرف الجمهور ثانيًا.
وبشكل عام وفي غياب مجلس الصحافة، أي محكمة الشرف التي يمكن للجمهور أن يقدم لها شكاوى ضد الصحفيين في مجال أخلاقيات المهنة، يمكن القول إن الآلية الوحيدة المتوفرة اليوم تتمثل في لجنة أخلاقيات المهنة المحدثة صلب النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين التي لا تنشر تقارير دورية وتكتفي عادة بنشر بعض البيانات كالبيان الأخير الخاص بقضية الخبر الزائف المتعلق بوفاة رئيس الدولة.
وإجمالًا، لا نجد إلا نادرًا جدًا آليات داخل مؤسسات الميديا لمساءلة الصحفيين على احترام أخلاقيات المهنة، وحتى بعض المؤسّسات التي وضعت لنفسها مواثيق تحريرية (على غرار "موزاييك أف أم" أو "شمس أف أم" أو وكالة تونس إفريقيا للأنباء أو "الديوان أف أم")، لم فهي لم تضع في أغلبها آليات لرصد احترام الصحفيين لها.
المؤشر الثاني: قبول محدود بمبدأ الرصد
وضعت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، في المقابل، مرصدًا لأخلاقيات المهنة أصدر عددًا من التقارير العامة. ويمثل الرصد آلية هامة من آليات متابعة التزام الصحفيين بالأخلاقيات الصحفية.
في عام 2014، أصدرت النقابة تقرير أخلاقيات العمل الصحفي في الصحافة المكتوبة الذي أثار موجة كبيرة من الانتقادات وجدلًا متقطع النظير في المهنة، إذ خلّف مجرد نشره ردود فعل عنيفة جدًا. وقد رأى رافضو التقرير أن منهجيته لا تستقيم ، وأنه أثّر سلبًا على صورة المهنة ومصداقيتها لدى الرأي العام، وقد وُصف التقرير بأنه "هجوم عنيف" على الصحافة يخدم مصالح الأحزاب الحاكمة (الترويكا آنذاك).
أثار تقرير أخلاقيات العمل الصحفي موجة كبيرة من الانتقادات وجدلًا متقطع النظير في المهنة
وفي هذا الجانب، ندّد الاتحاد العام التونسي للشغل بالتقرير الذي رصد أداء جريدة "الشعب"، وشبّه الفريق الذي أعده بوزارة الإعلام التي تمارس الرقابة. ووصف اتحاد الشغل التقرير بأنه "تعميمي وتضليل وانتقائي"، وأنه يمّس من سمعة الصحف ويؤدي إلى زعزعة وضعها التجاري بل اعتبره "عملًا عبثيًا".
وقد رصد التقرير، حينها، عددًا كبيرًا من الإخلالات كالخلط بين الخبر والتعليق، واختلاق الأخبار، والسطو الصحفي، والعناوين الكاذبة والمخادعة، والإشهار المقنع، وتوجيه اتهامات دون سبب، وتحقير المرأة، وعدم الإنصاف في قضايا خلافية بعرض وجهة نظر واحدة، والنقل عن مصادر صحفية دون ذكر المصدر (انظر الصفحات 15 و16 من التقرير).
وجاءت أغلب ردود الفعل من المؤسّسات الصحفية ومن إدارات التحرير ما يؤكد على محدودية ثقافة المساءلة في المؤسسات الصحفية. كما قد ترجع ردود الفعل ضد التقرير لاعتماده آلية التشهير التي تسمّى "Name and Shame" مما قد يفسّر تخلي النقابة الوطنية للصحفيين على طريقة التشهير في تقارير أخرى على غرار التقرير عن تغطية الأحداث الإرهابية الذي لم يثر ردود فعل عنيفة أو جدلًا رغم رصده لإخلالات.
المؤشر الثالث: النقاش المهني في الأخلاقيات الصحفية
تمثل الأخلاقيات المهنية موضوعًا من المواضيع التي يناقشها الصحفيون في المجال العمومي في حضرة الجمهور أحيانًا. فلا غرابة أن نرى مثلًا أن موضوع تغطية الصحافة للأحداث الإرهابية يناقش في الميديا نفسها حتى ولو كان هذا النقاش محدودًا، وهو ما يُحسب للمهنة.
تحتل مسألة الأخلاقيات الصحفية مكانة متزايدة في خطاب الصحفيين التونسيين عن أنفسهم وعن الصحافة بل أصبحت محددًا جديدًا من محددات هويتهم المهنية
وفي هذا الإطار، من المشروع القول إن مهنة الصحافة هي من أكثر المهن في تونس التي انفتحت على الجمهور في مجال رصد الإخلالات الخاصة بأخلاقيات المهنة. ويمكن أن نتساءل، هنا، ما إذا كانت مهنة الطب مثلًا قد فتحت نقاشًا عامًا حول الأخطاء التي يقوم بها الأطباء أو حول مدى احترامهم لأخلاقيات المهنة في عدة قضايا شغلت الرأي العام.
تحتل مسألة الأخلاقيات الصحفية مكانة متزايدة في خطاب الصحفيين التونسيين عن أنفسهم وعن الصحافة، بل أصبحت محددًا جديدًا من محددات هويتهم المهنية. لكن لم يصاحب هذه المكانة الجيدة للأخلاقيات آليات عملية ومؤسسية لتحقيق التزام الصحفيين بهذه الأخلاقيات ومساءلتهم عندما لا يحترمونها.
في المقابل وحتى نفهم التزام الصحفيين بالأخلاقيات المهنية، يتوجب علينا التفكير في السياقات التي يعملون فيها من ظروف اجتماعية هشّة ومهينة أحيانًا، ومؤسّسات بعضها لا توفر دائمًا شروط احترام الأخلاقيات المهنية لأنها خاضعة إلى إكراهات المستشهرين ومرتبطة بشبكات مصالح مع السياسيين، وتغير سياساتها التحريرية كلما تغيرت مصالحها.
اقرأ/ي أيضًا:
الصحافة التونسية في "عصر ما بعد الحقيقة".. الهلع (3/1)
الصحافة التونسية في "عصر ما بعد الحقيقة".. التحرّي (3/2)
الصحافة التونسية في "عصر ما بعد الحقيقة".. دفاعًا عن "صحافة الحقيقة" (3/3)