16-فبراير-2021

كانت تغطية الشأن الليبي كصحفية في البداية ثم كباحثة عبارة عن تحد يومي حول بلد يسوده الكثير من الغموض (محمود تركية/أ.ف.ب)

 

مقال رأي

 

كان قصر المؤتمرات في تونس، ذات 23 أكتوبر /تشرين الأول 2011، يعج بالصحافيين في انتظار النتيجة النهائية لأول انتخابات ديمقراطية في تونس بعد سقوط زين العابدين بن علي وفجأة ظهر في الشاشة الكبيرة التي كانت تبث النتائج الأولية للانتخابات خبر عاجل عن مقتل العقيد معمر القذافي.

أصيب الجميع بالذهول لكنني تمالكت نفسي وزميلي الصحفي في راديو كندا وهرعنا نحو السفارة الليبية القريبة من المركز الإعلامي بقصر المؤتمرات لتغطية الخبر. غمرتني أحاسيس متناقضة من الفرحة، الحزن والخوف. لم أكنّ حبًا في حياتي لمعمّر القذافي بسبب قصص الجرائم والانقلابات السياسية والتسليح للعناصر المسلحة في بلدان عديدة في أمريكا اللاتينية وأوروبا الغربية ومنطقة الساحل الإفريقي وأوغندا ودوره في تقسيم السودان وفي قضية الصحراء الغربية وغيرها من الشطحات التي تحيلنا إلى شخصية دونالد ترامب المعتوهة.

لم أكنّ حبًا في حياتي لمعمّر القذافي بسبب قصص الجرائم والانقلابات السياسية والتسليح في بلدان عديدة وغيرها من الشطحات التي تحيلنا إلى شخصية ترامب المعتوهة

وجدنا جمعًا غفيرًا من الليبيين والليبيات أمام السفارة الليبية حاملين علم الاستقلال يكبرون ويحتفلون بموت من أسموه "الطاغية" آنذاك. كانت لحظة تاريخية لكل صحافي وصحافية تغطي الانتفاضات العربية آنذاك.

عودة إلى الوراء في صيف 2011، شهر أوت/ أغسطس تحديدًا، بدأت عملي لأول مرة كصحفية في الموقع الإلكتروني الناطق باللغة الإنجليزية "تونيزيا لايف"، تعلمت خلالها أبجديات العمل الصحفي مع صحفيين وصحفيات غالبًا من دول غربية يشتغلون في وسائل إعلامية عالمية مثل الجزيرة الإنجليزية وبي بي سي وراديو كندا خاصة.

أوكلت إلي أول مهمة إلى ليبيا في 24 أوت/ أغسطس 2011، أربعة أيام بعد سقوط مدينة طرابلس بأيدي الثوار الليبيين. صاحبت في رحلتي إلى ليبيا صحافية ومصورًا سويديين، سبق لهما أن قاما بتغطية الثورة الليبية بمدن جبل نفوسة وطرابلس. كان قرار السفر إلى منطقة حرب مثل طرابلس في تلك الفترة قضية مصيرية في مسيرتي الصحفية. لطالما كنت شغوفة بالعمل الصحفي منذ صغري خاصة المحطات الإذاعية العالمية كالبي بي سي (كنت أتابع الصحفي البريطاني من أصول صومالية راجح عمر وتغطيته للأوضاع في الصومال والعراق) وديتشيفاليه.

مثلت هذه المهمة فرصة ذهبية لي لأثبت نفسي في ميدان عمل ذكوري بالأساس. لا أزال أدين لفريق تونيزيا لايف الذين وثقوا في وفي قدرتي على تغطية حدث مثل سقوط طرابلس (علمًا وأنه سبق لي أن زرت طرابلس مرتين قبل الثورة في 2009 و2010) وفي نفس الوقت أن أتعلم من صحافيين أجانب طرق وتقنيات العمل الصحفي في منطقة نزاع إضافة الى تكتيكات معينة في الحوار مع شخصيات سياسية وعسكرية وقياديين ميدانيين من التشكيلات المسلحة.

كانت الرحلة بداية من جزيرة جربة نحو معبر وازن - الذهيبة الحدودي والذي كان المتنفس الوحيد لليبيين آنذاك الفارين من جحيم كتائب القذافي في هجومها على مدن جبل نفوسة كنالوت ويفرن والزنتان.

لم أندم يومًا ما على مساندتي للثورة الليبية على الرغم من رفضي المطلق للتدخل الأجنبي وإدخال السلاح لعلمي بتبعات تسليح شعب أعزل على السلم والأمن الاجتماعيين

أتذكر رحلاتي كالكثير من التونسيين والتونسيات إلى مخيمات اللاجئين الليبيين إلى رمادة ومدنين وتطاوين، إضافة إلى العمال الأجانب في ليبيا الذين هربوا إلى تونس عبر بوابة راس جدير والتي كانت تحت قبضة كتائب القذافي حتى بعد سقوط طرابلس. كان هذا بعيد اندلاع الثورة الليبية وتدخل الناتو لصالح الثوار عند حدوث مجازر في بنغازي والزاوية خصوصًا ضد مدنيين عزل خرجوا ينادون بالحرية والديمقراطية دون خوف من بطش القذافي ومختلف كتائبه المسلحة. لم أندم يومًا ما على مساندتي للثورة الليبية على الرغم من رفضي المطلق للتدخل الأجنبي وإدخال السلاح لعلمي بتبعات تسليح شعب أعزل على السلم والأمن الاجتماعيين.

اقرأ/ي أيضًا: مخيم "الشوشة".. قصص منسيين في سجن مفتوح

عندما دخلنا طرابلس يوم 24 أوت/ أغسطس، كانت أعلام الاستقلال ترفرف في ميدان الشهداء (الساحة الخضراء سابقًا) وكانت زيارتنا لمقر باب العزيزية أكثر حدث مؤثر خاصة عند رؤيتي لمواطنين ليبيين عاديين يأتون لذلك المكان الذي طالما هابه الليبيون لعقود طويلة وقد هوى أمام أعينهم، التي لا تكاد آنذاك تصدق أنها دخلته وتجولت في المكاتب والغرف والخيمة الكبيرة المكيفة والتي استقبل فيها القذافي مرارًا قادة دول عالميين كتوني بلير وغيرهم ممن كانوا يتملقون له خشية من بطشه وشخصيته النرجسية.

كانت معركة أبو سليم تدور رحاها آنذاك بين الثوار وكتائب القذافي على الميدان وطائرات الناتو فوق رؤوسنا. حتى في الفندق الذي نزلنا فيه المهاري، لم يسلم ذات ليلة من الاشتباكات إذ سقطت قذيفة في مسبح الفندق، لم تخلف لحسن الحظ أضرارًا جسيمة.

كانت الرغبة جامحة للصحفيين الغربيين في الذهاب إلى أماكن الاشتباكات وتصويرها. الصحافيان اللذان رافقتهما، وقد كانا من السويد، لم يكونا مهتمين بصحافة الإثارة وتغطية مشاهد الدمار والدماء والقتل لأن قراءهم كانوا يهتمون أكثر بالحالة الإنسانية والآثار النفسية للحرب على أهالي طرابلس. فكانت مهمتي معهم كوسيطة ومترجمة بينهم وبين الليبيين المدنيين أسهل من الذهاب لمقابلة قائد ميليشيا أو كتيبة معينة.

كانت زيارتنا لمقر باب العزيزية أكثر حدث مؤثر خاصة عند رؤيتي لمواطنين ليبيين عاديين يأتون لذلك المكان الذي طالما هابه الليبيون لعقود طويلة وقد هوى أمام أعينهم

بلغنا خلال إقامتنا في طرابلس خبر هروب القذافي إلى سرت، مسقط رأسه عبر نفق يمر من باب العزيزية. الكل كان يتحدث عن طول النفق وقمنا بزيارته ونزلت لبضع دقائق ولكن لم يتأكد إذا  ثبت هروب القذافي عبره. 

كانت ليبيا تمثل لغزًا، متاهة يصعب حلها مما يجعلها أكثر أهمية وإثارة لي كشخص دائم البحث عن الخروج من منطقة الرفاهة التي عشت فيها في تونس العاصمة.  لكن أيضًا بحكم جذوري من مدينة تونسية على الحدود الشرقية مع ليبيا، جرجيس أين قضيت طفولتي هناك، كانت رؤية السيارة الليبية في أواخر الثمانينات منظرًا عاديًا هناك وكان خالي يدعو أصدقاءه من الزاوية في طرابلس خاصة إلى "حوش" جدي.

تعلمت أسماء المدن الليبية من اللوحات المنجمية للسيارات الليبية آنذاك مثل صرمان ومصراتة والعجيلات ودرنة وسرت وغريان وسبها الخ. كانت إذاعة الجماهيرية تبث بلا انقطاع خطابات العقيد الرنانة في توعده لأمريكا وبريطانيا بكلمته المفصلة آنذاك "طز"، خاصة بعد قصف الولايات المتحدة في 1986 لمقر باب العزيزية.

كانت أغاني تونس مفتاح وأحمد فكرون أكثر ما كنت استمتع بسماعه في الراديو وأحيانًا في تلفزيون الجماهيرية. حتى عند زيارة مدينة جدتي بن قردان، كانت "أحاديث المربوعة" بين الرجال وتناول الزميطة والعسلوز.. كانت ولا تزال من التقاليد الغذائية في جرجيس وبن قردان والتي اكتشفتها في ليبيا.

عندما قررت أن أترك عملي في تونيزيا لايف وأتحول إلى طرابلس للعمل مع  وسائل إعلامية ليبية باللغة الإنجليزية في جانفي/ يناير 2013، كنت أرى ليبيا أقرب ثقافيًا بالنسبة لي من تونس العاصمة.

لم يكن القرار هيّنًا خاصة وأن البلاد دخلت في مرحلة صعبة، خاصة بعد الهجوم المسلح على محطة عين أميناس في جنوب الجزائر من عناصر جهادية ذات صلة بالقاعدة في المغرب الإسلامي وعودة المقاتلين الطوارق من شمال مالي بعد فشل حلم بناء دولة أزواد كما وعدهم يومًا ما القذافي.

كانت ليبيا تمثل لغزًا، متاهة يصعب حلها مما يجعلها أكثر أهمية وإثارة لي كشخص دائم البحث عن الخروج من منطقة الرفاهة التي عشت فيها في تونس العاصمة

لكن الخبر الذي كان له أكبر تأثير في نفسيتي هو اختطاف الدبلوماسيين التونسيين محمد بالشيخ والعروسي القنطاسي العاملين بالسفارة التونسية بالظهرة في جوان/ يونيو 2014 والتي لم تكن تبعد كثيرًا عن مقر عملي في طريق الهضبة الخضراء المؤدية إلى منطقة صلاح الدين وغير البعيد من مقر المؤتمر الوطني العام آنذاك بجانب فندق الركسوس.

اقرأ/ي أيضًا: الأحزاب التونسية والأزمة الليبية.. اختلافات حد التناقض

كان لزامًا علي أن أتصل  بالسفير آنذاك السيد رضا بوكادي لاستقاء الأخبار كل مرة عن الجهات الخاطفة لكتابة المقالات اليومية عن تلك العملية. طبعًا كانت السرية في إعطاء المعلومات من طرف السفارة التونسية سيدة الموقف آنذاك خوفًا على حياة الدبلوماسيين ولكن التأويلات حول التفاهم بين السلطات التونسية والجهات الخاطفة آنذاك بإطلاق سراح عنصر من بعض التشكيلات المسلحة التي قبُض عليها في تونس وكان يقبع في سجن في تونس مما يتداول في كواليس الدبلوماسية التونسية غير التقليدية.

كانت تحدث مناوشات بين الفينة والأخرى في المنطقة ككل منطقة سكنية في طرابلس بين بعض التشكيلات المسلحة، حتى أصبحت خبرًا عاديًا لكل الليبيين وغير الليبيين المقيمين في العاصمة طرابلس.

حتى في زمن الحرب، حافظت المدينة على بعض مظاهر الحياة العادية كافتتاح معرض طرابلس الدولي ومعرض الكتاب وغيرها من التظاهرات الثقافية التي كان الليبي والليبية من مختلف الطبقات الاجتماعية يتوق إليها لنسيان هموم الحرب المستعرة بين التشكيلات المسلحة، التي كانت تسيطر على المرافق الحيوية للمدينة كمطار طرابلس الدولي.

طبعًا الأمور كانت معقدة في بنغازي منذ انتخابات المؤتمر الوطني العام في صيف 2012 وأصبحت المدينة مسرح عديد الاغتيالات لشخصيات سياسية وثقافية على غرار إدريس المسماري والمحامية سلوى بوقعيقيص في جويلية/ يوليو 2014.

حتى في زمن الحرب، حافظت المدينة على بعض مظاهر الحياة العادية كافتتاح معرض طرابلس الدولي ومعرض الكتاب وغيرها من التظاهرات الثقافية

كان تسارع الأحداث في ليبيا هو خبزي اليومي في عملي مع صحيفة ليبيا هيرالد. لعل أهم حدث جعلني أفقد الأمل في الرجوع إلى نوع من الحياة شبه العادية في ليبيا هو معركة مطار طرابلس بين تشكيلات من الزنتان ومصراتة. حينها كنت أقطن مع بريطانيتين في منطقة السراج وجاءني خبر أن الأمور تتجه نحو الأسوأ من صديقة تعمل في السفارة البريطانية.

كان صعبًا الخروج من منطقة تستعر فيها الحرب بين تشكيلات مسلحة من عدة مناطق في الغرب الليبي أهمها الزنتان ضد قوات من مصراتة. بحكم معرفتي بشقيق زميل لي في العمل وهو أمريكي ليبي، استطاع إخراجي من المنطقة أين شاهدت لأول مرة مشاهد تحيلني إلى الدمار الذي لحق مدنًا كسراييفو خلال حرب البلقان.

كان منظرًا حزينًا ذات صائفة 2014 بينما أنظار العالم مشرئبة إلى كأس العالم المقامة في ألمانيا، كان مطار طرابلس يحترق ومعه الكثير من أحلام وآمال الليبيين بغد أفضل. كان ذلك المطار، على الرغم من حالته شبه الرثة، المتنفس الوحيد لليبيين. رجعت إلى تونس قبل عيد الفطر بيوم وكانت فرحة أمي كبيرة بأنني على قيد الحياة، على الرغم من اتصالي بها شبه اليومي لطمأنتها.

ليبيا تبعث الحيرة لدى المتابع لها إن كان الغد سيكون أفضل أو أسوأ من الأمس، مثل الرمال المتحركة في الصحراء، مصير ليبيا يبقى غامضًا وليس مجهولاً ويبقى الطريق إلى السلام وعرًا

ورغم كل الأحداث المتسارعة منذ مغادرتي لليبيا، بقيت متعلقة أتابع أخبارها وخاصة أخبار الأصدقاء والصديقات الذين آثروا البقاء هناك على ترك بلدهم. واصلت العمل مع صحيفة ليبيا هيرالد، أكتب عن العلاقات التونسية الليبية وأخبار معبر راس جدير والذي كان دائماً بوابة العبور لليبيين أو غير الليبيين من مواطنين عاديين ودبلوماسيين غربيين وبعثات الأمم المتحدة وغيرهم من العاملين في منظمات عالمية خلال الحرب الاهلية في 2014.

كانت تغطية الشأن الليبي كصحفية في البداية ثم كباحثة عبارة عن تحد يومي للمسلمات والبديهيات حول بلد يسوده الغموض حول التقاطع بين المناطقية والتقسيمات الأيديولوجية وتداخل مصالح اقتصادية واستراتيجية وسياسية لأطراف النزاع من دول غربية وشرق أوسطية وقادة عسكريين كحفتر وسياسيين كالسراج وصالح وباشآغا ومعيتيق والدبيبة وغيرهم من الوجوه التي خدمت مع نظام القذافي يومًا ما.

لعبت هذه الشخصيات دورًا رئيسًا في الإطاحة بنظام العقيد القذافي وستلعب كما لعبت القوى الإقليمية في لبنان دورًا رئيسًا في بسط نفوذها والتحكم في عمليات الحرب والسلام في ليبيا. ليبيا تبعث على الحيرة لدى المتابع لها إن كان الغد سيكون أفضل أو أسوأ من الأمس، مثل الرمال المتحركة في الصحراء، مصير ليبيا يبقى غامضًا وليس مجهولاً ويبقى الطريق إلى السلام وعرًا كما كتب ممثل الأمم المتحدة السابق في ليبيا طارق متري في كتابه "مسالك وعرة". 

 

اقرأ/ي أيضًا:

العلاقات التونسية - الليبية: من إرث الدكتاتورية إلى الضرورة الاستراتيجية

تقدير موقف: انتخاب السلطة التنفيذية الجديدة في ليبيا.. حيثياته وآفاقه