مقال رأي
منذ صعوده للرئاسة، يكاد لا يفوّت رئيس الجمهورية التونسية الباجي قايد السّبسي الفرصة للإعلان عن رغبته في تغيير الدستور بتعلّة أن النظام السياسي غير ناجع وأنه أثبت فشله، مقترحًا العودة للنظام الرئاسي بدل النظام شبه البرلماني الحالي. وبدأت هذه الرغبة في التحوّل لدى حزبه نداء تونس إلى مشروع مبادرة لتعديل الدستور، الذي لم تمض 4 سنوات على إقراره بأغلبية 92 في المئة على الأقل من أعضاء المجلس التأسيسي حينها.
يكاد لا يفوّت قايد السبسي فرصة للإعلان عن رغبته في تغيير الدستور مقترحًا العودة للنظام الرئاسي بدل النظام شبه البرلماني الحالي.
فمؤخرًا، كتب برهان بسيّس، بوق الدعاية ورمز البروباغندا زمن ابن علي والذي بات اليوم أمين سياسات حزب نداء تونس، وذلك من نكد التحول الديمقراطي التونسي، مقالًا يدافع فيه عن النظام الرئاسي بطريقته الحربائية المعتادة. ويبدو أنه في خضم الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد، وإعلان الحرب على الفساد، وفي انتظار انتخابات محلية، يأتي ملفّ آخر من رئيس الجمهورية ليقلب الأولويات.
الطريف أن رئيس الجمهورية يدّعي فشل النظام السياسي رغم عدم اكتمال تركيزه بسبب عرقلة السبسي نفسه بمعيّة حزبه إرساء عديد المؤسسات الدستورية والمحليّة. ببساطة، كيف يمكن الحكم على نظام سياسي لم تكتمل مؤسساته؟ الحقيقة أن دوافع أخرى تقبع وراء رغبة السبسي.
يقوم النظام السياسي الحالي على ثنائية السلطة التنفيذية بين رئيس حكومة يحظى بثقة البرلمان يملك صلاحيات موسّعة ورئيس جمهورية منتخب مباشرة يختصّ بصلاحيات في مجال الخارجية والدفاع والأمن القومي مع تمتّعه بحقّ الرّد في مشاريع القوانين. هذا النظام المتوازن والذي كان ثمرة نقاشات طويلة زمن المجلس التأسيسي بين أعضائه وخبراء القانون، يرمي، ضمن أهدافه، لعدم حصر سلطة القرار بيد شخص واحد، في بلد عانى طيلة عقود من نظام "رئاسوي" استفرد فيه رئيس الجمهورية بالسلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية. ليمّثل هذا النظام ضمانة في مرحلة الانتقال الديمقراطي، وركيزة للتوازن السياسي مستقبلاً.
وأول من خالف روح الدّستور هو السبسي حينما رشّح نفسه سنة 2014 لرئاسة الجمهورية، والحال أن منطق النظام السياسي يقتضي أن يقود رؤساء الأحزاب الحكومة، غير أنه تبيّن لاحقًا أن السبسي أراد أن يمارس من قصر قرطاج صلاحيات رئاسة الحكومة بالوكالة، وأن يجعل من رئيس الحكومة مجرّد وزير أوّل لديه. وحينما أراد أول رئيس حكومة في ظل الدستور الجديد الحبيب الصيد، وهو رجل إدارة عمل ضمن حكومات ابن علي، أن يمارس صلاحياته دون وصاية، عمل السبسي على إزاحته بعد تحشيد حلفائه ضده. وأتى برئيس حكومة من حزبه وهو يوسف الشاهد الذي يبدو أن السبسي أراده وزيرًا أولًا كذلك، غير أنه لم تلبث أن اندلعت الصراعات من جديد، فالسبسي يريد أن يفتكّ كل الصلاحيات بيده، كما كان معلّمه بورقيبة يستفرد بها.
السبسي الذي قال حينما كان وزيرًا أولاً في الحكومة الانتقالية سنة 2011 إنه "يحكم لوحده" وذلك ردًا على دعوات لإقالة كاتب دولة، والسبسي الذي تربّى طيلة عقود على منهج الاستفراد بالسلطة منذ أن كان وزيرًا للداخلية والدفاع والخارجية تحت حكم بورقيبة، والسبسي الذي لم يكن ضمن القوى الديمقراطية المعارضة ضد بن علي، لا يمكن أن يكون اليوم رجلاً ديمقراطيًا يؤمن بتوزيع الصلاحيات داخل السلطة التنفيذية.
نجاعة النظام السياسي لا تُقاس إن كان رئاسيًا أو برلمانياً أو مزدوجًا، حيث تتعدّد هذه الأنظمة في مختلف الديمقراطيات في العالم، فالمقياس الأساسي للنجاعة، خاصة في مراحل الانتقال الديمقراطي، هو الالتزام بعدم الاستفراد بالسلطة ووجود آليات كفيلة لضمان الشراكة في القرار.
فبدل أن يدعو السبسي لتعديل الدستور، يجب عليه، وهو المكلفّ بحمايته، أن يحترمه. حيث تمحورت أول مبادرة تشريعية قدمها حول العفو على الفاسدين، في مخالفة لما يقلّ عن 12 مادة دستورية وفق عريضة طعن المعارضة في دستوريته. وفي الواقع إن كان الدستور التونسي به نقص فعلًا، فهو عدم اعتبار رئيس الجمهورية مستقيلًا آليا كذلك في صورة تقديمه مبادرة تشريعية ويُقضي بعدم دستوريتها، فأي شرعية لرئيس جمهورية محمول على صيانة الدستور أن يكون مغتصبه؟ لو كان يوجد فعلاً هكذا فصل، لما تجرّأ السّبسي على طرح قانونه لأنه أوّل من يعرف بأنه مخالف للدستور.
حيث من المنتظر أن يسقط مشروع "المصالح" أمام الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين، وستكون فضيحة من المفترض أن يستقيل إثرها رئيس الدولة بمنطق "رجال الدولة" كما يفعل الرؤساء الذين يحترمون شعوبهم!
إن المعركة الحقيقية في تونس اليوم هي معركة الدستور الذي يمثل ركيزة الديمقراطية وحمايته من تعديله بتعّلات غير بريئة هي ضرورة حيوية
وآخر اعتداءات رئيس الجمهورية على الدستور تأجيله الانتخابات المحليّة دون أي أسباب جديّة، فقط لأن حزبه نداء تونس غير مستعدّ بعد لهذا الموعد الانتخابي. وسيؤخر هذا التأجيل من إنفاذ باب كامل في الدستور هو باب السلطة المحليّة والذي يمثّل مفتاح تحقيق التنمية والتوازن بين الجهات في البلاد. كما نصّ الدستور على إرساء المحكمة الدستورية في ظرف سنة منذ الانتخابات، والآن مرّت قرابة 4 سنوات دون إرساء هذه المحكمة الضامنة لدستورية القوانين، وكذا الشأن بالنسبة لعديد الهيئات الدستورية منها هيئة مكافحة الفساد. كما عرقل رئيس الجمهورية وحزبه مسار العدالة الانتقالية بتعطيل أعمال هيئة الحقيقة والكرامة، رغم أن الدستور يلزم جميع مؤسسات الدولة بتطبيق منظومة العدالة الانتقالية.
لا تحصى ولا تعدّ الاعتداءات على الدستور من رئيس الجمهورية وفريقه الحاكم، واليوم يطالب بتعديله فقط لغاية تركيز السلطة بيد شخص واحد في مناخ لم تتوفر فيه بعد الضمانات الكفيلة بعدم العودة للاستبداد. ولعل عداء السّبسي للدستور الحالي يعود لسنة 2013 حينما دعا حينها من مركز المعارضة إلى حلّ المجلس التأسيسي المكلّف بصياغة الدستور، أو ربما لأن الدستور مُمضى من غريمه الرئيس السابق المنصف المرزوقي!
إن المعركة الحقيقية في تونس اليوم هي معركة الدستور الذي يمثّل ركيزة الديمقراطية الناشئة في البلاد، وحمايته من تعديله بتعّلات غير بريئة هي ضرورة حيوية، وذلك بالتوازي مع معركة صونه من الاعتداءات المتلاحقة عليه وآخرها من قانون "حماية الفاسدين" الذي قدّمه من هو محمول على حماية الدستور!
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"