19-يناير-2023
قصر النجمة الزهراء

يتميز قصر النجمة الزهراء بحدائقه الأندلسية البديعة (رمزي العياري/ الترا تونس)

 

إنها نهايات سنة 1909، تستعدّ العاصمة لندن لاستقبال شتاء ثقيل تشي بشائره بنسائم باردة قد تتحول فجأة إلى نتف ثلج تغمر وجه المدينة لتزيح عنه ما تبقى من كآبة الخريف. يقف الشاب "رودولف ديرلنجي" ذي الأصول الألمانية بشرفة شقته بشارع "بيكاديلي" في مدينة "وستمنستر"، يطيل النظر إلى الأشجار التي تحركها رياح الشمال بمنتزه "الهايد بارك". 

تونس كانت من البلدان التي نصح بها الطبيب الخاص لـ"رودولف ديرلنجي" لطقسها الطيب، وقد اختارها البارون لأن صداقة متينة كانت تجمع والده ببايات تونس ودوائر الحكم بها

كان البارون الشاب منذ قليل في نقاش مع شقيقه الأكبر "إيميل بومنت" بخصوص إدارة تركة والدهم "فريدريك إيميل" والذي دعاه بإلحاح للتخلي عن انغماسه في عوالم الرسم والموسيقى وانبهاره بثقافة الشرق الآسرة والانضمام إلى شقيقه الأصغر "فريدريك ألفريد" من أجل إدارة مصرفهم الشهير "إيرلنجر". لكن رودولف كان له رأي آخر، وهو مغادرة لندن وباريس وكل أوروبا والتوجه نحو الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، وتحديدًا إلى تونس والاستقرار بها نهائيًا، وهي من البلدان التي نصحه بها طبيبه الخاص لطقسها الطيب، وقد اختارها البارون دون غيرها لأن صداقة متينة كانت تجمع والده الصيرفي الشهير "فريدريك إميل" ببايات تونس ودوائر الحكم بها.

قبل توجهه إلى تونس، سافر رودولف ديرلنجي إلى فرنسا لتصفية بعض الأملاك التي ورثها عن والده بباريس وأيضًا من أجل جلب جميع أغراض الرسم من مرسمه الخاص الكائن بشارع "فونتين".

 

قرّر "رودولف ديرلنجي" مغادرة لندن وباريس وكل أوروبا والتوجه إلى تونس والاستقرار بها نهائيًا (رمزي العياري/ الترا تونس)

 

عندما حلّ بالمملكة التونسية، كان ضيفًا مبجلًا عند محمد الناصر باي الذي أسكنه أحد قصوره الصيفية بضاحية المرسى قبل أن يختار لنفسه "فالازا" بجبل المنار بقرية "سيدي بوسعيد" التي لا تبعد كثيرًا عن المرسى والمطلة على خليج تونس كبرق في الظلام.

افتتانه بسيدى بوسعيد وخصوصًا تلك الإطلالة الفاتنة على البحر في الليالي المقمرة، عجّلت بمغادرته للمرسى والاستقرار بمنزل بسيط بطابق واحد بسيدي بوسعيد يسمى اليوم البلفدير في انتظار بناء منزله الخاص.

انطلقت أشغال قصر البارون ديرلنجي بسفح جبل المنار بسيدي بوسعيد سنة 1912 واستغرقت 10 سنوات كاملة كانت كافية لتمنح المكان غنائية معمارية فريدة

كان البارون ديرلنجي يبحث عن امتلاء ما لم يجده في بيئته الأوروبية فاستنبت نفسه من جديد في ثقافة مغايرة تنعم في أقدارها الشرقية لكنها مغرية بالنسبة إليه، فأهدى نفسه بإخلاص إلى عالمه الجديد.. تونس.

انطلقت أشغال قصره بسفح جبل المنار بسيدي بوسعيد سنة 1912 لتنتهي سنة 1922. عشر سنوات كاملة كانت كافية لتمنح المكان غنائية معمارية فريدة. عند تخطيطه لبناء قصره، كان يستمع إلى آراء أصدقائه التونسيين وخصوصًا المثقفين منهم على غرار المؤرخ حسن حسني عبد الوهاب والكاتب محمد الصادق الرزقي وسعيد الخلصي والموسيقي خميس ترنان.. وغيرهم.

فتوخى البارون سياسة التقيّة الهندسية والمتمثلة في التقشف الخارجي والبذخ الداخلي، وذلك حتى يكون المشهد المعماري العام متناسقًا ومندمجًا مع المحيط الجمالي. فجاء القصر بواجهات خارجية بسيطة (جدران مطلية بالجير وشبابيك أخشابها بالدهان الأزرق السماوي) وبوابات ثلاث متشابهة أبوابها الخشبية كغيرها من منازل قرية سيدي بوسعيد.

 

كان البارون ديرلنجي يبحث عن امتلاء ما لم يجده في بيئته الأوروبية فاستنبت نفسه من جديد في ثقافة مغايرة (رمزي العياري/ الترا تونس)

 

كان البارون يجلس يوميًا إلى العمال والبنائين والنقاشين والصناعيين والحرفيين المختصين في الخشب والجصّ والنقش وتطويع الحديد وليّه على طريقة البرمقلي، يتابع منهم ويفسّر لهم ما يدور في ذهنه من خيال وجمال.

وذات مساء، كان البارون رودلف ديرلنجي يقف على منبسطة قصره وهو بعد في أوج الأشغال رفقة صديقه الموسيقي الشهير أحمد الوافي. كان الهواء المتأتي من البحر عليلًا والسماء تغالب الضياء المتبقى من الغروب، ونجمة تلمع لوحدها شرقًا تدق أوتاد ليل ربيعي على سفوح جبل المنار.

توخى البارون ديرلنجي سياسة التقيّة الهندسية والمتمثلة في التقشف الخارجي والبذخ الداخلي، وذلك حتى يكون المشهد المعماري العام متناسقًا ومندمجًا مع المحيط الجمالي

قال البارون لصديقه: انظر إلى تلك النجمة كالمستعدّ للصلاة في جوف الليل تزهدًا وتأملًا في الكون والوجود.

ردّ أحمد: إنها نافورة من ضياء فضي أو كأنها المزهرة المبشّرة بالربيع.

قال البارون: إذا هي النجمة الزهراء.

ومنذ ذلك الوقت أطلق على قصره تسمية النجمة الزهراء.

 

يحتوي البستان على القوارص والكروم وفسائل النخيل، وأما أشجار الناريج، فهي تزيّن كل جنبات القصر (رمزي العياري/ الترا تونس)

 

القصر وكغيره من منازل الضاحية الشمالية لحاضرة تونس، لم يتجاوز علوّه الطابقين المنجزين من حجر الكلس المستجلب من المقاطع القريبة عن طريق الدواب ومن مقاطع جبل الرصاص وجبل بوقرنين.

أما عناصره الجمالية المبهرة فتتمثل في التوزيع الداخلي للغرف والذي أخضعه البارون إلى ما جاءت عليه قصور بني الأحمر بالأندلس المفقود وخصوصًا قصر غرناطة. القاعات الرسمية الواسعة هي ذات أسطح منقوشة بالجص والخشب وأشهرها الغرفة الزرقاء وغرفة الموسيقى، وتتعدد الألوان بها والمجالس والغرف الخاصة المتخفية في الجنبات الموشاة بالرخام الأسود والوردي والأبيض الإمبراطوري.. والشرفات الخشبية العالية على غرار شرفات قصور البايات بباردو ومنوبة والمرسى.

 

تتعدد الألوان بقصر النجمة الزهراء والمجالس والغرف الخاصة المتخفية في الجنبات الموشاة بعديد الألوان (رمزي العياري/ الترا تونس)

 

بالقصر أجنحة منغرسة في خاصرة السفح المفتوح على المطلق، ورائحة البحر المتأتية من خليج تونس ولكل واحد منها دور، واحد للضيوف وآخر للعملة والموظفين وثالث للعمل وإدارة الأعمال.. كما توجد به مخازن للمؤونة والتحف وإسطبلات للدواب.

داخل القصر يوجد مرسم البارون ديرلنجي والذي أنتج مجموعة نادرة من اللوحات الفنية التي تصور الطبيعة التونسية والحياة اليومية بسيدي بوسعيد والضواحي المتاخمة، كما ترك البارون بورتريهات نفيسة لأصدقائه من التونسيين منهم الموسيقي أحمد الوافي (1850 ـ 1921) وهو من حفظة الموشحات التونسية ومن المجددين أيضًا، ويحسب له شجاعته في تجديد موشح قاضي العشق عند تناوله لمقام المزموم.

 

القصر وكغيره من منازل الضاحية الشمالية لحاضرة تونس، لم يتجاوز علوّه ​​​​​الطابقين المنجزين من حجر الكلس (رمزي العياري/ الترا تونس)

 

ويتميز قصر النجمة الزهراء بحدائقه الأندلسية البديعة مثل حديقة النافورات بالمدخل الشمالي ذات الشكل المستطيل والمطوقة بأشجار السرو الباسق. وهي باقية إلى اليوم كشاهد على ما كان يصبو إليه صاحب القصر من صفاء ذهني وشفافية ونقاء وتأمل.

 أما البستان فيحتوي على القوارص والكروم وفسائل النخيل، وأما أشجار الناريج فهي تزيّن كل جنبات القصر وتقف إجلالًا لذاكرة غارسها.

عاش البارون "رودولف ديرلنجي" بتونس 20 عامًا قضّى منها 10 سنوات مقيمًا بالنجمة الزهراء، وقد حافظ عليها كالماسة الشفافة، وأوصى بأن يدفن في بستان قصره وكان له ما أراد، فهو ينام في سلام ترقبه النجمة الزهراء.

عاش البارون ديرلنجي بتونس 20 عامًا قضّى منها 10 سنوات مقيمًا بالنجمة الزهراء، وأوصى بأن يدفن في بستان قصره وكان له ما أراد

القصر ورثته زوجة البارون ذات الأصول الإيطالية وابنه ليون، وقد تكفلت الحكومة الإيطالية في البداية بصيانته ورعايته قبل أن تشتريه الدولة التونسية سنة 1989 على إثر دعوات ملحة من مثقفين تونسيين بعدم التفريط في القصر من بينهم نذكر الفنان الموسيقي أنور براهم والكاتب علي اللواتي، وحولته إلى معلم وطني وألحقته بوزارة الشؤون الثقافية التي أطلقت عليه اسم "مركز الموسيقى العربية والمتوسطية النجمة الزهراء" وتصبح مهامه ثقافية صرفة، كحفظ التراث الموسيقي التونسي والعربي والمتوسطي وبعث متحف للآلات الموسيقية ومن بينها المجموعة الخاصة للبارون ديرلنجي وإقامة الحفلات الموسيقية وإقامة التظاهرات واللقاءات الفكرية.

قصر النجمة الزهراء بسيدي بوسعيد عطر منظور سكبه المستشرق الفرنسي من أصول ألمانية البارون رودولف ديرلنجي الموسيقي والرسام الفنان المحبّ لتونس وأهلها في خاصرة جبل المنار أو رأس قرطاج المطل على خليج تونس، لينافس جماله الوهاج وميض الناظور القديم دليل البحارة في عتمات الليل، وليؤنس مرقد الشيخ بوسعيد الباجي.