23-يناير-2023
عبودية رق إلغاء

اتخذت العبودية اليوم أشكالًا أخرى مغايرة تمامًا لما كانت عليه (صورة من موقع وزارة العدل)

مقال رأي 

 

إن المنظومة الكونية لحقوق الإنسان تعد حديثة العهد بالمقارنة مع تاريخ الإنسانية، فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان والذي صدر سنة 1948 على إثر انتهاء الحرب العالمية الثانية كإعلان لبداية عهد جديد وكتابة صفحة جديدة من صفحات تاريخ الإنسانية، هو من أهم الخطوات التي اتخذت للقطع مع ما مضى من انتهاكات للكرامة البشرية ومن استعباد وتمييز وحروب.

يصادف يوم 23 جانفي 2023 مرور 177 عامًا على صدور أول وثيقة تشريعية ترمي إلى إلغاء العبودية والرق في العالم والتي انطلقت من تونس

وقد جاء في ديباجته "لما كان الاعتراف بالكرامة المتأصلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية وبحقوقهم المتساوية الثابتة هو أساس الحرية والعدل والسلام في العالم… فإن الجمعية العامة تنادي بهذا الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنه المستوى المشترك الذي ينبغي أن تستهدفه كافة الشعوب والأمم حتى يسعى كل فرد وهيئة في المجتمع، واضعين على الدوام هذا الإعلان نصب أعينهم، إلى توطيد احترام هذه الحقوق والحريات عن طريق التعليم والتربية واتخاذ إجراءات مطّردة، قومية وعالمية، لضمان الاعتراف بها ومراعاتها بصورة عالمية فعالة بين الدول الأعضاء ذاتها وشعوب البقاع الخاضعة لسلطانها".

ونظرًا لأن الإعلان لا يكتسب الصيغة الإلزامية بقدر ما يصطبغ بالإلزام الأخلاقي والذي لا تترتب عنه أيّ آثار في صورة الإخلال بمواده، فقد اتجهت الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى إصدار عهدين دوليين، وميزة العهد أنه مُلزم للدول الأعضاء الموقعة عليه.

حيث تم تقسيم الحقوق الواردة في مواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان حسب أصناف هذه الحقوق، إذ نجد العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.

منع الاستعباد والتجارة في الرق قد ظهر في تونس، أولًا في عهد أحمد باشا باي في 1846 قبل قرن تقريبًا من صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان

وبما أن أساس الكرامة البشرية -كما هو متفق عليه وكما سبق وذكر في ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان- هو العدل والحرية والسلام، فإن حرية الإنسان تنطلق من كونه سيد نفسه وأن الأصل في الإنسان هو الحرية.

وإن عدنا إلى التاريخ القريب ونظرنا في التشريعات الوضعية الموجودة، فسنجد أن منع الاستعباد والتجارة في الرق قد ظهر في تونس، أولًا في عهد أحمد باشا باي من خلال أمر علي متعلق بإلغاء الرق والصادر في 23 جانفي 1846 -تقريبًا قبل قرن من صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان- ويليه أمر عليّ يجمع بين كافة الأحكام المتعلقة بإبطال العبودية في المملكة التونسية ويوحدها في الأمر الصادر بتاريخ 29 ماي 1890 حيث ينص الفصل الأول من هذا الأمر على أنه:

"لا عبوديّة بمملكتنا ولا يجوز وقوعها فيها، فكلّ إنسان حرّ مهما كان جنسه أو لونه ومن يقع عليه ما يمنع حريّته أو يخالفها، فله أن يرفع أمره للمحاكم".

العبودية اليوم اتخذت أشكالًا أخرى مغايرة تمامًا لما كانت عليه، فاليوم لا نشتري عبدًا من السوق بمنطق البيع والشراء السائد، بل تغيرت لتصبح من قبيل الجرائم المنظمة

ويصادف اليوم 23 جانفي/ يناير 2023 مرور 177 عامًا على صدور أول وثيقة تشريعية ترمي إلى إلغاء العبودية والرق في العالم والتي انطلقت من تونس لتُعلي من قيمة كرامة الذات البشرية، نظرًا لما مسّ العبيد في ذلك الوقت من سوء معاملة، حسب ما جاء في نص الأمر العليّ الموجه إلى علماء مشائخ ومفتي تونس "فإنّه ثبت عندنا ثبوتًا لا ريب فيه أن غالب أهل إيالتنا في هذا العصر لا يحسن ملكية هؤلاء السودان".

وكانت هذه الوثيقة المنطلق التشريعي الأساسي لإلغاء العبودية، وغلق أسواق النخاسة وفتح الأبواب أمام مستقبل جديد يحترم الإنسان.  

هذا على مستوى تاريخ التشريع التونسي، أما اليوم، فالواقع والأعداد تقول خلاف ذلك.

 حيث إن العبودية اليوم قد اتخذت أشكالًا أخرى مغايرة تمامًا لما كانت عليه، فاليوم لا نشتري عبدًا من السوق بمنطق البيع والشراء السائد، فندفع لبائعه مالًا لقاء عبد يقدم لنا خدمات مثل الفلاحة والأعمال المنزلية، بل تغيرت لتصبح من قبيل الجرائم المنظمة.

ويُعرّف المشرّع التونسي الاتّجار بالبشر في المطة الأولى من الفصل الثاني لقانون مكافحة الاتجار بالأشخاص على أنه:

"الاتجار بالأشخاص: يعد اتجارًا بالأشخاص استقطاب أو تجنيد أشخاص أو نقلهم أو تنقيلهم أو تحويل وجهتهم أو ترحيلهم أو إيوائهم أو استقبالهم باستعمال القوة أو السلاح أو التهديد بهما أو غير ذلك من أشكال الإكراه أو الاختطاف أو الاحتيال أو الخداع أو استغلال حالة استضعاف أو استغلال نفوذ أو تسليم أو قبول مبالغ مالية أو مزايا أو عطايا أو وعود بعطايا لنيل موافقة شخص له سيطرة على شخص آخر وذلك بقصد الاستغلال أيا كانت صوره سواء من طرف مرتكب تلك الأفعال أو بوضعه على ذمة الغير لاستغلاله.

ويشمل الاستغلال استغلال بغاء الغير أو دعارته أو غيرها من أشكال الاستغلال الجنسي أو السخرة أو الخدمة قسرًا أو الاسترقاق أو الممارسات الشبيهة بالرق أو الاستعباد أو التسول أو نزع الأعضاء أو الأنسجة أو الخلايا أو الأمشاج أو الأجنة أو جزء منها أو غيرها من أشكال الاستغلال الأخرى".

عدد ضحايا الاتجار بالأشخاص قد بلغ 1100 حالة في سنة 2021 وفق تقرير أعدّته الهيئة الوطنية لمكافحة الاتّجار بالأشخاص

وفي إطار التعاون الدولي في مجال مكافحة الاتجار بالأشخاص، ولما توجبه الاتفاقيات الدولية والإقليمية المصادق عليها من طرف الدولة التونسية، ولغاية الحد من هذه الجرائم التي تمس من كرامة الذات البشرية، فقد تم تنظيم مكافحة هذه الظاهرة في تونس بالقانون الأساسي عدد 61 لسنة 2016 مؤرخ في 3 أوت 2016 يتعلق بمنع الاتجار بالأشخاص ومكافحته .

وقد أوجد هذا الإطار التشريعي بدوره إطارًا مؤسساتيًا يُعنى بالعمل على استراتيجية وطنية لمكافحة ظاهرة الاتجار بالأشخاص والوقاية منها ورسم آليات لحماية ضحايا الاتجار بالأشخاص والبحث في سبل نشر الوعي بخصوص هذه الجرائم، وهذا الإطار المؤسساتي هو الهيئة الوطنية لمكافحة الاتجار بالأشخاص.

فكيف يمكن إذًا تقييم واقع الأرقام المرتبطة بمكافحة هذه الظاهرة في ظل التطور التشريعي والمؤسساتي الذي مرت به البلاد التونسية في هذا المجال؟

نسبة الاستغلال الاقتصادي وتعريض الطفل للتسول استأثر بالنسبة الأكبر بـ 206 حالات مقابل 104 حالات استغلال جنسي وفق تقرير هيئة مكافحة الاتّجار بالأشخاص

لقد نُشر في 6 سبتمبر/ أيلول من سنة 2022،  تقرير وطني حول الاتجار بالأشخاص لسنة 2021 تم إعداده من طرف الهيئة الوطنية لمكافحة الاتّجار بالأشخاص بمشاركة عدد من هياكل الدولة على غرار وزارة العدل ووزارة الداخلية ووزارة الصحة، يتضمن هذا التقرير خمسة محاور أساسية متمثلة في رصد حالات الاتجار بالأشخاص في تونس سنة 2021،، الوقاية من هذه الجرائم، حماية ضحايا الاتجار بالأشخاص، مكافحة كل أشكال الاتجار لتنتهي إلى خلق أطر عمل مشتركة وتوصيات الهيئة في هذا الإطار.

وفي قراءة برقية للمعطيات والأرقام المقدمة في تقرير الهيئة، نجد أن عدد ضحايا الاتجار بالأشخاص قد بلغ 1100 حالة في سنة 2021، حيث حسب المعطيات المقدمة من وزارة الداخلية فإن عدد الضحايا الواقع التعرف عليهم هو 304 أشخاص موزعين حسب نوع الجريمة كالآتي: الاستغلال الجنسي 24 حالة، التشغيل القسري 79 حالة، الاستغلال الاقتصادي للأطفال 177 حالة، استخدام طفل في أنشطة إجرامية 10 حالات، حالات أخرى غير محددة 14 حالة.

 وارتكز التقرير على الإحصائيات المقدمة من طرف مندوبي حماية الطفولة والذي ورد فيه أنّ نسبة الاستغلال الاقتصادي وتعريض الطفل للتسول قد استأثر بالنسبة الأكبر بـ 206 حالات مقابل 104 حالات استغلال جنسي.

هيئة مكافحة الاتجار بالأشخاص تهدف إلى بلوغ الفئة 1 في سنة 2025 والذي يشمل حكومات الدول التي تلتزم بشكل تام بالحد الأدنى لمعايير قانون حماية ضحايا الاتجار بالأشخاص

أما بالنسبة لعدد الإشعارات الواردة على الهيئة الوطنية لمكافحة الاتجار بالأشخاص فقد بلغ العدد إجمالًا 653 حالة وزعت كالآتي: 76٫9% من الضحايا نساء و26٫4% أطفال كما أن أغلب الضحايا من الأجانب بنسبة 82% ويشكل المواطنون الإيفواريون منهم النسبة الأكبر 64% من مجمل عدد الضحايا المسجلين لدى الهيئة سنة 2021 أي ما يقابل 417 حالة.

 

 

وبعد عرض هذه الأرقام، نرى أن تونس ورغم الجهود التشريعية المبذولة، فإنها مازالت تتأرجح في التموقع العالمي في مجال مكافحة الاتجار بالبشر بين "قائمة المراقبة من الفئة 2" و"الفئة 2".

والمقصود بالفئة 2 هو حكومات الدول التي لا تلتزم بشكل تام بالحد الأدنى من المعايير المنصوص عليها في قانون حماية ضحايا الاتجار بالأشخاص، ولكنها تبذل جهودًا كبيرة لتحقيق الامتثال لتلك المعايير.

أما قائمة المراقبة من الفئة 2 ينطبق عليها التعريف نفسه، مع اشتراط وجود عدد من العناصر منها أن يكون عدد الضحايا كبير جدًا أو في ارتفاع ملحوظ.

الرهان المحمول على عاتق الحكومة التونسية اليوم هو معاضدة الجهود الدولية في مكافحة آفة الاتجار بالبشر وكذلك الارتقاء بالتصنيف من الفئة الثانية إلى الفئة الأولى

وبناءً على ما تقدم فإن الهيئة الوطنية لمكافحة الاتجار بالأشخاص تهدف إلى بلوغ الفئة 1 في سنة 2025 والذي يشمل حكومات الدول التي تلتزم بشكل تام بالحد الأدنى لمعايير قانون حماية ضحايا الاتجار بالأشخاص المتعلقة بالقضاء على الاتجار بالأشخاص.

وما يضمن تحقيق هذا الهدف في المجال التشريعي، نجد العمل على حسن تطبيق القانون في تتبع المتورطين في هذه الجرائم ومعاقبتهم، وكذلك إتمام الاتفاقيات والإقليمية والسعي لتطابق التشريعات الوطنية مع المعايير الدولية وذلك بإدراج "الطفل ضحية جرائم الاتجار بالأشخاص" بمجلة حماية الطفل على غرار آلية الطفل المهدد.

كما نجد تركيز آليات مستحدثة، كأنظمة معلوماتية لمعالجة البيانات المتعلقة بالضحايا مما يسهل التعرف على الضحايا، ويحمي معطياتهم الشخصية في الوقت نفسه، فضلًا عن نشر الوعي المجتمعي والعمل على إدراج ثقافة مكافحة الاتجار بالأشخاص في البرامج الدراسية، وكذلك العمل على نشر الوعي بمثل هذه الجرائم وواجب مكافحتها والوقاية منها عن طريق التعاطي الإعلامي ونشر المحتويات الهادفة والجادة.

إذًا، فالرهان المحمول على عاتق الحكومة التونسية اليوم هو معاضدة الجهود الدولية في مكافحة هذه الآفة وكذلك الارتقاء بالتصنيف من الفئة الثانية إلى الفئة الأولى وتكريس الوعي بخطورة جرائم الاتجار بالأشخاص وسبل الوقاية منها لاسيما وأن تونس كانت من الدول السباقة في هذا المجال.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"