عودة لتجذير موقف الفاعل التونسي تجاه القضية الفلسطينية من جهة، وفرصة لرصد تطوّر النشاط الصهيوني في الأراضي الفلسطينية منذ وعد بلفور وحتى نشأة دولة الاحتلال من جهة أخرى، هما العنوانان العريضان لكتاب "تطوّر الخطاب السياسي في تونس تجاه القضية الفلسطينية قبل الاستقلال 1920-1955" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات) لمؤلفه عبد اللطيف الحناشي، الأكاديمي التونسي المختصّ في التاريخ المعاصر.
اهتمام التونسيين بالقضية الفلسطينية تمظهر بالمشاركة الكثيفة في "لجان الدفاع عن فلسطين"
يحمل الكتاب إعادة سرد تاريخي للقضية العربية الأمّ منذ أولى لبنات الاحتلال، وصولًا لما بعد تأسيس دولته على ضوء رصد الخطاب السياسي التونسي من مضامين القضية الفلسطينية وتحليله. وبذلك لن يجذب فقط الكتاب المهتمّ برصد تطوّر الخطاب التونسي قبل الاستقلال، بل كذلك المهتمّ بالغوص في أحفوريات القضيّة، خاصة وأن الكاتب اعتمد خطًا كرونولوجيًا في كتابه من جهة، واستند على مضامين تفصيلية مرتبطة بتطّور النشاط الصهيوني، أي اعتمد استخلاصًا على التحقيب حسب القضية المركز لرصد خطاب الفاعل الثانوي.
اقرأ/ي أيضًا: المخيم ومضاعفة النكبة
ولعلّ في هذا المجهود الأكاديمي وجهًا من وجوه الالتزام تجاه القضية التي يفترض إحياؤها ألا تموت بحثًا مهما كُتب عنها. ولذلك وجه الحناشي إهداءً في مستهلّ عرضه لمن "ناضلوا في صفوف المقاومة الفلسطينية في مواقع مختلفة".
بيد أن الاعتبارات التي أثارت الباحث زادت عن هذه الحقيقة المؤسّسة نحو ثلاث حقائق أخرى عدّدها الباحث، وهي أولا اهتمام التونسيين الشديد بالقضية الفلسطينية وهو ما تمظهر منذ المشاركة الكثيفة في "لجان الدفاع عن فلسطين"، وهو اهتمام تزايد تباعًا خاصة مع استضافة تونس لمنظمة التحرير في الثمانينيات، وثانيا وجود أقلية يهودية، أما الحقيقة الثالثة تتعلق بالعلاقات المميزة بين الحبيب بورقيبة والمؤتمر العالمي اليهودي خاصة وأن بورقيبة من أوائل من طالبوا بالاعتراف بـ"إسرائيل". وأشار الحناشي، في الواقع، لنقطة أخرى استثارته لطرق هذا المبحث هو تغييب مسألة تفاعل شعوب المغرب العربي مع القضية الفلسطينية لحساب بلاد الشام ومصر، ولعلّه هذا الاعتبار يرتبط أشدّ ارتباط بعنصر الالتزام الأول المُشار إليه.
إنّ ما يُنوّه في هذا الكتاب هو اعتماد منهجية صارمة، تبين منذ مقدمته التي حرص فيها المؤلف على الالتزام بأعلى درجات مستلزماتها. وقد أشار فيها الباحث لبعض الصعوبات البحثية المتمثلة بندرة البيانات التي صدرت عن الأحزاب والمنظمات في شأن القضية الفلسطينية، وهو ما أرجعه لنقص الأدبيات السياسية مقابل كثافة المادة الصحفية.
في الجزء الأول للكتاب الذي يرصد تطور الخطاب السياسي من 1920 إلى 1939، أي منذ تاريخ تأسيس أول حزب تونسي إلى بداية الحرب العالمية الأولى، تمّت الإشارة لما ذهب إليه باحثون حول تأخر اهتمام الخطاب التونسي بالقضية الفلسطينية، حيث لم يتبلور هذا الاهتمام إلا بعد ثورة البراق سنة 1929، وهو ما لا يصادق عليه الكاتب. حيث كشف الحناشي بأن الصحافة التونسية تابعت بكثافة معركة يافا سنة 1921، وأوردت عنها معلومات غزيرة بما يكشف عن العناية بالمسألة الفلسطينية في الداخل التونسي المحتل حينها.
الخطاب التونسي المعني بالقضية الفلسطينية لم يتبلور إلا بعد ثورة البراق
ولكنه يعزي عوامل تأخر إدراك الخطاب للقضية الفلسطينية لالتباس المفاهيم من حيث ربط الاستيطان بفك الارتباط بالدولة العثمانية، إضافة لركود الحركة الوطنية في الداخل الفلسطيني والاهتمام بالشأن التونسي المحلي، بيد أنه تصاعدت لاحقًا عوامل ساهمت في الوعي بالقضية. ويتصدر هذه العوامل الجدل سنة 1923 حول قانون تجنيس اليهود في تونس، حيث شجّعت الحركة الصهيونية تجنيسهم كفرنسيين، إضافة للدور الإيجابي للطلبة التونسيين في فرنسا في التأثير على الخطاب خاصّة بعد مخالطتهم للطلبة العرب من مصر والشام.
اقرأ/ي أيضًا: رحيل سلمان الناطور.. النكبة من منظورها الشخصي
وغاص الكاتب في معطى أهمية الكثافة السكانية لليهود في تونس وتمثله كأرضية لانتشار الخطر الصهيوني، حيث اتسع هذا الخطر تباعًا مع تدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لليهود في تونس، مع الإشارة الدائمة لثقلهم التجاري في اقتصاد البلاد. ولذلك، تعد تونس من أكثر البلدان التي وجدت فيها الحركة الصهيونية مجالًا للنشاط والإشعاع.
ويلحظ الكاتب، في نفس الإطار، محدودية تفاعل اليهود التونسيين مع القضايا الوطنية وندرة انخراطهم في الأحزاب والمنظمات، حيث يعتبر أن أغلبية النخبة اليهودية التونسية انحازت للإدارة الاستعمارية. وقد قامت النخب السياسية والثقافية بالتصدي للخطاب الدعائي الصهيوني فكريًا وسياسيًا، إضافة للتصدي للنشاط المالي الصهيوني. وفي تناول التصدي، يسرد الكاتب واقعة تنظيم مظاهرة رفضًا لزيارة داعية صهيوني إلى تونس سنة 1932 مما حدا بالاحتلال الفرنسي لإلغاء هذه الزيارة، لتكون أول تحرك تونسي من نوعه لدعم القضية الفلسطينية.
ثم وفي استعراض تطوّر الخطاب منذ الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال الداخلي سنة 1955، تعرّض الحناشي للمواقف من حلول التسوية المقترحة بداية الأربعينيات وتحديدًا مشروع الأمير عبد الله لسوريا الكبرى، حيث تم رفضه تونسيًا. وقد قدم الحبيب بورقيبة وقتها مذكرة باسم دول شمال أفريقيا إلى لجنة التحقيق الأنجلو-أمريكية اعتبر فيها أن "حل القضية اليهودية في أوروبا وليس في فلسطين". وبين الكاتب إجماع الخطاب التونسي لاحقًا على إدانة قرار التقسيم، وإن اعتبر بأن الخطاب استخدم مفردات وأحكام قيمية غير سياسية حيث لم تصل الرؤية إلى بناء خطاب تحليلي، مع الإشارة لشذوذ موقف الحزب الشيوعي التونسي الذي ساند قرار التقسيم واعتبره "أحسن وسيلة لمحق الاستعمار". وفي معرض الطرافة يستعرض الكاتب تحليل من اعتبر أن التقسيم بمنزلة فخ لليهود لأن قوتهم تبرز في تشتتهم.
وتتابعًا كرونولوجيًا، استعرض الكاتب الموقف من حرب 48 ومن ثم أثر النكبة حيث كشف عن تعاطف التونسيين مع الفلسطينيين وعن تبنيهم للقضية بالكامل من دون تحميل الفلسطينيين مسؤولية ما حدث.
تونس هي الدولة الوحيدة من خارج دول الطوق التي استقبلت منظمة التحرير في الثمانينيات
وفي فصل لاحق، يتحدث الحناشي عمّا أسماه فتور اهتمام الخطاب بالقضية الفلسطينية وبداية "الغزل" مع الحركة الصهيونية. واستدرك الكاتب بداية بالإشارة لتمييز الخطاب التونسي بين الصهاينة واليهود التونسيين حيث أكد الفاعلون السياسيون والمدنيون على وطنية اليهود التونسيين رغم أن الرأي العام الشعبي كان مناهضًا لهم. ومن مظاهر العلاقة الجيدة مع اليهود التونسيين هو سماح بورقيبة في إحدى الاجتماعات ليهودي تونسي بإلقاء كلمة تحت حراسة شباب الحزب الدستوري ممن كان عدد منهم في فلسطين سنة 1948، وهي واقعة أراد من خلالها الكاتب إبراز عمق التمييز داخل الخطاب التونسي بين الصهاينة واليهود، بيد أن الخطاب التونسي حقيقة استسلم، في جانب آخر عنده، لهزيمة 48 لتتمظهر لاحقًا الاستعدادات لإقامة علاقات مع الكيان الصهيوني.
اقرأ/ي أيضًا: 68 نكبة.. ونكبة
وينتهي الكاتب للتأكيد بأن عملية تفكيك الخطاب السياسي في تونس تجاه القضية الفلسطينية والقضايا المرتبطة بها، لم تكن متجانسة في كثير من المسائل، كما أن أهداف النشاط لمصلحة القضية وانطلاقًا من تلك الرؤى لم تكن بالحماسة نفسها أيضًا.
ولعلّ الكتاب يمثّل أرضية تمهيدية لطرق مبحث الخطاب التونسي بعد الاستقلال بالقضية الفلسطينية، خاصة وأن تونس، مقارنة بجيرانها، حافظت على علاقة ذات صبغة تمييزية بالقضية ومتعلقاتها بعد استقلالها، فالحبيب بورقيبة أول رئيس لتونس دعا لقبول قرار التقسيم في الستينيات في خضم الصراع العربي الصهيوني، وتونس هي الدولة الوحيدة من خارج دول الطوق التي استقبلت منظمة التحرير في الثمانينيات، إضافة إلى ذلك ربط لاحقًا النظام التونسي علاقات مميزة مع الكيان الصهيوني منذ التسعينيات وحتى اندلاع الثورة العربية في كانون الأول/ديسمبر 2010.
اقرأ/ي أيضًا: