غادرت البيت في اتجاه محطّة 14 جانفي (7 نوفمبر سابقًا). كان الجوّ باردًا في تلك الساعة المبكّرة من الصباح، وقد امتلأت المحطّة بالفعل بالمسافرين. كانت هناك حافلة لا تحمل رقمًا ولا وجهة. ركض العشرات نحوها ووجدتني أركض خلف شابة مسرعة بدورها لأستوقفها وأسألها "هل هذه هي الـ514؟".
بعد ذلك، جاءت حافلتان كلتاهما أيضًا لا تحمل لافتة تدلّ على وجهتها. بالنسبة لشخص يمكنه النطق، يبدو السؤال عن وجهة الحافلة أمرًا هيّنًا وإن كان تكراره مرهقًا. لكن ماذا لو أنّ السائل كان عاجزًا عن النطق؟ هل سيتمكّن من التواصل بسهولة مع بقية المسافرين ليعرف أيّ الحافلات يركب؟ في الحقيقة، يبدو هذا التساؤل بعيدًا كل البعد عن الواقع. فكلّ الحافلات التي رأيت ذلك الصّباح كانت غير مهيّئة لنقل ذوي الإعاقة أيّا كان نوعها.
المسافرون ينتظرون الحافلة
اقرأ/ي أيضًا: "الكوفواتيراج" في تونس.. "إذا أوقفتنا الشرطة سنقول إننا أصدقاء"
جاءت حافلتي، رأيتها تتهادى من بعيد عبر الطريق الجهوية رقم 21 (Route X)، وقد سألت بائع التذاكر وأكّد لي أنّها الـ514. تنطلق هذه الحافلة من أكثر الأحياء التونسية كثافة سكّانية، وهو حيّ التضامن، في اتّجاه المنطقة الصناعية بالشرقية، مرورًا بوسط مدينة أريانة. وإذا أردت معرفة واقع النقل داخل تونس الكبرى، فإنّ الـ514 هي خيارك الأمثل.
توقّفت الحافلة وفتح بابها الخلفيّ فهجم عليها المسافرون. في ثواني معدودات، تناهت إلى مسمعي العبارات التقليدية لتجربة النقل العمومي التونسي "قدّم القدّام... الوسط فارغ" و"قدّم يرحم بوك... خلّينا نركبو معاك". كان عدد من الركاب يحاولون التشبّث بركاب آخرين أو بعمود الباب ليضمنوا موطئ قدم داخل الحافلة. تردّدت كثيرًا قبل الانضمام إليهم لكنّ الحافلة الّتي قدمت ممتلئة بالفعل من محطّة انطلاقها، سرعان ما بدأت في التحرّك. وقبل أن تبتعد، كنت قد اتّخذت قراري وأسرعت لامتطائها متشبّثة بساعد طفل راكب في الباب.
الـRoute x حوالي الساعة السابعة وخمس وثلاثين دقيقة. عدد لا يحصى من السيارات والحافلات والشاحنات تكاد تكون متلاصقة بشكل مخيف. كانت الـ514 تسير مسرعة ببابها الخلفيّ المفتوح. في ذلك الباب، المشرّع على خطر الموت، كنت أقف رفقة ثلاثة تلاميذ وسيدة عجوز وشابّين اثنين. تركت ساعد الطفل وتشبّثت بعمود الباب، وسمعت السيدة العجوز من خلفي تقول لطمأنتي "ما تخافيش بنيّتي هاني شادّاتك" (لا تخافي يا ابنتي، إنّني أمسك بك). لم أكن قادرة على الالتفات لشكرها وبدا لي غاية في الإنسانية أن تقلق سيدة في مثل سنّها لأمري والحال أنّنا "في الهوى سواء". كان التلاميذ يتحدّثون عن دروس الأمس، ويضحكون غير مبالين بوضعية ركوبهم "خارج الحافلة" كما لو أنّهم اعتادوا الأمر.
سألت التلميذ الذي كنت أتشبّت به والّذي كان منحنيًا إلى الأمام بشكل مبالغ فيه "ما تخافش تطيح؟" (ألا تخشى السقوط؟) فأجابني ضاحكًا "تي نورمال... كلّ يوم هكّة أحنا" (عادي... هذا حالنا كلّ يوم).
انطلقت الحافلة والأبواب مفتوحة
بعد ثلاث محطّات من الوقوف في باب الحافلة، تمكّنت أخيرًا من ركوبها فعليًا. وجدتني أنا والسيدة العجوز التي كانت تمسكني من الخلف وجهًا لوجه، وكانت التجاعيد تملأ وجهها النحيل. سألتها إلى أين هي ذاهبة؟ فأخبرتني أنّها تشتغل في معمل لصنع مواد تحضير الحلويات. تركب الحاجّة "نعيمة" الحافلة رقم 514 منذ أكثر من 7 سنوات للذهاب إلى عملها في الشرقية. كثيرًا ما تصل متأخّرة إلى عملها نظرًا إلى تأخّر الحافلة أو عجزها عن ركوبها بسبب الاكتظاظ. وفي مرّات عديدة، كانت الحافلة تخرج من محطّة "التضامن" في وقتها بالفعل قبل أن تتعطّل في محطّة "الانطلاقة".
في السنوات الأخيرة، قام متساكنو "حيّ الانطلاقة" بقطع الطريق مرارًا على الحافلة رقم 514 ومنعها من دخول المحطة أو مغادرتها بسبب وصولها ممتلئة بالفعل من "التضامن". وتقول الحاجّة "نعيمة" إنّ سائقي الحافلة كثيرًا ما يتعمّدون المرور بمحطّة "الانطلاقة" دون التوقّف فيها. وكانت شركة نقل تونس قد تعهّدت بتلافي النقص المسجّل في الحافلات والزيادة في عدد السفرات، غير أنّ العدد لا يبدو كافيًا لنقل تلك الأعداد الغفيرة من العملة والطلبة يوميًا خاصّة في مواعيد الذّروة الصباحية.
تعهدت شركة نقل تونس بتلافي النقص المسجل في الحافلات والزيادة في عدد السفرات لكن لا تزال المعاناة ذاتها تستمرّ كل يوم
اقرأ/ي أيضًا: 7 مواقف طريفة يعيشها حرفاء التاكسي في تونس
في رحلة العودة من الشرقية، كانت الحافلة فارغة إلاّ من نحو 5 ركّاب. وتعرّفت خلالها على "كحلة"، وهي سيّدة تعمل في إحدى الشركات كعون تنظيف. تصل "كحلة"، اسم يناديها به أفراد عائلتها، إلى عملها على الساعة السادسة وتغادره قرابة العاشرة. تنظّف المكاتب قبل قدوم الموظّفين وتعدّ القهوة لمديرتها لقاء راتب شهري زهيد. التحقت محدّثتي بعملها قبل عام بعد سنوات من البطالة، وهي تأمل أن تتمتّع بالترسيم قريبًا.
ركبت "كحلة" الحافلة دون دفع ثمن التذكرة، قالت لي بصراحة "أفعلها كثيرًا، فقد أركب وأخبر السائق أنني غير قادرة على دفع معلوم الركوب. هم يعرفون أنّني زوّالية (فقيرة)". لـ"كحلة" ابن يدرس في أحد المعاهد الثانوية وسط العاصمة وتفضّل أن تؤمّن له هو ثمن الاشتراك الشهري في الحافلة والميترو كي لا يتعرض إلى المضايقة أو "تطييح القدر" كما تقول. لكنّها تعرف أنّ ابنها، الذي لا "يرسكي"، كثيرًا ما يضطرّ إلى الركوب في باب الحافلة المفتوح لأنّها كالـ514 تخرج من محطّتها ممتلئة بالفعل. وتضيف متسائلة: "مانيش فاهمة علاش يسيّبوا الكيران بعد ما الناس الكل تشدّ بيرواتها ومكاتبها ووقت الي نحتاجوهم الصباح ما نلقوهمش" (لا أفهم لما تخرج الحافلات بعد أن يكون الجميع قد التحقوا فعلاً بمكاتبهم أو مدارسهم ولكننا لا نجدها وقت الذروة الصباحية).
تتحدّث "كحلة" هنا عن سوء توزيع لسفرات الحافلة، فهي كمعظم ركّاب الـ514 ترغب في توفّر مزيد من الحافلات في الصباح لتأمين نقل المسافرين ووصولهم إلى عملهم أو مدارسهم في الموعد. وإذا كانت سفرات الـ514 غير كافية في ساعات الذروة الصباحية، فإنّها شبه منتظمة خلال ساعات النهار المتبقية. كما أنّ خروج الموظفين في ساعات مختلفة يجعل من الحافلة غير مكتظّة بنفس الكيفية مساءً.
يطالب ركاب الحافلة رقم 514 بتوفير أسطول كاف من الحافلات لكي لا تتعطل مصالحهم خاصة في أوقات الذروة الصباحية
تأمين رحلات إضافية خلال ساعات الصباح المبكّرة إذًا، هو مطلب ركّاب الحافلة رقم 514. مطلب يبدو بسيطًا لكنّه أمام تعطّل عدد كبير من الحافلات المكوّنة لأسطول شركة نقل تونس والمودعة في مستودعات مختلفة تنتظر قطع الغيار والتصليح، يكاد يكون صعب المنال. وفي الأثناء، يستمرّ الأطفال، تلاميذ المعاهد الإعدادية والثانوية، والطلبة والعملة من شرائح عمرية مختلفة، في التنافس كلّ صباح على إيجاد موطئ قدم داخل الحافلة يحميهم من الاضطرار إلى خوض رحلة التضامن- الشرقية وقوفًا في باب مفتوح.
اقرأ/ي أيضًا: