مقال رأي
في سنة 1937، سافر فيفل "بولكس"، عميل منظمة "الهاجاناه" الإرهابية الصهيونية إلى برلين في زيارة عمل. كان الهدف من الزيارة التي تزامنت مع تصاعد الهجمات ضد العرب وتنامي الاستيطان اليهودي الخارجي في فلسطين، الالتقاء مع ممثلين للحكومة الألمانية للتفاوض حول بعض المسائل المتعلقة بدعم الوجود اليهودي وتوفير إمكانيات عمل أكثر نجاعة للمنظمات الصهيونية العاملة هناك.
كان من ضمن من التقاهم العميل آنذاك زعيم "الأس أس"، أيخمان، حيث شكره باسم منظمته على مسدسات "الموزر" والذخائر التي أهدتها الحكومة الألمانية "للهاجاناه" في الفترة من 1933 إلى 1935. كان العميل ينقل أيضًا دعوة شخصية لكل من "أيخمان" و"هربرت هاجن" لزيارة المستوطنات في فلسطين وقد تمت هذه الزيارة فعلًا حيث أخذهما "بولكس" إلى جبل الكرمل لزيارة كيبوتز نموذجي. سيقول "أيخمان" متحمسًا غداة هذه الزيارة "لو تسنى لي أن أكون يهوديًا، لكنت الصهيوني الأكثر حماسًا".
هناك جينات ألمانية أكيدة في المشروع الصهيوني، وهي جينات عنصرية واستعمارية خالصة، لا تزال تفعل فعلها اليوم. هذا ما يفسر الالتزام الألماني الذي كان رائدًا مقارنة ببقية الدول الأوروبية بإنجاح الاستيطان اليهودي في فلسطين
في الحقيقة، كان الكيبوتز الذي استعد لاستقبال القائدين النازيين كيبوتزًا ألمانيًا أنشأه مستوطنون من يهود ألمانيا بمقتضى المعاهدة التي أمضتها المنظمة الصهيونية مع حكومة هتلر في أوت/أغسطس من سنة 1933، والتي بقيت سارية حتى عام 1939. بمقتضى هذا الاتفاق (معاهدة هافارا)، ستقوم الحكومة الألمانية بتحويل أموال المهاجرين اليهود التي بقيت في ألمانيا، إليهم في فلسطين، وهو ما سيسمح بأن تمثل هذه التحويلات نسبة ستين بالمائة من كل الرأسمال المستثمر في استيطان اليهود في فلسطين طيلة السنوات الستة التي تم فيها تنفيذ بنود المعاهدة. كانت هذه المعاهدة قد سمحت أيضًا بهجرة خمسين ألف يهودي ألماني إلى فلسطين، وهو ما كان يمثل عشر عدد اليهود الألمان.
كان المهاجرون من يهود ألمانيا قد بدؤوا في القدوم إلى فلسطين منذ أواخر القرن التاسع عشر، في سياق محاولات التوسع الإمبريالي الألماني التي تزامنت مع مجازر راح ضحيتها مئات الآلاف من الأفارقة في ناميبيا وتنجانيقا بين 1891 و1898. قبل ذلك، ومع فشل محاولات توطين اليهود الألمان في بولونيا التي كانت ألمانيا تريد تنظيفها عرقيًا في سياق صراعها مع روسيا، كان عدد من اليهود القادمين من ألمانيا، ومن المستوطنات الألمانية الفاشلة في بولونيا، قد بدؤوا في التوافد إلى فلسطين بتشجيع من الحكومة الألمانية. وهكذا تأسست أول المستوطنات اليهودية في 1866 قرب الناصرة، والثانية في 1869 في ضواحي حيفا وثلاث أخرى في الفترة ذاتها منها مستوطنة "رافاييم"، قرب القدس.
كانت ألمانيا تسبق الجميع في دعمها للكيان الصهيوني الناشئ في فلسطين، منذ سنة 1948 وقد كانت المصانع الألمانية تمد العصابات الألمانية التي ستؤسس دولة إسرائيل بأكثر من حاجتها دومًا من الأسلحة
هناك اعتقاد منتشر بتضارب المصالح بين ألمانيا النازية وبين الحركة الصهيونية والاستيطان الصهيوني في فلسطين، وهو بالنسبة للعارفين خطأ شائع. إن معاداة النازية وحركة اللاسامية الأوروبية والألمانية بالخصوص كانت موجهة لليهود الموجودين بأوروبا، حيث كانت هناك قناعة بأنهم يعيقون وحدة الدولة القومية الأوروبية التي نشأت على أساس العرق والأرض والتاريخ المشترك، مثلما ستفعل الحركة الصهيونية تمامًا عندما ستبدأ نشاطها نهاية القرن التاسع عشر.
هناك جينات ألمانية أكيدة في المشروع الصهيوني، وهذه الجينات عنصرية واستعمارية خالصة، لا تزال تفعل فعلها اليوم. هذا ما يفسر بكل تأكيد الالتزام الألماني الذي كان رائدًا مقارنة ببقية الدول الأوروبية بإنجاح الاستيطان اليهودي في فلسطين، بغضّ النظر عن كل الأفكار الشائعة.
على المستوى القانوني، كان الإسناد الألماني للكيان الصهيوني مبكرًا جدًا، حيث وقع سن أول القوانين التي تحمي "حق إسرائيل في الوجود"، تلك العبارة حمالة الأوجه، والتي ستسمح إلى اليوم بملاحقة كل من ينتقد الكيان بتهمة اللاسامية والإرهاب
كانت ألمانيا تسبق الجميع في دعمها للكيان الصهيوني الناشئ في فلسطين، منذ سنة 1948. لقد كانت المصانع الألمانية تمد العصابات الألمانية التي ستؤسس دولة إسرائيل بأكثر من حاجتها دومًا من الأسلحة، وقد تم ذلك في الستينات والسبعينات بمستوى لا مثيل له، في خضم الحروب مع العرب. على المستوى القانوني، كان الإسناد الألماني للكيان الصهيوني مبكرًا جدًا، حيث وقع سن أول القوانين التي تحمي "حق إسرائيل في الوجود"، تلك العبارة حمالة الأوجه، والتي ستسمح إلى اليوم بملاحقة كل من ينتقد الكيان بتهمة اللاسامية والإرهاب.
هذا أمر لا علاقة له بعقدة الذنب التي لم تعد تمثل اليوم سوى غطاء للحماس الألماني المبالغ فيه بحماية إسرائيل. إنّ عودة الابن الألماني الضال للحضن الأوروبي بعد المرحلة النازية، قد تم في خضم بداية الحرب الباردة، وقد كان الاعتراف بالإبادة ومسحها في عدد من رموز منظمة "الأس أس" (التي كان أيخمان وروبرت هاجن من قادتها)، شرطًا أخلاقيًا وسياسيًا لازمًا لتلك العودة.
كان الأمر ضروريًا لألمانيا ولأوروبا ولكل المعسكر الذي كان قد بدأ في التشكل في مقابل الاتحاد السوفياتي ومعسكره الشيوعي، والذي سيصبح عراب المشروع الصهيوني في فلسطين حتى قبل إعلان تأسيس دولة الكيان في 1948. كان هذا المعسكر في حاجة لإسرائيل وألمانيا في الوقت نفسه، وبذات القوة، وللأهداف ذاتها. غدا كل شيء ما عدا ذلك مجرد تفاصيل تكفلت بها الديبلوماسية.
إن الشركات الألمانية العملاقة التي دعمت هتلر في مذابحه ضد اليهود في أوروبا، والتي مولت مجهوده الحربي منذ الثلاثينات، هي ذات الشركات الأكثر سخاء اليوم مع إسرائيل وأعمال الإبادة التي تحققها اليوم في غزة
إن عملية الاضطهاد التي تنظمها سلطات الدولة الألمانية اليوم ضد كل الأصوات المنددة بحرب الإبادة الصهيونية ضد الفلسطينيين في غزة، تتبع مسارًا عريقًا في القدم، انطلق منذ الستينات بالخصوص، حيث وقعت صياغة القوانين اللازمة لذلك، وتطويرها مع الزمن للحد الذي أصبحت معه الدولة الألمانية الأكثر التزامًا بحماية إسرائيل ليس من أعدائها فحسب، بل من منتقديها الأكثر انفتاحًا أيضًا. كان المشروع الصهيوني في فلسطين منذ البداية مشروعًا ألمانيًا لم تتأثر صلابة جيناته مطلقًا بتطور شبكات التحالف التي بنتها الحركة الصهيونية لاحقًا مع دول أخرى. هناك عنصر قومي ألماني أكيد في هذا المشروع، وهذا العنصر هو من القوة بحيث يمكن أن نفهم تصريح المستشار الألماني منذ أيام بأن أمن إسرائيل جزء أصيل من الأمن القومي لألمانيا.
يخترق هذا الالتزام اليوم كل العائلات السياسية في ألمانيا ليصبح شيئًا مثل عقيدة سياسية وطنية لا خلاف عليها. يحقق ذلك بيئة أمان للدعاية الصهيونية على مستوى العالم، وقاعدة رئيسية للتعاطف مع إسرائيل في الفضاء الأوروبي. يتفق اليمين واليسار والوسط، المسيحي والعلماني على شيء واحد اليوم، وهو أهمية وجود إسرائيل وانتصارها وقوتها واستعادة ردعها ضد العرب ليس في المنطقة فقط، بل في محيطها المباشر وغير المباشر. هذا أمر مستعجل بالنسبة لألمانيا، وللأمن القومي لألمانيا الذي يشمل نفوذها وتجارتها ورؤيتها للعالم.
ومثلما أن نفس الأسس قد بررت في وقت ما تلك المذابح البشعة ضد اليهود في العهد النازي، فهي تبرر اليوم أيضًا المذابح الأكثر بشاعة التي تستهدف الفلسطينيين اليوم في غزة، والدعم الألماني المباشر للاستيطان في الضفة، بما في ذلك الحماية القانونية الدولية التي تسبغها الديبلوماسية الألمانية النشطة على مجرمي الحرب الصهاينة.
نشأت الصهيونية كفكرة في مخبر العنصرية القومية الألمانية أساسًا. بل إنها اتبعت تقريبًا نفس التوجهات ونفذت ذات التطبيقات، من توفير المبرر "الأخلاقي"، إلى الإبادة عبر المذابح المخطط لها
إن الشركات الألمانية العملاقة التي دعمت هتلر في مذابحه ضد اليهود في أوروبا، والتي مولت مجهوده الحربي منذ الثلاثينات، هي ذات الشركات الأكثر سخاء اليوم مع إسرائيل وأعمال الإبادة التي تحققها اليوم في غزة. بل إن المبررات هي نفسها عندما تعمق البحث قليلًا: العنصرية والتفوق وإنكار صفة الإنسانية على أعداء القومية الألمانية والأوروبية المظفرة.
نشأت الصهيونية كفكرة في مخبر العنصرية القومية الألمانية أساسًا. بل إنها اتبعت تقريبًا نفس التوجهات ونفذت ذات التطبيقات، من توفير المبرر "الأخلاقي"، إلى الإبادة عبر المذابح المخطط لها. كما أن هناك بعدًا إنجيليًا بروتستانتيًا واضحًا يدعم هذا التصور العنصري، وهو قديم وعريق في الشخصية والثقافة الألمانيتين.
ما يحدث في فلسطين ليس خطيرًا على المستوطنين فقط، بل على الفكرة العنصرية التي نشأت على أساسها الدولة القومية، وعلى كل تراث التفوق الذي سمحت به تلك الفكرة، والذي يسند اليوم المصالح الأوروبية في العالم والطريقة التي صاغت بها تلك المصالح هذا العالم. هذا هو المعنى الذي أراد المستشار الألماني التعبير عنه، مثل سابقيه تمامًا، عندما ربط أمن إسرائيل بأمن ألمانيا القومي.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"