27-مايو-2018

كيف تغيّر حال المجتمع المدني في تونس؟ (فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

مقال رأي

 

عزيزي المجتمع المدني بتونس، لم نعرف بعضنا بالأمس فقد قضينا أيّامًا وليال طويلة معًا. وأكلنا خبزًا وملحًا وشربنًا كؤوس قهوة كثيرة معًا. صرت أعرفك جيّدًا يا عزيزي وبما يكفي لأجزم أنّك تحتاج إلى زيارة طبيب نفسانيّ.

لست أنت المجتمع المدني الّذي عرفته في لقاءاتنا الأولى. كم كنت كبيرًا في عيني حينها، طويلًا كظلّ نخلة باسقة في جنوبي العزيز، واليوم أراك فقدت كثيرًا من طولك، وإن كان وزنك لم ينقص شيئًا، ربّما لأنّ أكل النّزل شديد الدّسم. لكن انتبه، فاختلال الطول والوزن سيضرّ بصحّتك على المدى المتوسّط والبعيد. خذ ذلك بعين الاعتبار أثناء دراستك للمخاطر المحتملة في طلبات تمويل المشاريع القادمة.

أوّلًا يا عزيزي ولا تنظر إليّ هكذا، فأنا لا أجامل كأفراد حاشيتك ولن تهزمني نظرة الاستجداء في عينيك. لست أمّك لأراك غزالًا حتّى وأنت تتسلّق الأشجار لتجني الثمار وحدك كالقرود. صرت مغروًرا أيّها المجتمع المدني تمشي "في الأرض مختالًا مستكبرًا"، نافخًا صدرك وأنفك في السّماء تظنّ أن قد بلغت الجبال طولًا. كم رسالة عليّ أن أكتب إليك وكم مكالمة فائتة (appel manqué) يجب أن أترك كي تتفضّل أخيرًا وتعاود الاتّصال بي؟ أم تراك نسيت أنّنا ولدنا على نفس الأرض وفي ذات التوقيت ورضعنا حليب الكرامة والحلم معًا؟

أيها المجتمع المدني.. ما عدت أعرفك وأنت تغيّر كلّ ساعة من نفسك وقناعاتك لتواكب التغيّرات في اهتمامات السفارات والمنظمات الدولية

"إن كنت ناسي أفكّرك" أيّها المجتمع المدني أنّنا ولدنا جميعًا ذات 14 جانفي/يناير 2011. جئنا إلى الحياة غرباء وصرخنا معًا "أن نحن هنا"، تنفّسنا جميعًا أوكسجين الثورة المفعم برائحة الغاز المسيل للدموع. رضعنا حليب الأمل من صدر واحد بحجم وطن يتّسع للجميع. خطونا خطواتنا الأولى في نفس التوقيت وإن اختلفت الدّروب لكنّها كانت دائما تلتقي عند محطّة الوصول ذاتها "حريّة التنظّم".

اقرأ/ي أيضًا: تحت غطاء مكافحة الإرهاب.. حملة تضييق على الجمعيات

كم كنت أنظر إليك بعين الإعجاب والإكبار حتّى رأيت انقلابك، ثيابك لم تعد ثيابك، كلامك تغيّر وصرت تحكي بلغة لا أعرفها، مزيج غريب من "العامية" ولغات أجنبية تختلف باختلاف "الجهات المانحة". أفكارك لم تعد أفكارك، صارت تتلوّن كالحرباء بتلوّن "دعوات تقديم مقترحات المشاريع والبرامج" ما عدت أعرفك وأنت تغيّر كلّ ساعة من نفسك وقناعاتك وتوجّهاتك لتواكب التغيّرات في اهتمامات السفارات والمنظمات الدولية. أتعبتني مواكبة تغيّراتك ولم يتعبك تغيّرك المتواصل.

"عبس وتولّى". كم تغيّرت يا عزيزي وصرت تصدّ من يقصدك، كنت تقول في بداياتنا "لا أحبّ المكاتب" وأراك اليوم وقد غدوت توصد باب مكتبك وتطلب من المساعدة الإدارية أن تجيب كلّ من يسأل عنك بـ"إنّه في اجتماع". كنت تقول إنّ "الزمن غير الزمن" وإنّ "المدير" قد رحل دون رجعة ليحلّ محلّه "القائد"، لكنّك لم تلبث "قائدًا" طويلًا حتّى عدت مديرًا كلاسيكيًا يولي ساعات العمل أهمية أكبر من العمل المنجز فعليًا، ويقرّب منه "موظّفًا" واحدًا يقدّم له تقاريرًا "خاصّة" عن بقية الموظفين بدل الحديث معهم بنفسه ومعرفة مشاغلهم وتصوّراتهم وطموحاتهم.

عرفتك أوّل عهدي بك مناضلًا من أجل الكرامة الإنسانية. فمتى وكيف صرت تنتهك كرامة العاملين معك من متطوّعين وموظّفين؟

عزيزي، عرفتك أوّل عهدي بك مناضلًا من أجل الكرامة الإنسانية. فمتى وكيف صرت تنتهك كرامة العاملين معك من متطوّعين وموظّفين؟ أحطت نفسك بكوكبة من الانتهازيين الّذين يزيّنون لك احتقار من هم دونك مرتبة علمية أو اجتماعية، ويقدّمون لك المقترحات والأفكار للتحيّل عليهم واستغلال جهودهم مقابل الحدّ الأدنى. بلاطك صار حاجزًا يحجب عن عينيك شمس الحقيقة، إنّهم "يغلّطونك" إذ يوهمونك بأنّ سرقة أفكار الموظفين والتعامل معهم بجحود وتكبّر آلية من آليات "الإدارة" وأحد التكتيكات الجديدة في مجال "القيادة".

كم كنت أستمع إليك تحاضر عن "حقوق الإنسان" و"محاربة الفساد" فتلتمع عيناي زهوًا وأهتف "الله أكبر". صرت اليوم أسمعك تكرّر نفس العبارات الجوفاء التي يحبّها "المانحون" فأقول "على مراد الله". مات كثير منك في وعيي وفؤادي، علّمتني أنّ حقوق الإنسان لا تتجزّأ لكنّك أعملت فيها سيف قهرك ففصلت الرّأس عن الجسد، صارت جسدًا خاويًا لا روح فيه يحجز له مقعد في الصفوف الأمامية عند كلّ تظاهرة أو حدث ولا يبتسم للكاميرا حفاظًا على "البريستيج". كانت سخريتك كبيرة من "الفيّاسة" وأصحاب "المقام" و"البريستيج"، وصرت منهم فصغرت.

اقرأ/ي أيضًا: في لزوم تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني

عزيزي المجتمع المدني، أين ذهب تسامحك؟ كنت تقول "نحن ألف جمعية وجمعية على قلب واحد". لكنّك حطّمت قلبي بكراهيّتك لمن يختلفون عنك في الفكر والقناعات. رأيتك بعيني ترمق هذا بعين احتقار وذلك بنظرة حسد. سمعتك تقول عن تلك "ماهيش تابعتنا" (ليست منّا) لأنّها تضع حجابًا أو لا تعاقر الخمرة! شهدت انفصالك عن الجسد الكبير، جسدك الّذي منحتك إيّاه ثورة الحرية، لتتكتّل في أجساد صغيرة مشوّهة على قياس أفكارك الضيّقة وقناعاتك السياسية المختلفة وأهواء "المموّلين".

قل لي يا عزيزي، أين ذهبت نزاهتك؟ كيف تحوّلت الجمعية من عقد بين شخصين أو أكثر لتحقيق غاية غير ربحية إلى شركة خاصّة توزّع أرباحها على "المساهمين"؟ كنت تقول "آمل أن يتمكّن كلّ شابّ وشابّة تونسية من الانخراط في جمعية ليشارك في بناء تونس الجديدة". صارت جمعيّاتك "مغلقة" لا تقبل طلبات الانخراط، وصار مؤسّسوها يجتمعون وحدهم ويبرمجون وحدهم وينفّذون وحدهم ليجنوا ثمار المشاريع المادية والمعنوية وحدهم. كم كنت كبيرا بـ"فقرك" وصغرت يوم صار "جيبك" أكبر همّك.

كيف تحوّلت الجمعية من عقد بين شخصين أو أكثر لتحقيق غاية غير ربحية إلى شركة خاصّة توزّع أرباحها على "المساهمين"؟

عزيزي المجتمع المدني بتونس، أكتب إليك لأنّني منك وأنت منّي. فاشرح لي صدرك وتحمّل صراحتي الموجعة. فكما يقول المثل "ما يلوم عليك كان الي يحبّك"، وأنت عزيز مهما حاد بعض أبنائك عن الطريق. فاسمع "مرّ الكلام" الّذي يبغي تعديل بوصلتك ولا تصغي لمديح "سهل ومريح يخدع لكن بيضرّ".

لقد تعبت كثيرًا يا عزيزي وحقّقت إنجازات كثيرة تحسب لك وتستحقّ كلّ تثمين وتقدير، لكنّ النجاح أصابك بشيء من الغرور وتضخّم الأنا، فاسمع منّي وعالج نفسك، "الآن الآن وليس غدًا"، فأنت أمل تونس وشبابها وتونس ما عادت تنتظر.

 

اقرأ/ي أيضًا:

لعبة "البلانات".. الإدمان الخفيّ من أجل الربح السريع

نقاوم ونصمد من أجل أن تفخري بنا يا تونس..